تاريخ يعيد نفسه


يقول كارل ماركس إن «التاريخ يعيد نفسه فى المرة الأولى كمأساة، وفى المرة الثانية كمهزلة»، وهى مقولة أثبتت قدرة دائمة على إثارة الإعجاب والقابلية للإثبات.

ربما كثيرون لا يعلمون أن بداية الإعلام المسموع فى مصر، وفى بلدان أخرى من العالم، اتخذت مساراً مشابهاً لذلك الذى تتخذه أقنية «السوشيال ميديا» الآن، وأن الأخطاء الكبيرة والممارسات الحادة لهذا الإعلام «التقليدى» كانت سبباً مباشراً لفرض الكثير من القيود عليه، بداعى التنظيم واحتواء المخاطر.

فقبل قرن من الآن، شهدت الإذاعات الأهلية ازدهاراً كبيراً فى مصر، وهى إذاعات امتلكها تجار وملاك أراضٍ وبعض الأفراد المهتمين، لكنها لم تكن تبحث سوى عن الربح وجذب الجمهور بأى وسيلة.

ولكى تنجح فى ذلك، فقد اعتمدت على سياسة تلبية طلبات المشتركين فى خدماتها أياً كانت، ومن ضمن تلك الطلبات تبادل الرسائل بين الأزواج، وعبارات الحب والعتاب بين الأصدقاء والمُحبين.

ومن بين العبارات التى وثق الباحثون فى المجال الإعلامى بثها على أثير بعض تلك الإذاعات فى عشرينات القرن الماضى تلك العبارة: «محمد أفندى عز العرب، الموظف بوزارة الأشغال، والجالس الآن على مقهى البسفور فى الحسينية، السيدة المحترمة زوجتك تطلب إليك العودة إلى المنزل، لأن ضيوفاً من البلد وصلوا تواً».

ولأن السلطات لم تقنن أوضاع تلك المحطات؛ فى ظل نشاط إذاعى مُستحدث، ومُشرع لم ينل الوقت اللازم لضبط أحواله، فإن مهازل عديدة حدثت على أثير البث المُنفلت بلا ضابط أو تشريع صارم أو قواعد عمل احترافية أو مواثيق مهنية. وأبسط المهازل وأقلها ضرراً، كان تبادل المطربين الشتائم والتجريح على أسماع الجمهور؛ فضلاً عن تأجير أو تحريض بعض هؤلاء لأنصارهم ليواصلوا طلب أغنياتهم، بما يوحى بأن مكانتهم بين الجمهور فى ارتفاع.

لكن الطامة الكبرى حدثت حين استغل الخارجون عن القانون، ومهربو المخدرات خصوصاً تلك الإذاعات فى تبادل الرسائل التى تيسر لهم تنفيذ أنشطتهم الإجرامية بعيداً عن أعين الشرطة. ومن هذا أن لاحظت وزارة الداخلية فى هذا الوقت أن بعض المستمعين يطلب سماع أغنية «الجو غيم»، حين يريد أحد أفراد تنظيم إجرامى تنبيه زملائه لأن الشرطة تضيق الخناق عليهم، فيبادرون إلى الكمون، وفى المقابل، يطلب أحد المستمعين من مشتركى الإذاعة سماع أغنية «الجو رايق»، ما يعنى أن زملاءه يمكنهم الآن التحرك لتصريف الممنوعات التى بحوزتهم.

وكان هذا الاستخدام المبتذل والسفيه، والإجرامى أحياناً، لأنشطة بعض هذه الإذاعات داعياً للإسراع فى سن القوانين الملائمة لتنظيم البث الإذاعى، وهو الأمر الذى أخذ اتجاهه على مدى القرن نفسه، حتى وصلت الأمور إلى السيطرة الكاملة للأجهزة الحكومية على محتوى البث، فضلاً عن احتكار الدولة له جملة وتفصيلاً، فى رد فعل عكسى أثمر بصرامته سلبيات ربما لا تقل عن تلك التى أنتجها الانفلات.

ومن بين العبر التى تم استخلاصها من البداية المنفتحة وغير الخاضعة للتنظيم للإذاعات الأهلية أنها باتت عرضة لاستخدام ذوى الميول الإجرامية فى عديد الأحيان، وأنها كرست لاستباحة الخصوصية، وأنها شغلت العموم بالقضايا الشخصية التافهة لبعض الناس على حساب الأولويات الحقيقية، وأن البعض استخدم «كتائب إذاعية» لترويج أفكار، أو التسويق لأشخاص، بما يعطى الانطباع بأن أهميتهم كبيرة قياساً بما هم عليه فى الواقع. وإضافة إلى ذلك، فإن القائمين على البث لم يكونوا مؤهلين لهذا العمل، كما أن تلك الإذاعات لم تنطلق فى عملها من أى أدبيات للتنظيم، كما افتقدت أى معايير أو مبادئ غير تلك التى يرتضيها أصحاب الإذاعات والمذيعون والمشتركون لأنفسهم.

هكذا بدأت الإذاعات الأهلية.. تعبيرات اجتماعية/اقتصادية/سياسية غير مُقننة عن أشخاص وقوى مجتمعية أو مصالح، بلا قواعد مؤسسية أو ضوابط أو احتراف، وهو أمر يبدو أنه يتكرر مع «السوشيال ميديا».

فمراكز التفكير الإعلامية تشير بوضوح إلى انفلات كبير فى منتجات الاتصال التى باتت تتزايد فى الإطار غير النظامى مقارنة بتلك التى تنتظم ضمن مسارات تخضع للتنظيم أو التقييم وفقاً لمعايير ومبادئ تحريرية مستقرة.

وكما كانت البداية قبل قرن من الزمان، فقد وصلنا الآن إلى بيئة اتصالية تهيمن عليها منتجات تُنتج بواسطة غير المحترفين، وبينما تقاوم وسائل الإعلام «التقليدية» وتحاول الصمود فى تلك البيئة المتغيرة والصعبة، فإن الضغوط تتزايد عليها كل يوم. وفى مقابل كل العبر التى أمكن استخلاصها من تجربة الإذاعات الأهلية، تبرز الدروس التى يمكن استخلاصها من الواقع الراهن الذى تهيمن عليه وسائط «السوشيال ميديا»؛ ومن ذلك عدم إخضاع المحتوى الذى يُبث عبرها فى عديد الأحيان لأى نوع من الضبط سوى ما يقرره المستخدم ذاته لنفسه، أو ما يتدخل القانون أو الشركات المُشغلة لتلك الوسائط بشأنه، وفق قواعد لا تتصل مباشرة بالعمل الإعلامى، وتبقى عرضة لاستخدام المكاييل المتعددة.

وإضافة إلى ذلك، يبرز الانتهاك السافر للخصوصية، وتسليعها باعتبارها بضاعة تجلب عوائد كبيرة، فضلاً عن تفاقم النشاط المُغرض لـ«الكتائب الإلكترونية»، واستخداماتها المطردة لتقنيات «الذكاء الاصطناعى» لحرف الاتجاهات والتأثير فى المواقف والآراء.

وكما حدث فى المرة الأولى قبل قرن، فقد جاء التنظيم صارماً وحازماً، فهل ينجو الفضاء الاتصالى الراهن من هجمة مرتدة يمكن أن تخضعه للتقييد، أم يجد طريقاً لتنظيم ذاتى رشيد يحافظ على حريته ومسئوليته فى آن؟

* نقلا عن "الوطن"

تاريخ الخبر: 2022-08-08 21:17:36
المصدر: العربية - السعودية
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 87%
الأهمية: 95%

آخر الأخبار حول العالم

صباح الخير يا مصر..

المصدر: وطنى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-05-17 09:21:51
مستوى الصحة: 53% الأهمية: 55%

في سوق الأسهم .. أول الغيث قد يكون خسارة

المصدر: أرقام - الإمارات التصنيف: إقتصاد
تاريخ الخبر: 2024-05-17 09:24:30
مستوى الصحة: 37% الأهمية: 35%

مصر‏ ‏لن‏ ‏ولم‏ ‏تخضع‏ ‏للابتراز

المصدر: وطنى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-05-17 09:21:49
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 58%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية