الانتخابات والشرعية والفترات الانتقالية


الانتخابات والشرعية والفترات الانتقالية

قصي همرور

(1)
في نقاش جرى قبل يومين، في منصة فيسبوك، ابتدره الباحث النجيب أواب المصباح، تناولنا تقاطعات بين الانتخابات والشرعية والفترة الانتقالية. ابتدار النقاش كان بخصوص الأطروحة التي قدّمها بعض الفاعلين السياسيين في الساحة حاليا—وهي ان تكون هنالك فترة “ما قبل انتقالية” (لا تتجاوز عاما، أو ستة أشهر، حسب الأطروحات) وظيفتها تجهيز الاوضاع لقيام انتخابات لحكم الفترة الانتقالية، ثم تجرى انتخابات لهياكل حكم الفترة الانتقالية، وفق وثائق حكم وترتيبات انتقالية، ثم تبدأ “الفترة الانتقالية” بمهام انتقالية (أو “تأسيسية” لعهد جديد من الحكم الديمقراطي ودولة المؤسسات). وقبل نهاية الفترة الانتقالية يكون لدينا دستور (دائم)* وتحدث انتخابات جديدة لبداية نظام ديمقراطي. من الحجج الداعمة للأطروحة أن الفترة الانتقالية الحقيقية هي تلك التي يحكمها دستور انتقالي (او ما يشبهه) وليست بالضرورة التي لا انتخابات فيه، إذ يمكن أن تحصل انتخابات وفق دستور انتقالي وتصبح انتخابات فترة انتقالية، أما الفترة ما بعد الانتقالية فهي كذلك لأنها محكومة بدستور دائم.

(2)
ثم جرى نقاش آخر، ضمن نفس النقاش، ابتدره الدكتور محمد الكاروري، حول أهمية سؤال الشرعية في الحكم بالنسبة للسودان، وجاء الحديث عن أن أي جهة تسعى لحكم السودان لفترة ممدودة نسبيا (أكثر من سنة؟) تحتاج لشرعية وإلا ستواجه الكثير من الاعتراض والمناكفة ما سيؤدي إلى ضعف إمكانية التركيز على مهام الحكم الأساسية، ولعل الانتخابات أوضح مسار نحو تلك الشرعية – حتى لو كان انتخابا للمجلس التشريعي فحسب – أو حدوث توافق واسع لحكم مؤقت (انتقالي/تأسيسي) بشروط واضحة.

في هذه المشاركة، سأورد مساهمتي (مع تعديلات وتنقيحات) لعرض وجهة نظري من الحديث الملخص أعلاه (وهو تلخيصي، وبالتالي فلأصحاب المساهمات الحق في تصحيح ذلك التلخيص أو تكميله)، ولتوسعة النقاش الممكن.

(3)
في نظري، أطروحة “الفترة ما قبل الانتقالية” تستحق التداول والنظر. ومأخذي عليها أنها في السودان ستعطينا فترتين انتقاليتين وراء بعضهما، وكل واحدة منهن ستكون معقدة ومليئة بالصراعات، وبدون ضمانات إضافية لإنجاز المهام الانتقالية المطلوبة لتأسيس دولة تنموية ديمقراطية. قد تروق الأطروحة للبعض، لكنها تروق لهم – في نظري – من منطق تجريدي عام وليس بالضرورة مرتبطا بممكنات السودان.

والوصف التجريدي للفترة الانتقالية – الذي أوردناه أعلاه – ربما يصلح في حالات البلدان التي تريد تغيير النظام السياسي لكن لديها مؤسسات دولة كفؤة وإطار انتخابي مقبول (من النماذج المذكورة كانت دولة تونس)، أما السودان، فهذه الشروط لا تتوفر فيه بعد. نحن بحاجة لأن يكون لنا دولة ومؤسسات أولا، ثم إطار معقول للانتخابات ثانيا، ثم تأتي الانتخابات كجزء من باقة متكاملة هي باقة الدولة العصرية ذات النظام الديمقراطي. وفي هذه المعمعة لن يفيدنا التجريد في وصف الفترة الانتقالية بأنها تلك المحكومة بدستور انتقالي، أو . يمكن أن نسمّها أي شيء، لكن الفترة ما بعد إسقاط النظام الحالي، وأثناء عملية استعادة الحد الأدنى من شروط الدولة الكفؤة، ستكون فترة صعبة ومعقدة جدا، سواء سمّيناها انتقالية أو غير ذلك، والانتخابات ليست حلّا سحريا لها.

لننظر مثلا: اذا كان بالإمكان وصف طريقة لتحدبد الدوائر الانتخابية (خصوصا في كامل رقعة السودان بما يشمل المناطق خارج سيطرة السلطة المركزية، بصورة إحصائية مقبولة)، وتنظيم الانتخابات (شروط الترشيح، عملية الترشيح، عملية الانتخاب، الجهة المنظمة للانتخاب)، ووضع برامج انتخابية، وتوفير آلة اعلامية للعملية، وتوفير موارد ولوجستيات على المستوى القطري، وتوفر وثيقة تحكم المبادئ والاسس التي يتفق عليها الناس لحكم البلاد (بحيث ان المرشحين والبرامج الانتخابية تكون ملتزمة بتلك المبادئ —اي الحكم الدستوري)؛ اذا كان بالإمكان وصف طريقة لترتيب هذه المسائل قبل بداية الفترة الانتقالية، بصورة معقولة ومفهومة، فاعتقد ان هذا سيكون طرحا يستحق النظر فيه.
(وطبعا لا أعنى ان حل الاشكالات اعلاه سيجعل الطرح جائزا مباشرة، فهنالك اشكالات اخرى تتعلق بسياق السودان، وميراثه المعقد، لكن على العموم سيكون طرحت يستحق النظر الجاد).
الانتخابات تحتاج لإطار ومؤسسات، والفترة الانتقالية وظيفتها الكبرى تجهيز تلك المؤسسات والإطار، فلو كانت تلك المؤسسات والاطار جاهزين مسبقا فهذا سيكون وضعا يحتاج لمسمى مختلف عن الفترة الانتقالية او ما بعد اسقاط النظام (او ما بعد ثورة تغيير). باختصار: الانتخابات تحتاج دولة كفؤة، بقوانين جاهزة، والاثنين مفقودات حاليا.

(4)
أما مسألة الشرعية فمسألة شائكة ولا شك. لكن هنالك اوجه متعددة للشرعية (أي ليس الشرعية السياسية فحسب). ويمكن أن نضرب امثلة لذلك من تاريخ السودان نفسه. أي حكومة كانت عندها شرعية سياسية عالية في تاريخ السودان الحديث كانت حكومة ائتلافية، وكانت عادة مقتسمة بين أحزاب طائفية كبيرة ومعهم احدى القوى السياسية الصاعدة ومؤثرة في تلك السنوات. والشرعية السياسية العالية هنا اقصد بها اما الانتخابات أو تشكيلة الحكومة التي يظهر أنها تمثل القوى السياسية ذات القواعد الجماهيرية الاوسع كميا. وفي كل واحدة من تلك الحكومات كان ضعف برنامج الحوكمة وبرنامج التنمية، وضعف الالتفات لقضايا الحكم والتنمية الفعلية، سمة واضحة، وكان المشهد موسوما بتقاسم كراسي السلطة بدون تقاسم رؤية وخطة تنموية للبلد، دع عنك تطبيقها. فالشرعية السياسية هنا لم تعن شيئا للمواطن ولا للدولة في المستوى الملموس، انما عنت هدنة صراع سلطة بين الصفوة، حيث ان الكراسي كانت هي الغاية وليست الوسيلة (وحتى الفترات التي حصلت فيها تدافعات فكرية نوعا ما، كانت في مستوى تجريدي حول علاقة الدين والدولة او علاقة السلطة المركزية بالأقاليم، بينما كانت مؤشرات مستوى المعيشة واداء مؤسسات الدولة في تدهور شبه مستمر). وطبعا حكومات مثل هذه كانت غالبا ما تكون في السلطة لفترة مؤقتة حتى تتأزم الاوضاع أكثر وينمو السخط والتململ في البلد وداخل الائتلاف الحاكم، فتعالجه الصفوة بعمل ائتلاف جديد (ولذلك فحتى الحكومات والائتلافات البرلمانية في الفترات الديمقراطية كانت تتغيّر بوتيرة عالية)، او يحصل انقلاب عسكري (عادة ما تكون وراءه قوى سياسية متحالفة مع صفوة العسكر)، وهكذا دواليك. هذه الحلقة كانت مستمرة، مع الغياب العجيب للنمو الاقتصادي والاستقرار المؤسسي، لدرجة ان المؤشرات الاقتصادية تقول ان الفترات التي شهدت صعودا تنمويا ملموسا ومؤقتا كانت فترات حكم عسكري (بدايات الحكم العسكري عادة)، لأن السلطة العسكرية غالبا ما لا تهتم بموازنات المحاصصة الائتلافية – خصوصا في بدايات حكمها – فتتجه لتبنّي برامج حكم وتنمية فيها تغييرات ملموسة ما كان من الممكن أن تمر عبر برلمان سلطة ائتلافية منتخبة لأن صراع البرلمانيين ما كان ليسمح بمرورها؛ (لكن طبعا الحكومات العسكرية مشكلتها الثانية كانت قمع الحراك السياسي، ما يؤدي بدوره لمشاكل اخرى سرعان ما تشغلها اكثر من التنمية). الشرعية السياسية في سياق علاقات السلطة في السودان الحديث أثبتت انها دوما شرعية مؤقتة وهشة مهما كانت صحيحة من الناحية الميكانيكية. اذن فمشكلة الدولة السودانية، ما بعد الاستعمارية، أعمق من مشكلة الشرعية السياسية.

من الممكن أن نقول اننا في السودان، حتى الآن لم نجرب ما هو أبعد من الشرعية السياسية (بالطريقة الميكانيكية أعلاه)، لأجل ذلك لم نختبر أن تكون الشرعية في الحكم شرعية تنفيذ اجندة مركزها المواطن، وشرعية التزام عملي بتحقيق شعارات تغيير ناصرتها الجماهير و/أو قامت بثورة من اجلها، وشرعية مساءلة واضحة أمام الجماهير حول مدى تحقيق تلك الأجندة ومدى مركزية المواطن في السياسات والتحركات السياسية. عدد من الكتابات الاقتصادية-سياسية حول السلطة في السودان قدّمت هذا التساؤل بلغات عدة: ما هي سمات عملية التغيير التي يمكن ان تخرج السودان من هذه الحلقة التاريخية المتكررة البائسة؟ ومن الاجابات المقدمة حاليا هي السلطة الانتقالية/التأسيسية الملتزمة بأجندة بناء دولة مؤسسات وتنمية اجتماعية-اقتصادية—بالمعنى العملي الملموس، تنظيرا وتطبيقا. مثل هذه السلطة لديها شرعية اسمها شرعية ثورية بالنسبة لنا (والشرعية الثورية “خشم بيوت”، أي ليست جميعها نفس الشيء وإن اشتركت في بعض السمات العامة)، وبالنسبة لأجندتها فندفع بنموذج الدولة التنموية الديمقراطية؛ لكن إذا أحب أي شخص أن يسمي تلك الشرعية باسم آخر، فلا يهم كثيرا—المهم المحتوى. فقط المطلوب إدراك انها ستكون (يجب أن تكون) شرعية مختلفة من تجارب التكرار السياسي القديم…. وللحديث شجون.
——-

*الجدير بالذكر أن عبارة “الدستور الدائم” توصيف مقابل للدستور الانتقالي أو المؤقت، بينما الدساتير “الدائمة” في العالم لا تحمل ذلك المسمى. هي فقط “دساتير”؛ وربما يعود ذلك لحقيقة أن أي دستور قابل للتعديل والتطوير والمراجعة والإضافة، وفق ضوابط، وبالتالي فإن ديمومته نسبية وديناميكية

تاريخ الخبر: 2022-07-11 03:22:12
المصدر: صحيفة التغيير - السودان
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 60%
الأهمية: 60%

آخر الأخبار حول العالم

بانجول.. افتتاح سفارة المملكة المغربية في غامبيا

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-04 00:26:34
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 63%

بانجول.. افتتاح سفارة المملكة المغربية في غامبيا

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-04 00:26:27
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 58%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية