محمود عوض يكتب: الوقائع الكاملة لمعركة «فى الشعر الجاهلى»: طه حسين.. متهم بأنه يفكر!

«البرلمان» و«الأزهر» هاجماه.. والحكومة دافعت عنه.. وسعد زغلول وقف فى المنتصف

كتاب «فى الشعر الجاهلى» فتح الباب أمام العديد من الاتهامات ضد طه حسين على رأسها دعوة الناس للفوضى

حذف طه حسين من الكتاب فصلًا وأضاف فصولًا ثم طبعه من جديد بعنوان «فى الأدب الجاهلى»

فى كتابه «أفكار ضد الرصاص» سجل الكاتب الراحل محمود عوض أربع معارك فكرية أشعلتها أربعة كتب مهمة.. على رأس هذه المعارك كانت معركة «فى الشعر الجاهلى» الكتاب القنبلة.. كتبه طه حسين وعمره ٣٧ عامًا، فحرّك به كل المياه الراكدة.. ليس مهمًا هل كان على خطأ أم على صواب.. المهم أنه امتلك شجاعة طرح الأسئلة.. فى السطور القادمة بعض وقائع معركة عمرها ٩٦ عامًا خاضها طه حسين بكل شجاعة، كما كانت عادته دائمًا.

فى هذا اليوم خرج طه حسين مطرودًا من العمل بالحكومة، خرج ذاهبًا إلى منزله؟ وفى المنزل كان الجميع فى انتظار طه حسين، زوجته... وأولاده. ولكن ضيفًا آخر كان قد وصل إلى المنزل منذ دقائق. ضيف ثقيل الظل: خطاب من بنك مصر.

إن الخطاب يضم إخطارًا قصيرًا من البنك بأنه قد أصبح مدينًا للبنك بثمانية جنيهات.. يجب عليه دفعها فورًا.. وبحث طه حسين فى جيبه فلم يجد قرشًا واحدًا. لم يجد شيئًا مطلقًا.

ولكن النقود لم تكن هى الشىء الوحيد الذى هرب من طه حسين، لقد هرب منه الجميع قبل ذلك بوقت طويل. هرب منه الزملاء والأصدقاء والأقرباء. ضاعت منه الوظيفة والنقود.. والسمعة.

وفى غياب كل هؤلاء يصبح لدينا متسع من الوقت لكى نتابع الأزمة التى أدت إلى كل هذه النتائج. أزمة بدأت قبل ذلك اليوم بست سنوات كاملة. بدأت بقرار أصدرته النيابة العامة بالتحقيق مع طه حسين. قرار يحسن أن نقرأه من أول سطر فيه. 

«.. نحن محمد نور رئيس نيابة مصر:

من حيث إنه بتاريخ ٣٠ مايو سنة ١٩٢٦ تقدم بلاغ من الشيخ خليل حسنين الطالب بالقسم العالى بالأزهر لسعادة النائب العمومی يتهم فيه الدكتور طه حسين الأستاذ بالجامعة المصرية بأنه ألف كتابًا أسماه (فى الشعر الجاهلى) ونشره على الجمهور، وفى هذا الكتاب طعن صريح فى القرآن العظيم.. حيث نسب الخرافة والكذب لهذا الكتاب السماوى الكريم.. إلى آخر ما ذكره فى بلاغه.

وبتاريخ ٥ يونيو سنة ١٩٢٦ أرسل فضيلة شيخ الجامع الأزهر لسعادة النائب العمومی خطابًا يبلغ له به تقريرًا رفعه علماء الجامع الأزهر عن كتاب ألفه طه حسين المدرس بالجامعة المصرية أسماه (فى الشعر الجاهلى) كذب فيه القرآن صراحة وطعن فيه على النبى، صلى الله عليه وسلم، وعلى نسبه الشريف، وأهاج بذلك ثائرة المتدينين وأتى بما يخل بالنظم العامة ويدعو الناس للفوضى، وطلب اتخاذ الوسائل القانونية الفعالة الناجعة ضد هذا الطعن على دين الدولة الرسمى وتقديمه للمحاكمة. 

وبتاريخ ١٤ سبتمبر سنة ١٩٢٦ تقدم إلينا بلاغ آخر من حضرة عبدالحميد البنان أفندى، عضو مجلس النواب، ذكر فيه أن الأستاذ طه حسين المدرس بالجامعة المصرية نشر ووزع وعرض للبيع فى المحافل والمحلات العمومية كتابًا أسماه (فى الشعر الجاهلى) طعن وتعدى فيه على الدين الإسلامى، وهو دين الدولة، بعبارات صريحة واردة فى كتابه سيبينه فى التحقيقات.

وحيث إنه نظرًا لتغيب الدكتور طه حسين خارج القطر المصرى.. قد أرجأنا التحقيق إلى ما بعد عودته..».

هذه هى البداية الطبيعية للموضوع. بلاغات متلاحقة للنيابة العامة ضد طه حسين، وكان وقتها أستاذًا بالجامعة. بلاغات من جهات راسخة وأفراد عديدين. بلاغات تتكرر فيها اتهامات خطرة مثل: الطعن فى القرآن، الإخلال بالنظام العام، دعوة الناس للفوضی. 

إن الكتاب الذى أثار كل هذه الضجة هو الذى تكرر اسمه فى كل بلاغ قدم للنيابة. كتاب ( فى الشعر الجاهلى). كتاب أصدره الدكتور طه حسين فى سنة ١٩٢٦. سنة بلغ فيها طه حسين السابعة والثلاثين.

إن طه حسين لم يتصور- حينها ألف الكتاب- أن شيئًا من هذا يمكن أن يحدث كرد فعل لأقواله فى الكتاب. إن ما ذكره طه حسين فى كتابه بسيط. هذا هو:

«... إن الكثرة المطلقة مما نسمية أدبًا جاهليًا ليست من الجاهلية فى شىء، وإنما هى منحولة بعد ظهور الإسلام، فهى إسلامية تمثل حياة المسلمين وأهواءهم أكثر مما تمثل حياة الجاهليين. ولا أكاد أشك فى أن ما بقى من الأدب الجاهلى الصحيح قليل جدًا لا يمثل شيئًا ولا يدل على شىء ولا ينبغى الاعتماد عليه فى استخراج الصورة الأدبية الصحيحة لهذا العصر الجاهلى».

هذا كل ما قاله طه حسين فى كتابه. هذا جوهر نظريته الجديدة التى خرج بها. إن طه حسين يقدر «... النتائج الخطيرة لهذه النظرية، ولكن مع ذلك لا أتردد فى إثباتها وإذاعتها».

هذه إذن نظرية أولًا تهم المشتغلين بالأدب، قبل أن تهم المشتغلين بالسياسة. فإذا كانت النظرية خطيرة كما كتب طه حسين، فيجب أن ينزعج الأدباء- لا السياسيون- لخطورتها.

ولكن.. لم يكن هذا ما حدث.

لقد أزعجت هذه النظرية كل شخص. كل شخص ما عدا المشتغلين بالأدب!! أزعجت الأزهر والبرلمان والملك والنيابة العامة ومجلس الوزراء.. ولم تزعج المشتغلين بالأدب ولا المهتمين به.

لماذا؟. لماذا حدث كل ذلك.

إن السبب كان بسيطًا. إن هذه النظرية كانت خطيرة بالنسبة لهؤلاء جميعًا- ليس بسبب الكلمات التى تقولها- ولكن بسبب أسلوب التفكير الذى تعبر عنه. أسلوب يظهر واضحًا من كلمات طه حسين فى الكتاب بقوله: «.. ربما كان من الحق أنى أحب أن أفكر، وأحب أن أبحث، وأحب أن أعلن إلى الناس ما أنتهى إليه بعد البحث والتفكير، ولا أكره أن آخذ نصيبى من رضا الناس عنى أو سخطهم على حين أعلن إليهم ما يحبون أو ما يكرهون..».

هذا إذن هو الجزء الخطير فى الموضوع. هذا هو الجزء المزعج حقا. إن طه حسين يريد أن يفكر، وأن يخرج بنتائج تفكيره على الناس حتى ولو صدمت أفكارهم الراسخة منذ وقت طويل مضى.

إن طه حسين إذن يعارض المذهب الرسمى المعترف به فى التفكير الأدبى. ولكنه «.. مطمئن إلى أن هذا البحث وإن أسخط قومًا وشق على آخرين، سيرضى هذه الطائفة القليلة من المستنيرين الذين هم فى حقيقة الأمر عدة المستقبل وقوام النهضة وذخر الأدب الجديد».

لهذا الهدف- بهذا الأسلوب وهذه النظرة- ذهب طه حسين يفحص الأدب الجاهلى والشعر الجاهلى. إنه يستمد أدلته من القرآن لأنه يرى أن «.. القرآن أصدق مرآة للجاهلية... فليس من اليسير أن تفهم أن الناس قد أعجبوا بالقرآن حين تليت آياته إلا أن تكون بينهم وبينه صلة». نظرية يظل طه حسين يقيم الدليل عليها طوال صفحات الكتاب. بقلب مسلم وعقل يشك.. أخرج طه حسين كتابه إلى الناس فى تلك الأيام من سنة ١٩٢٦. أخرج الكتاب ثم سافر إلى فرنسا ليقضى بها إجازة الصيف. وحينما رست الباخرة بطه حسين على ذلك الجزء من الشاطئ الفرنسى، هبط طه حسين على سلم الباخرة، دون أن يعلم ماذا تخبئه له الأيام.. هنا.. فى مصر.

فوجئ طه حسين- وهو فى إيطاليا- ببرقية عاجلة جاءت إليه من القاهرة- البرقية- ككل البرقيات- مختصرة، مركزة.. ولكنها، أيضًا، خطيرة. هذه هى:

«عرض علىّ البرلمان كتابك الأخير. ناقش البرلمان طردك من الجامعة. هدد رئيس الوزراء بالاستقالة. تدخل سعد زغلول، أحيل الموضوع إلى النيابة العامة. النيابة تطلبك للتحقيق معك أرجو حضورك حالًا».

إمضاء محمد المرصفى

تلقى طه حسين هذه البرقية من صديقه القديم محمد المرصفى.. دون أن يعلم بالضبط حقيقة ما جرى. فى الواقع أن المرصفى لم يذكر لطه حسين فى برقيته أسوأ ما جرى.

لم يذكر له مثلًا أن المعارضين للكتاب حرضوا طلبة الجامع الأزهر على القيام بمظاهرة تتوجه إلى بيت سعد زغاول. مظاهرة ضخمة. لقد استقبلهم سعد فى بيته- بيت الأمة- حيث ذهبوا إليه يطالبونه كرئيس لحزب الأغلبية فى البرلمان بمطالبة الحكومة باتخاذ إجراءات رادعة مع طه حسين. إجراءات مثل طرده ومحاكمته ومعاقبته. إجراءات مثل إعلان كفره وإلحاده رسميًا. مرة أخرى تتلاحق الاتهامات المحفوظة من قبل ضد كل من يقدم للمجتمع فكرة جديدة: ملحد.. فاسق.. زنديق.. کافر.. خارج على القانون والدين والأدب.. قليل الأدب طه حسين! لابد من رأسه! ليس أقل من رأسه!

وقبل متابعة تطورات الأزمة يثور السؤال من جديد: لماذا كل هذا؟ لماذا كل هذه الضجة؟ لماذا قدم النائب الوفدى عبدالحميد البنان استجوابه فى البرلمان لوزير المعارف؟ لماذا ذهبت المظاهرات إلى بيت سعد زغلول تطالب برأس طه حسين؟

مرة أخرى كان السبب بسيطًا. إن المجتمع لديه أفكاره الخاصة عن الأدب والسياسة والدين والتعليم.. إلخ. أفكار جاهزة سلفًا وموجودة مقدمًا. أفكار يجب على كل عضو فى المجتمع أن يقبلها بغير مناقشة، أو فحص، أو مراجعة. أفكار ورثها المجتمع عن آبائه وأجداده. لقد استقرت هذه الأفكار، ليس لأنها صحيحة ولكن لأنها قديمة. إنها قديمة ومن ثم مقدسة، ومن ثم لا تقبل المناقشة، فإذا جاء واحد من أفراد المجتمع- طه حسين فى حالتنا هذه- ليناقش أفكار المجتمع فى الأدب ويفحصها ويرفض منها ما برفضه ويقبل ما يقبله.. فيجب أن يتعرض هذا الفرد للعقاب العام. عقاب صارم.

هذه إذن هى ظروف المعركة. مجتمع دخل الكهف- بأفكاره- منذ ألف سنة. وحينما خرج المجتمع المصرى من الكهف وجد النور- نور العلم والحضارة- أقوى من عينيه. النتيجة: قدم المجتمع استقالته من القرن العشرين. عاد إلى الكهف من جديد. 

كانت المشكلة مع طه حسين أنه أراد إعادة النظر فى واحدة من الأفكار الجاهزة مقدمًا فى مصر. أراد إعادة النظر فى الأدب. لقد فعل ذلك بعد أن شرب القدر الذى أراده له المجتمع من أفكاره. تعلم فى الكتاب والمدرسة والأزهر والجامعة. ولكنه سافر بعد ذلك إلى أوروبا. ترك الماضى فى مصر وسافر إلى أوروبا. هناك رأى حضارة أخرى وتفكيرًا آخر. هناك أيضًا استطاع أن يفكر لماذا لا تكون لنا نفس الحضارة ونفس التفكير. كان ماضينا عظيمًا.. فلماذا لا يكون حاضرنا أعظم؟!

إن مجلس الجامعة عقد اجتماعًا خاصًا. المناسبة: عريضة قدمها حضرات علماء الأزهر الشريف يطلبون فيها مصادرة كتاب (فى الشعر الجاهلى) وإبعاد الدكتور طه حسين من الجامعة وإحالته على المحكمة. الاجتماع: استمر أربع ساعات. المناقشات: حامية جدا. السبب: هذه سابقة خطيرة. لا قيمة للجامعة إذا لم تستقر فيها حرية البحث العلمى، القرار: «إن مجلس الجامعة المصرية يكل لسعادة المدير تسوية مسألة الدكتور طه حسين مع السلطات المختصة، على أن يراعى فى ذلك المبادئ الأساسية للتعليم الجامعى والشرف العلمى لهيئة موظفى التدريس بالجامعة».

بدأ أحمد لطفى السيد- مدير الجامعة- يجری اتصالاته مع السلطات المختصة. سلطات عديدة. هناك الملك. وهناك رئيس الوزراء. وهناك البرلمان.

فى البرلمان تعلو الأصوات- صوتًا بعد صوت - مطالبة بمعاقبة طه حسين، ومعاقبة الجامعة كلها من خلال طه حسين. حينما تشتد المعارضة وتقوى، لا يجد وزير المعارف- على الشمسى باشا- ردًا يقوله سوى «إننا نطمع فى أن تكون الجامعة معهدًا طلقًا للبحث العلمى الصحيح». كلمات تضيع فى الهواء.. فالآلهة تريد الانتقام... لا الحرية. الآلهة عطشى للدماء.. لا للعلم.

هكذا بدأت الأزمة تتسع وتتسع. لقد تدخل الجميع فى مناقشة الكتاب. تدخلت المعارضة، تدخل البرلمان- مجلس النواب أولًا ثم مجلس الشيوخ- تدخلت الجامعة، تدخل وزير المعارف، تدخل رئيس الوزراء، تدخل الملك.

ذهب رئيس الوزراء إلى مجلس النواب بغرض تهدئة الأزمة. ولكنه اكتشف أن المعارضة قد أصبحت أكثر قوة.. وشراسة. فقد وحدت المعارضة جهودها فى اقتراح يطلب من الحكومة اتخاذ الإجراءات التالية:

أولًا: مصادرة وإعدام کتاب طه حسين المسمی «فى الشعر الجاهلى».

ثانيًا: تكليف النيابة العمومية برفع الدعوى على طه حسين مؤلف هذا الكتاب.

ثالثًا: إلغاء وظيفته من الجامعة، وذلك بتقرير عدم الموافقة، على الاعتماد المخصص لها.

وعندما وقف على الشمسى- وزير المعارف- يعلن أن الوزارة لا تمانع فى إعدام الكتاب، لم تهدأ المعارضة. ليس أقل من فصل طه حسين!

فى هذه اللحظة وقف رئيس الوزراء ليعلن أن المعارضة إذا أصرت على هذا الطلب فإن الوزارة تعرض الثقة بها. هكذا هدد رئيس الوزراء بالاستقالة إذا أصيب طه حسين بأى ضرر غير قانونى. يكفى- لکی تموت الأزمة- أن يحول الاتهام الموجه ضده إلى النيابة.

عند هذا الحد تدخل سعد زغلول. إن سعد هو زعيم حزب الأغلبية فى البرلمان. حزب الوفد. إن سعد يريد أن يستخدم نفوذه وشعبيته لإنهاء الأزمة، دون أن يخلق لدى المعارضين إحساسًا بأنه لا يوافقهم. سیاسی، لهذا قال لهم سعد إنه ليس من المصلحة سقوط الوزارة، لأنها وزارة ائتلافية تضم حزب الوفد وحزب الأحرار الدستوريين. وطلب سعد من الأعضاء الوفديين فى الوزارة أن يرفضوا طرح الثقة بالوزارة. وكانت الوزارة التى فى الحكم الآن ائتلافية برئاسة عدلى يكن باشا.

النتيجة: شكلت لجنة لوضع تقرير عن الكتاب، وأحيل الموضوع إلى النيابة العامة. ولكن.. حتى هذه الحلول لم تكن كافية بعد لتهدئة المعارضين لطه حسين، فى كل يوم تزداد عوامل الأزمة تعقيدًا، وتتشابك عواملها، وتتعدد أطرافها. إن أطراف الأزمة كثيرون، ولكن دوافعهم هى التى تختلف.

فبالنسبة للسفير البريطانى فى مصر، كانت المسألة هى التظاهر بأنه يمنع عن مواطن مصرى ظلمًا يتعرض له من مواطنين مصريين آخرین. انتهازية.

وبالنسبة للملك فؤاد، كانت المسألة هى أن السماح بالحرية فى الأدب اليوم معناه السماح بالحرية فى السياسة غدًا. مصيبة.

و بالنسبة لسعد زغلول، كان الصراع داخل رأسه بين موهبتين متعارضتين فيه: موهبته كسیاسی يريد التصفيق، وموهبته كمثقف يرید حرية الرأى. مشكلة.

وبالنسبة لرئيس الوزراء، فإنه لا يؤمن- کالمهاجمين- بالحرية. ولكنه أيضًا لا يريد تلقى هذا الدرس من المعارضة. أزمة. وبالنسبة للبرلمان، أصبحت المسألة سباقًا على من الذى يفخر بأنه أهدر دماء طه حسين أولًا. فرصة. أما بالنسبة لطه حسين؛ فقد كان الموضوع كله بالنسبة له شيئًا أشبه بقصة بوليسية أحكمت خيوطها حول رقبته. تجربة لن ينساها طه حسين.

ولم تكن المشكلة مقصورة على أعضاء البرلمان. لقد امتدت إلى الشارع، بعد أن بدأت من الشارع. هل طه حسين برىء؟ إن الناس بدأت تفكر. لا دخان بغير نار. بالتأكيد هناك شىء ما ضد طه حسين.. بالرغم من أن أحدًا لا يعرف بالضبط ما هو. كان الناس يسألون بعضهم بعضًا: هل صحيح ما يشيعونه عن طه حسين؟

- ماذا يشيعون؟

- يقولون إنه رجل يكره الإسلام والمسلمين. وإنه لهذا السبب سمی ابنه «کلود» وابنته «مرجريت». وكتبوا عنه فى الصحف أن له طفلة توفيت فقام بدفنها فى مقابر الفرنسيين، وإنه عمد ولديه.. ومع ذلك يصرح بأنه مسلم؟

هكذا بدأ خصوم طه حسين يلجأون إلى تجريع سمعته الشخصية كوسيلة لكسب الرأى العام ضده. ومع كل يوم يمر تتعقد الأزمة وتتعدد أطرافها وتختلف أسلحتهم. أطراف تتحرك من خلف الستار. من بين الذين يتحركون خلف الستار أحمد لطفى السيد مدير الجامعة. إنه- بحكم ثقافته، وبحكم صداقته لطه حسين- يريد أن ينهى الموضوع بأقل أضرار ممكنة تصيب طه حسين. وهو- بحكم أنه مدير الجامعة- يريد أن يحفظ للجامعة كرامتها وحرية البحث فيها. ولكنه- بحكم أنه فى النهاية موظف عام- يريد التوفيق بين الضغوط التى يتعرض لها من السياسيين، وبين الآراء التى يتفق فيها مع طه حسين.

هكذا بدا أحمد لطفى السيد اتصالاته، مع سعد زغلول من ناحية، والملك فؤاد من ناحية أخرى، وعدلى يكن رئيس الوزراء من ناحية ثالثة.

وكان الحل الأول هو إقناع الناس بعدم صحة الإشاعات التى انطلقت تشكك فى إسلام طه حسين. يريد الناس ضمانًا على إسلام طه حسين. يريدون على الأقل وثيقة يكتبها طه حسين ويذيعها باسمه. شهادة يعلن فيها طه حسين أنه مسلم وموحد بالله. شهادة مكتوبة؟ طبعًا! لماذا صنع الإنسان الورق إذا لم يكن لإثبات إسلامه؟!

هكذا أرسل طه حسين فى اليوم التالى كتابًا إلى مدير الجامعة ليذاع فى الصحف، يقول فيه:

«كثر اللغط حول الكتاب الذى أصدرته منذ حين باسم (فى الشعر الجاهلى). وقيل إنى تعمدت فيه إهانة الدين والخروج عليه، وإنى أُعلم الإلحاد فى الجامعة. وأنا أؤكد لعزتكم أنى لم أرد إهانة الدين ولم أخرج عليه. وما كان لى أن أفعل ذلك وأنا مسلم أومِن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر... وأنا أرجو أن تتفضلوا فتبلغوا هذا البيان لمن تشاءون وتنشروه، وأن تقبلوا تحياتى الخالصة وإجلالى العظيم». إن طه حسين- قبل صدور كتابه- كان له جسم وعقل. الآن- بعد الكتاب- أصبح يحتاج إلى جسم وعقل و... إعلان عام يشهر إسلامه.

ولم تكن إذاعة هذا الإعلان فى الصحف إلا حلًا واحدًا. حل ثان: الجامعة تشترى جميع نسخ الكتاب من المؤلف حتى تمنعه من التداول فى السوق. مصادرة مهذبة. لهذا اشترت الجامعة ٧٨٧ نسخة من الكتاب بمبلغ مائة جنيه. كما اشترت من مكتبة أخرى ٣٤ نسخة بمبلغ ٥٧٨ قرشًا. فتكون مجموع النسخ المشتراة ٨٢١ نسخة صرف منها أربع نسخ للنيابة العمومية، ونسخة لمدير الجامعة، والباقی حفظ بمخازن الجامعة.

ولأن طه حسين يريد هو الآخر أن يستريح، فقد حذف من الكتاب فصلًا، وأضاف فصولًا، ثم طبعه من جديد بعنوان مختلف، الآن أصبح عنوان الكتاب هو «فى الأدب الجاهلى» بعد أن كان فى الشعر الجاهلى.

ولكن هذه الحلول لم تفلح بإنهاء الأزمة. إن المهاجمين للكتاب أصبحوا كالبحر العاصف. بعد كل موجة هناك انحسار تبدو فيه قوى الهجوم وكأنها قد هدأت. ولكن الانحسار تبعه هجوم آخر أكثر شراسة وعنفًا. إن هؤلاء الذين يقفون وسط البحر العاصف لا يستطيعون مطلقًا معرفة ما إذا كانت الموجة الأخيرة هى الأقوى أم لا؟.

وكان هذا هو قدر طه حسين الذى واجهه من وقتها بكل شجاعة.

من كتاب «أفكار ضد الرصاص»

تاريخ الخبر: 2022-09-06 21:21:45
المصدر: موقع الدستور - مصر
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 55%
الأهمية: 67%

آخر الأخبار حول العالم

أفضل 3 حسابات توفير بعائد نصف سنوي في البنوك - اقتصاد

المصدر: الوطن - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-10 06:21:08
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 60%

بايدن-خلافات-نتنياهو-غزة-رفح

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-05-10 06:22:02
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 59%

هيئة المعابر بغزة تنفي ما ذكرته الولايات المتحدة حول فتح الم

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-05-10 06:22:29
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 63%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية