إليزابيث وعودة الملكيّة... كابوس يطارد الوليّ الفقيه في إيران


بعدما أعلنت لندن وفاة ملكة بريطانيا إليزابيث الثانية عن عمر ناهز 96 عاماً، تباينت ردود الفعل الإيرانية، بشكل عبر عن وضع الحياة السياسية في إيران، بين النظام والمعارضة، بخاصة أن الملكة إليزابيث شكلتْ جزءاً من تاريخ إيران الحديث بسبب طول مدة حكمها، ولذلك كانت الإشارة إلى وفاتها في الإعلام والصحافة الإيرانية بانتهاء "سلطنة الـ70 عاماً". إذ إن النظام في إيران يتعامل مع الملكة إليزابيث بصفتها تاريخاً من الحكم الذي طال تأثيره إيران الشاه خلال عهدها الملكي وكذلك إيران الجمهورية الإسلامية.

والصمت الذي التزمته الحكومة الإيرانية إزاء خبر وفاة الملكة، من دون تقديم أي تعزية للحكومة أو الشعب البريطانيين دليل على أن هذا النظام ما زال يحمل نظرة غضب وثأر قديم تجاه مملكة بريطانيا.

على الجانب الآخر، تقف المعارضة الإيرانية... ومنها أنصار المَلكية، مثلما نجد في صحيفة "كيهان لندن"، مدافعة عن تاريخ الملكة إليزابيث، ومشيرة إلى أن إنكلترا هي أقدم ديموقراطية برلمانية في العالم، والنموذج الذي يتبناه أنصار عودة الملكية إلى إيران في صورتها الدستورية والبرلمانية.

وقد ذهب دفاعهم إلى نقد الجمهورية الإسلامية، قائلين إن إنكلترا التي كانت بالأمس قوة استعمارية هي اليوم ملاذ الباحثين عن الحرية الهاربين من نظام الجمهورية الإسلامية وحكم الولي الفقيه.

حتى رسالة عزاء ولي عهد إيران، رضا بهلوي، إلى الشعب البريطاني، نجدها تصف الملكة بالقوة والشرف والأصالة والعدالة والتقدم والخادمة لوحدة أمتها. وهذه الرسالة تلخص ما يرنو إليه أنصار الملكية من نموذج بريطانيا، وهو أن تكون عودة النظام الملكي البرلماني من أجل ضمان وحدة الأراضي الإيرانية.

وفي الجانب المعارض أيضاً، كان هناك أنصار الدولة الديموقراطية والعلمانية الذين عانوا من نظام الحكم الديني، يسخرون من طول مدة حكم القادة في إيران بما يدل على استبدادهم وفسادهم السياسي، مشيرين إلى أن النظام يعيد تدوير مقاعد السلطة بين أنصاره.

وهذا النوع من المعارضة الذي ينتشر بين الأجيال الجديدة من الشباب، كتب الحكايات الساخرة عن أحمد جنتي، أحد الوجوه المعمرة والمستبدة في إيران، الذي ناهز عمره 95 عاماً، وما زال يتربع على عرش السلطة ويرأس مجلسي الخبراء وصيانة الدستور؛ رغم كبر سنه. لكن الولي الفقيه ما زال في حاجة إلى هندسته السياسية من أجل استقرار نظام الملالي.

حتى أن النكات والحكايات الساخرة يتم تأليفها من جانب المعارضين حوله، فيقولون إن الملكة إليزابيث بعثت برسالة له من قصرها في السماء بأن يترك كل شيء ويأتي إلى الآخرة وعليه ألا يخاف من الموت والرحيل. فضلاً عن حكايات أخرى تسخر من الملاك عزرائيل الذي يخطئ بقبضه أرواح الشباب بدلاً من العجائز أمثال أحمد جنتي.

وبالطبع مثل هذه الحكايات الساخرة هي لانتقاد الوجوه التي طال حكمها واستبدادها في إيران الجمهورية، أطول من حكام العهد الملكي!

العداء للثّعلب العجوز

يتعامل النظام في إيران مع رحيل الملكة إليزابيث على أنه نهاية النسخة القديمة من النظام الملكي في بريطانيا، التي لطالما وصفها بالثعلب العجوز. والمقصود هو بريطانيا الملكة إليزابيث التي ساندت إيران الشاه، والتي تحتل جزءاً كبيراً من ذاكرة الأمة الإيرانية وتاريخها.

لقد ارتبط اسم بريطانيا في أذهان الإيرانيين بالغزو الأنغلو-سوفياتي للأراضي الإيرانية عام 1941، وذلك بعدما أبدى الشاه رضا بهلوي تعاوناً مع قوات المحور. الأمر الذي أزعج الحلفاء ودفعهم إلى دخول إيران للسيطرة على آبار النفط، الروس في الشمال، والإنكليز في الجنوب. ثم خلعوا الشاه رضا ونفوه إلى جنوب أفريقيا، ونصبوا ابنه محمد خلفاً له.

لكن طبيعة النظام السوفياتي الشيوعي الذي كان يخشى الشاه من تأثيره في النظام الملكي في إيران دفع الشاه محمد إلى الاقتراب أكثر من حكومة بريطانيا التي نظامها السياسي يشبه نظام دولته.

ولذلك، فإن نظام ولاية الفقيه يتعامل منذ تأسيسه بعد ثورة 1979، مع بريطانيا وملكتها بصورة الثأر، وأن العداء معها هو عداء لنظام الشاه المخلوع محمد رضا. فالدولة البهلوية متهمة بالتعاون مع الاستخبارات البريطانية في رسم خطة الانقلاب على رئيس الوزراء، محمد مصدق، عام 1953، بعد دعوته إلى تأميم النفط الإيراني، وتصديره فكرته إلى مصر في عهد الرئيس جمال عبد الناصر؛ لتضييق الخناق على بريطانيا التي تحصل على النفط من إيران ويصل إلى أراضيها عبر قناة السويس.

والعلاقة بين الشاه والملكة كانت من القوة لدرجة إلى أن قام الشاه محمد رضا بزيارة للندن استمرت لمدة أسبوع، في 5 أيار (مايو) 1959. وهناك استُقبل بحفاوة كبيرة، وأهدته الملكة شهادة فخرية من القوات الجوية الملكية. وبعدها قامت الملكة بزيارة لإيران، استغرقت 10 أيام، في الأول من آذار (مارس) 1961، زارت فيها طهران وأصفهان وشيراز.

وخلال زيارة الملكة إليزابيث السعودية والإمارات وسلطنة عمان والكويت وقطر عام 1979، خططت لزيارة مدن جنوب إيران، لكن وقوع الثورة حال دون ذلك.

كذلك، يشترك القوميون والإسلاميون في إيران في نظرة اتهامهم تجاه بريطانيا، على أنها السبب في إضعاف مكانة إيران في منطقة الخليج؛ بعد إعلان استقلال البحرين وعزل نفطها عن إيران في العهد البهلوي. وقبلها في العهد القاجاري، فإن بريطانيا متهمة بخسارة إيران أراضيها في أفغانستان وكذلك خسارة آذربيجان في الشمال أيضاً.

لم ترحل الملكة

رحل الشاه من إيرانظ، لكن النظام الحاكم في طهران ينظر إلى ملكة بريطانيا وسفارتها في طهران، على أنها ما زالت باقية وتؤثر فيه. إذ بعد تظاهرات الحركة الخضراء المعارضة، عام 2009، التي وقعت بعد إعلان فوز الرئيس الإيراني أحمدي نجاد بولاية ثانية، وخسارة زعيم الحركة الخضراء الإصلاحي مير حسين موسوي، اتهم النظام الإيراني لندن بالوقوف وراء دعم المعارضة الإيرانية.

وهو ما أعطى الضوء الأخضر للمتظاهرين الموالين للنظام وقوات الباسيج باقتحام السفارة البريطانية عام 2011 وتخريب محتوياتها وإسقاط صورة للملكة إليزابيث، والكتابة على رأس أخرى "الموت لبريطانيا".

لقد كان وما زال الإعلام البريطاني الموجّه بالفارسية، بخاصة شبكة "بي بي سي الفارسية"، بمثابة صداع في رأس النظام الإيراني، الذي يعتبر أن هذا الإعلام يستهدفه، وأن بريطانيا تقدم الدعم للمعارضة الإيرانية ولطوائف مثل البهائية من أجل إضعاف هذا النظام.

ويتهم النظام الإيراني هذه الشبكة بالتمويل من القصر الملكي ومن جهات أجنبية تعمل ضده. وأن لندن الملكية البرلمانية ما زالت آلتها الإعلامية تعمل ضد الحركات الجمهوريات المستقلة، بما فيها الجمهورية الإيرانية، بخاصة أن لندن تستضيف أيضاً قنوات إيرانية أخرى معارضة لنظام ولاية الفقيه، منها: "من و تو" و"إيران إنترنشنال".

ولذلك لطالما يتعامل النظام الإيراني مع السفارة البريطانية بأنها قاعدة استعمارية ما زالت تعمل ضد الشعب الإيراني. حتى أنه في كل عام، وبينما تقيم السفارة البريطانية حفلاً لعيد ميلاد الملكة، تقوم آلة الدعاية الإيرانية بمهاجمة المشاركين في الحفل وإعادة الحديث عن جرائم بريطانيا، قديمها وحديثها. ويصل الأمر إلى عرض أفلام وثائقية مضادة للمملكة البريطانية على سور سفارتها في طهران.

لقد استمر النظام الإيراني في التعامل مع ملكة بريطانيا، وكأنها القائد الأعلى الذي كان يحرك الشاه، ورغم رحيله، إلا إنها ما زالت النظام الملكي الباقي والفاعل في إيران.

ويستغل هذا النظام حوادث "الجمعة السوداء" (17 شهريور) 8 أيلول (سبتمبر) 1978؛ حينما فتحت قوات الشاه النار على المتظاهرين؛ لتظل نقطة سوداء يستخدمها في إدانة بريطانيا واتهامها بالوقوف وراء هذا القرار الذي اتخذه الجيش الإيراني بالتشاور مع سفارتها.

حقبة جديدة ولكن!

ينظر الساسة في إيران إلى رحيل الملكة إليزابيث، وكأنه إعلان انتهاء حقبة من التقاليد المحافظة التي كانت تنظر إلى إيران وغيرها من الممالك على أنها إرث المرحلة الاستعمارية. وإن كان هذا الرحيل لا يعني انتهاء النظرة السيئة من جانب إيران تجاه بريطانيا.

لكن مثلما كان انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست) بعد استفتاء 23 حزيران (يونيو) 2016، نقطة إيجابية لمصلحة طهران، إذ خرجت بريطانيا من المجموعة الأوروبية التي فرضت عقوباتها على إيران، كذلك، فإن رحيل الملكة إليزابيث صاحبة التقاليد والقيم المحافظة فرصة أخرى لضعف بريطانيا في عهد الملك الجديد، تشارلز الثالث؛ الذي من المتوقع أن تزداد في عهده مطالب الانفصال عن التاج البريطاني. فضلاً عن المطالبة بالتعويضات عن الحقبة الاستعمارية لدى بعض دول الكومنولث.

مع ذلك، لا يمكن توقع حدوث طفرة في العلاقات بين طهران ولندن خلال هذه الحقبة الجديدة، فإن استمرار اعتقال مزدوجي الجنسية الإيرانية-البريطانية وتبادل توقيف السفن بين البلدين؛ لا يعنيان أن تحسن العلاقات بين طهران ولندن يتوقف على رحيل الملكة أو إتمام الاتفاق النووي، وإن كان هذا له تأثير نسبي، ولكن الأمر يتعلق بالعلاقة بين بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية، بخاصة أن هذه العلاقة تعززت بعد البريكست لملء الفراغ الأوروبي. وهو ما عزز حالة العداء والندية مع إيران، لا سيما في منطقة الخليج والتنافس على النفوذ هناك.

والتصريحات المتشددة التي أعلنتها رئيسة الوزراء البريطانية الجديدة، ليز تراس، تجاه النووي الإيراني تؤشر إلى أن الخطاب البريطاني تجاه إيران مستمر في الارتباط بالسياسة الأميركية.

المحصّلة

إن النظام في إيران يستند إلى التاريخ الاستعماري لبريطانيا في تبرير نظرته العدائية تجاه لندن، ويتحدث كثيراً عن مرحلة الشاه والدعم الإنكليزي له في هذه المرحلة. لكن هذا العداء يرتبط أكثر بالسلوك البريطاني تجاه إيران الولي الفقيه في مرحلة ما بعد الثورة، والدور الذي ما زالت تلعبه لندن في تحوّلها إلى قاعدة لاستضافة المعارضة الإيرانية ضد نظام ولاية الفقيه.

لم يقدم النظام الإيراني تعازيه للأمة البريطانية بعد رحيل الملكة إليزابيث، لأن قيامه بذلك، يخدش القيم التي تأسس عليها. فضلاً عن نظرة الثأر التي يقدمها تجاه شخص الملكة.

يمثل رحيل الملكة إليزابيث حقبة جديدة أمام مكاسب إيران من ضعف بريطانيا الملكية، لكن هذا لا يعني وجود فرصة جديدة لتحسين العلاقات؛ لأن مثل هذا مرتبط بالقرار في واشنطن.

نقلا عن النهار

تاريخ الخبر: 2022-09-13 03:18:26
المصدر: العربية - السعودية
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 76%
الأهمية: 99%

آخر الأخبار حول العالم

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية