«عاصمة الأنفاس الأخيرة» فارس الشعر العراقى ينزل إلى حلبة النثر

ربَّما لا يعرف الكثيرون من متلقى الأدب أنَّ لسركون بولص «١٩٤٤-٢٠٠٧» الشاعر العراقى صاحب التجربة الطليعية البارزة فى قصيدة النثر العربية، تجارب أخرى فى كتابة القصة صدرت له ضمن المجموعة القصصية «عاصمة الأنفاس الأخيرة». 

ترسم قصص سركون بولص التى تأتى كسرد سينمائى فى لغة نابضة بالمجاز وسرد حافل بالمشاهد، صورًا متضامة لعراق الستينيات من القرن العشرين، لا سيما العاصمة بغداد مركز الدولة العراقية التى صارت مقصدًا للنازحين من الأطراف والأقاليم العراقية، إما هربًا من تاريخ أليم يلاحقهم وماضٍ قاسٍ يطاردهم أو بحثًا عن حلم تحقيق ذواتهم فى العاصمة. فيطالعنا فى «عاصمة الأنفاس الأخيرة» قصُّ بأنفاس الشعر، دونما إسراف فى مجازية التراكيب أو «شعرنة» للغة الخطاب السردى، فلا تُعطِّل شعرية لغة القص درامية حركة السرد أو تحدُّ من تدفُّق أحداثه.

يبدو الذوات فى قصّ سركون بولص ضائعين فى المكان، ذوات فى حالة فرار بين الأماكن، من مكان يطردهم إلى مكان يلوذون به فيضيق بهم وعليهم، كما هو حال يوسف بطل قصة «الأيام الأخرى أيضًا»، إذ يصفه السارد بأنّه «كان يمر فى الشوارع، كل يوم، بعاطفة عمياء كبركة طين»، فرغم حركة الذات فى الزمكان المفتوح الممتدّ «الشوارع/ كل يوم»، فقد استغلق المكان والزمان على الذات ليصبحا كدائرة مغلقة، وهو ما يَسِم العاطفة بالعمى فتسقط الذات فى الوحل «بركة طين»، وكأنّ وعى الذات يدرك لا جدوى المراوحة فى المكان التى تستغرق الزمن كله «كل يوم».

إنّ حركة الذات فى المكان- بقصّ سركون بولص- تيه فى اللا اتجاه كما فى قصة «يجوب المدن وهو ميت»: «غبى، غبى، غبى، تندفع دون غاية وأنت فى أطراف المدينة لا تدرى إلى أين تركض هذا الركض الجنونى، مسرعًا، مسرعًا نحو لا شىء فى هذا الظلام الفظيع، كأنّ لعنة تلتهم الأرض فى أعقابك.. كنتُ أسبّ وقد خرجتُ كالوطواط بعد مطر عنيف قصير الأمد». 

دائمًا علاقة الذات بالمكان لدى «سركون» هى تيه مستدام لا سيما فى رحيلها فى المدن، إذ تكون «أين» هى السؤال الدائم للذات فى المكان، كما فى «الوصول إلى مدينة أين» الديوان الأول لسركون، فلا وصول للذات إذ لا مكان تجده مستقرًا لها. وتبدأ القصة بضمير المخاطب، فى مونولوج داخلى، تعبيرًا عن انشطار الذات وانقساماتها وتمثيلًا لتيار الوعى وتموجات داخل الذات، ثم يُستَأنَف الخطاب السردى بضمير المتكلم، لوصف حركة الذات الخارجية. كذا تعمل التكرارات كما فى «غبى» لثلاث مرات كأنَّها طرقات حادة، و«مسرعًا» لمرتين، على تجسيد الإيقاع النفسى للذات ورسم ذبذباتها الشعورية، وتمثيل نبضاتها المُباطِنة.

وتجسد قصة «يجوب المدن وهو ميت» مأساة الذوات فى المدن، فتقول السيدة إحدى أصوات القصة: «نحن غجر كما تعلم، لصوص وجوّابو آفاق، نجرى وراء سحابة الربيع ونهرب من المطر ومن القيظ. لا نستطيع العيش إلا فيما بين الفصول. ولكنه بدأ يعجز ويتشرّب عادات المدن، ذلك الذى يموت خلفى الآن». فى المدن تبدو الذوات عالقة فى الزمن، لا تعيش إلا فى البرهة المابينيّة الضيقة، كما تبدو عادات المدن مفسدةً ومأتى للموات، فتقول الغجرية عن زوجها: «مات، نعم، نعم. يجوب المدن وهو ميت. منذ أخذ يبيع كلّ شىء. يبيع نفسه، يبيعنى. مات قبل أن يبيع العربة، لحسن الحظ». تبرز هذه الشهادة الناضحة بالأسى فعل المدن بالذوات الذى مآله موات معنوى، نفسى، ثم موت جسدى، كما تبرز أثر حياة المدن فى الذوات بإجبارهم على بيع أنفسهم، فيما يبدو أنّ الوعى الجمالى والرؤيوى لـ«سركون» مسكون بالفكر الماركسى والأيديولوجية الاشتراكية التى تدين مبدأ «تسليع» الأشياء الذى أفضى إلى «تسليع» الإنسان واستلابه فى المجتمع الرأسمالى.

ونتيجة وطأة الإحساس بمأساوية العالم وقتامته، كذا للنفس الشعرى النابض بجسد الصياغة السردية للقصّ، تنشأ رؤية سوريالية فى تَمثُّل الذات العالم ورسمها له، لتجسِّد هذه السوريالية وعى الذات بلا معقولية العالم وعبثيته، كما فى قصة «الأيام الأخرى أيضًا»: «كانت الشمس كالمعدة، يتسرّب من ثقوبها عصير فاتر سقيم فيه رائحة المطاط والشوارع المرشوشة والدكاكين والسينما، وكانت معزولة عن الناس، وكان القرف ينتشر فى نفسه كمحلول الفولاذ. وغرق يوسف فى الهواء المبرد الذى يتجمع أمام السينما، وتفرج على الصور التافهة التى خلف زجاجة العرض، ونقل بصره من الحائط إلى الرجل والمرأة. وكانا يتفرجان، وكان الزوج يعرفه وكذلك المرأة. وانتظر. وكانت أفكاره تتجه فى غموض إلى خارج المكان، ولكنه كان مشوشًا بسبب انشغاله! كان منشغلًا يهيئ نفسه لتفاهة القربى، سينظر الرجل إليه لحظة، ثم يدهش، ويرفع حاجبيه، ويصافحه ويتكلمون، هو ويوسف والمرأة». 

يجسِّد السرد اضطراب الذات إزاء جهامة العالم الذى تعاينه، كما تلعب المراوحة بين أزمنة أفعال السرد من الماضى المردف بمضارع كأنّه ماضٍ مستمر فى وصف الشمس المعزولة عن الناس فى إشارة لافتقاد الناس طاقات النور والإحساس بالدفء، ثم الماضى والماضى المتبوع بمضارع فى وصف حركة الذات تمثّلًا لعالمها، ثم الانتقال للمضارع التسويفى الدال على زمن المستقبل القريب فى سرد استباقى ينقل توقّعات الذات لحركة الآخر «القريب وزوجته» ما يدلّ على آلية حركة هذا الآخر وتناسخها واصطناعها. أما فى تشبيه «الشمس كالمعدة» على غرابته، إلا أنّ مُكوِّن المشبَّه به «المعدة» يبدو أثيريًا لدى سركون، حيث تتناثر «الأحشاء والمعدة» فى صور سركون وتشبيهاته، فهو الذى يقول فى شعره: «ماذا أفعل بحياتى؟/ هناك باخرة ضائعة ترعى بين أحشائى»، وكذلك فى قصيدته «الجد يبدأ بالطواف»: «بماذا كان العجوز يفكّر وهو يمشى/ تائهًا كالظلّ فى أحشاء المدينة»، فيما يبدو أنّه تأثر بـ«رابليه» فى استخدام استعارة المعدة والأحشاء تمثيلًا لإحساس الذات الاغترابى بمتاهية الوجود.

تاريخ الخبر: 2022-07-14 21:21:23
المصدر: موقع الدستور - مصر
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 59%
الأهمية: 54%

آخر الأخبار حول العالم

طقس الأحد.. أمطار رعدية بعدة مناطق من المملكة

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-28 12:26:15
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 68%

ساعة جيب لأغنى ركاب "تايتانيك" بيعت في مزاد لقاء 1,46 مليون دولار

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-28 12:26:38
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 70%

الحبس النافذ للمعتدين على “فتيات القرآن” بشيشاوة

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-28 12:26:12
مستوى الصحة: 53% الأهمية: 54%

ساعة جيب لأغنى ركاب "تايتانيك" بيعت في مزاد لقاء 1,46 مليون دولار

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-28 12:26:31
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 64%

طقس الأحد.. أمطار رعدية بعدة مناطق من المملكة

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-28 12:26:21
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 69%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية