تسابق تركيا الزمن من أجل تعزيز أمن مستدام للطاقة باعتباره ركيزة أساسية من ركائز الأمن القومي لأي دولة وازدهارها. ولقد برهنت الحرب في أوكرانيا على أهمية الاكتفاء الذاتي من موارد الطاقة، ويمكن النظر إلى أوروبا وقلقها حيال الاستعداد لفصل الشتاء كمثال.

لم يكن توجُّه تركيا نحو تعزيز الاكتفاء الذاتي أو الاستثمار في الطاقة المتجددة وليد اللحظة، فقد بدأ بشكل متنامٍ منذ العقد الثاني المنصرم، سواء من حيث إطلاق سفن الاستكشاف "محلية الصنع" للتنقيب عن الغاز والنفط في قاع البحرين الأسود والمتوسط، وتشييد محطة نووية بالتعاون مع روسيا، ومشروعين آخرين بالتعاون مع الصين واليابان، والاستثمار المتزايد في الطاقة المتجددة (النظيفة) لا سيما في ظلّ التغيُّر المناخي الحاصل.

ولا بد أن نلفت الانتباه هنا إلى أن تركيا دولة تسير وفق مساقين من حيث استراتيجية الطاقة، فبينما تطوّر وسائل تزويد بالطاقة ذاتيّاً، فإنها تعمل في الوقت ذاته على استراتيجية نقل الطاقة إلى الخارج عبر مجالها الخاص مما يؤهّلها لأن تكون محطة عالمية في توريد الطاقة.

في ضوء هذه الأسس، يمكن قراءة المستقبل القريب لأمن الطاقة في تركيا خلال السنوات القادمة، وإلى أي مدى يمكن أن تغطي هذه الخطط والخطوات حاجة المستهلك التركي خلال العقد القادم، علماً أنه لا يمكن التنبؤ بشكل دقيق نظراً إلى اختلاف الحاجة الاستهلاكية للغاز والكهرباء في ظل الاحتباس الحراري والتغيُّر المناخي، فضلاً عن تقلُّب كميات الإنتاج المحلية من سنة إلى أخرى.

أسطول تركيا من سفن الاستكشاف

تمتلك تركيا في المجمل 4 سفن متخصصة في الحفر، هي القانوني ويافوز والفاتح التي كان لها نصيب اكتشاف أكبر مخزون من الغاز الطبيعي في تاريخ تركيا بمياه البحر الأسود، وسفينة السلطان عبد الحميد خان التي انطلقت في أغسطس/آب الماضي للتنقيب في مياه البحر المتوسط، وهو أكثر تعقيداً ولكنه أكثر وفرة في الوقت ذاته.

مجموع الغاز المكتشَف بفضل أعمال التنقيب والحفر وصل حتى الآن إلى 540 مليار متر مكعب، وهو نظريّاً يغطّي حاجة تركيا من الغاز الطبيعي لـ9 سنوات، باعتبار أنها استهلكت 60 مليار متر مكعب العام الماضي 2021، لكن الرقم نفسه حين مقارنته بالسنوات العشر السابقة نجد زيادة بنسبة 5.5%، وهذا يعني احتمالية زيادة استهلاك تركيا من الغاز الطبيعي تباعاً.

ويجب التفريق هنا بين حاجة المنازل إلى الغاز الطبيعي المستهلك، والمجالات الأخرى التي تنفق تركيا فيها هذا الغاز، إذ يُحوَّل 30% في المتوسط من هذا الاستهلاك إلى طاقة كهربائية.

في المقابل، ووفقاً لبيانات وزارة الطاقة والموارد الطبيعية التركية فإن إنتاج احتياطي الغاز المكتشَف في البحر الأسود سيبدأ في الربع الأول من 2023، فيما يُقدَّر حجم الإنتاج سنوياً بـ10 مليارات متر مكعب، ما يلبّي 17% من طلب تركيا على الغاز الطبيعي على أساس سنوي.

مع ذلك، ما زالت احتمالية العثور على كميات احتياطي جديد من الغاز واردة بقوة في البحر الأسود، وبصورة أقوى في البحر المتوسط وهو منطقة غنية بالثروات الباطنية وفق ما يؤكّده مختلِف الدراسات العالمية. لكن التحدي القائم هنا هو الخلافات القائمة مع الدول المطلة على المتوسط لا سيما اليونان من حيث ترسيم الحدود ومشاركة المساحات المائية.

وكلما زادت كميات الاحتياطي المكتشَفة، انعكس ذلك على تغطية الاحتياج الداخلي من الغاز الطبيعي من جهة، وتقليل الاعتماد على الاستيراد من الخارج من جهة أخرى.

خطوط توريد الغاز

في الواقع المنظور، نجحت تركيا في أن تكون صلة وصل لنقل الغاز العالمي عبر سلسلة من خطوط النقل عبر الأنابيب، مثل "خط أنابيب جنوب القوقاز" لنقل الغاز الأذربيجاني عبر باكو-تفليس-أرضروم، إضافة إلى خط أنابيب "باكو-تبليسي-أرضروم"، وخط أنابيب الغاز العابر للأناضول "تاناب"، وخط أنابيب الغاز العابر للبحر الأدرياتيكي "تاب"، وكلها تنقل الغاز الأذربيجاني إلى تركيا ومرشَّحة بقوة لنقل الغاز بوتيرة أكبر إلى الدول الأوروبية مع تزايد بحث الأوربيين عن بدائل من الغاز الروسي.

إضافة إلى ذلك يمكن أن يلعب خط أنابيب "ترك ستريم" الذي ينقل الغاز من روسيا إلى تركيا دوراً بتوريد كميات من هذا الغاز إلى أوروبا عبر اليونان.

يدور الحديث أيضاً عن إمكانية نقل الغاز من إسرائيل إلى أوروبا عبر تركيا، بديلاً أوفر من استيراده عبر مصر، وهو ما يؤكده المسؤولون الأتراك لأن غاز البحر المتوسط لا يمكن أن يصل إلى أوروبا إلا عبر تركيا، التي تحتاج إلى نحو 400 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي.

محطات الطاقة النووية

من خلال محطة "آق قويو" النووية مع روسيا، نجحت تركيا في وضع أول خطوة لدخول نادي الدول النووية، ولقد بدأت تشييد هذه المحطة بالفعل في 2018، وتتكون من 4 مفاعلات نووية، ومن المقرر أن تبدأ الوحدة الأولى من الإنتاج بحلول 2023، بينما تبدأ الوحدات الثلاث المتبقية الإنتاج خلال السنوات التالية، على أن تكون جميعها جاهزة للإنتاج بحلول 2026.

وحتى تصل إلى كامل طاقتها الإنتاجية للكهرباء في 2026، فإنها ستلبي نحو 8.75% من احتياجات تركيا من الطاقة بطاقة إنتاجية تصل إلى 4800 ميغاوات، إذ تبلغ طاقة كل وحدة منها 1200 ميغاوات.

وعند الحديث عن تلبية حاجة تركيا من الكهرباء، تقول تقديرات إن محطة "آق قويو" النووية ستنتج ما يصل إلى 35 مليار كيلوات/ساعة من الكهرباء بحلول 2026، أي عند تشغيلها بكامل طاقتها حسبما صرح وزير الطاقة التركي مطلع 2021.

وهو ما يمكن أن يتراوح بين 7% و9% من حاجة تركيا من الكهرباء، على اعتبار أن استهلاك تركيا للكهرباء وصل إلى 329 مليار كيلووات/ساعة في 2021 بزيادة 12% مقارنة مع 2020، وهو في زيادة مطّردة نظراً إلى الإقبال المتزايد على استخدام السيارات الكهربائية، وعوامل أخرى مثل زيادة استخدام مكيّفات الهواء، بخاصة في الصيف، إلى جانب النموّ السكاني.

الاستثمارات الكهرومائية وطاقة الرياح

إن الزيادة المطّردة في ضخّ الاستثمارات على الطاقة النظيفة سيضمن لها إنتاج كميات كبيرة من الكهرباء، علماً أن الطاقة المتجددة تشكّل ثلث طاقة تركيا الإنتاجية للكهرباء حاليّاً، والرقم آخذ في الزيادة.

في تركيا 730 محطة مسجلة لتوليد الطاقة الكهرومائية، وفي 11 أغسطس/آب الماضي افتتح الرئيس أردوغان 34 محطة توليد إضافية بطاقة مليارين و300 مليون كيلووات/ساعة، وأشاد أردوغان آنذاك بـ"زيادة الطاقة الإنتاجية الكهرومائية مرتين ونصفاً في وقت قصير من 44 مليار كيلووات/ساعة إلى 110 مليارات كيلووات/ساعة، أي إن ثلث إجمالي الطاقة المركبة في تركيا هو من الطاقة الكهرومائية".

إضافة إلى ذلك، تستثمر تركيا في الرياح بنسب لا يمكن مقارنتها مع السابق، إذ وصل إنتاج الكهرباء من طاقة الرياح إلى أكثر من 31 مليار كيلووات/ساعة في 2021.

الأمر ذاته ينطبق على الاستثمار في محطات الطاقة الشمسية، إذ أنتجت 13.3 مليار كيلووات/ساعة من الكهرباء في 2021، بما يعادل 4% من الاستهلاك الكلي ذلك العام.

بالنظر إلى هذه الأرقام، فإننا نتحدث عن وفرة ستسمح لتركيا بتصدير كميات كبيرة من الطاقة، ولكونها صدّرت 4.1 مليار كيلووات/ساعة كهرباء في 2021 بزيادة قدرها 68% مقارنة مع 2020، فيمكن أن يصل حجم التصدير بشكل متكافئ مع زيادة الاستهلاك كذلك إلى نحو 30 أو 40 مليار كيلووات/ساعة من الكهرباء، تزامناً مع زيادة الاستثمارات في مجالات الطاقة المتجددة التي ستسمح بالتالي بزيادة كميات الإنتاج سنوياً.



TRT عربي