صناعة الحرية (25).. زيارات العمل


زيارات عمل..

بالإضافة إلى ما سبق أسهمت هذه الخلوة السجنية الاضطرارية في وقوع تحول في فكر الرجل اتسعت معه الرؤية وتعمقت التجربة؛ تجربة صناعة الحرية في أرض الاستبداد. فالحرية ليست شِعرا محلقا ولا فلسفة ذهنية، وإنما هي “شعار ومفهوم وتجربة” ، وقد أضحت التجربة نموذجا يحتذى، تتبَّعها واستوعب دروسها أصدقاء الرجل في السجن وزواره وتلاميذه، إذ سُمح له -وبعد نضال مرير خاضه من داخل السجن، وأسهم فيه الزوار أيضا- بالزيارة ثلاث مرات في الأسبوع يوم الخميس صباحا ومساء، ويوم السبت صباحاً، بعدما كانت ممنوعة. وقد كان الأستاذ يُلقي على زائريه دروسا ووعظا، ويعبر عن موقفه ويشرح تصوره بجرأة ووضوح وجهر يسمعه الحراس والإداريون ، ولا يسُر إليهم كلاما مهموسا حتى لا يدع فرصة ليتهموه بالسرية، فازداد الأعضاء بتلك اللقاءات ثباتا على الموقف وتعرفا أعمق على شخصية مرشدهم.

 ويذكر الأستاذ محمد بشيري رحمه الله (ت1998م)” في مقال له بآخر عدد من أعداد مجلة الجماعة: “هناك في سجن “العلو”، وفي يومي الخميس والسبت ينظر ياسين بثقة المؤمن الرباني إلى زائريه من الإخوة والأخوات وابتسامته الراضية لا تغادر شفتيه. وقبل أن يسألوه عن سجنه يبادرهم هو بالسؤال: “كيف حالكم في سجنكم الكبير”. ثم يزودهم بنصائحه وتوجيهاته الموجزة البليغة المعبرة، ناضجة بالصدق، طافحة بالثقة بالله والاعتماد عليه، زاخرة بالحكمة وبعد النظر: “عليكم بتقوى الله. تمسكوا بحبله المتين. إياكم أن تقعوا في أحابيل من يستدرجكم إلى العنف! فدعوتنا على منهاج رسول الله صلى الله عليه وسلم قامت، وعلى هديه بمشيئة الله تسير. أقيموا الحجة عليهم. أشعروهم أنهم عبثا يحاولون وأدنا. كذّبوا مزاعمهم بسلوككم الإسلامي الرصين. ليكن اتكالكم كاملا على الله. تجنبوا الإثارة وانضبطوا. أفهموهم أنكم دعاة سلم وأصحاب حق. لا يحزننكم سجني، فأنا في ضيافة الله وبصحبته سبحانه إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِين (الشعراء: 62).

وقبل أن تصدر من الحراس الإشارة بالانصراف يودع ياسين إخوته وتلامذته راضيا بقضاء الله، والابتسامة الصبور الحانية مرسومة على شفتيه تنطق بلغة فصيحة لا يفقهها إلا العالمون” .

وبين الفينة والأخرى كان يخص أحد زواره برسالة توجيهية، وكم كانت عنايته بالرسائل شديدة، إذ خط منها العشرات ، لكنها لا تزال مخطوطة عند أصحابها، نذكر منها رسالته من سجن لعلو إلى الأستاذ منير ركراكي يحثه على كتابة ملحمة شعرية عن تاريخ دعوة الرُّسل عليهم السلام، وهي مؤرَّخة بيوم الأربعاء تاسع رجب 1404ه، وكتَب فيها بعد السلام والتحية:

“أكتبُ إليك هذا الاقتراح: ملحمة شعرية تُخَصِّص للتفكير فيها وإنجازها سنوات. ضعها منذ الآن على المنوال (…)

الملحمة أن تَعْرِض بزوغ الرسل بنور الهداية، ومعارضة الأصوات المشوشة (أذى، تكذيب، نفي، قتل، حرب، شِعْب أبي طالب، إغراء… خُذ أمثلة من كل الأنبياء ومن السيرة العطرة).

أَكْثِر من قراءة حسان بن ثابت رضي الله عنه، وتمرَّس بعباراته ونَفَسه، وأكثِر من قراءة شوقي لتستلهم شاعريته ونظرته للعصر. وانظُر هل تجد شعر مُحَرَّم  المعاصِر لشوقي. صناعة شوقي ونَفَس حسان المؤيد بروح القدس رضي الله عنه… يتعاقب في قصيدتك الإشادة بثبات الدعوة ورجالاتها، ورسالتها، ومضائها، وانتصارها مع الأصوات المـُشوِّشة المجرمة والمستهزئة. كما تعاقب أمس الصوت القوي الماضي مع هتافات أهل الفجور المتقطعة.

في تاريخ الإسلام من عهد الأنبياء، وفي تاريخ هذه الأمة المحمّدية حركات وفلسفات وغُزاة وملحدون وأفاكون ومنافقون وباطنية و”حافظ أسدية” و”عفلقية” في كلّ العصور. اُسرد التاريخ وما كاد الأعداء للإسلام فكريا وعقائديا وعسكريا وسياسيا واستعماريا. وتبقى اللاَّزِمة في شعرك أنّ جند الله سائر لنصر الله حتى يَعُمّ الإسلام كل بيت حَجَر ومَدَر، وحتى يُظهِره الله على الدّين كله. قافلة الإسلام ما يُصيبها نُباح الأعداء ولا تموت.

نَوِّعِ البُحور، واختر منها الأنسب. اعمل لا تعجل، وأحْسِن وجَوِّد. مجرّد اقتراح. فَكِّر فيه وثَوِّرْه، وكُن في شعرك “قَوْمَتِيّا” مِن القومة. كن حماسيا. كُن صوتا مجلجِلا. كُن رَعْدا. فَكِّر في الموضوع ووافِني بما ترى.

 وفَّقَكُم الله ورعاكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته” .

من هنا نعرف فيمَ يفكر هذا الرجل “النوري”  بتعبير مبارك ربيع، ولمَ يخطط… ولمَ سُجن وعودي! ولمَ يتحدث عنه الجميع؟ ولمَ يستحق أن نتحدث عنه ونتدارس مشروعه.


[1] لعل بعض هذا التحول هو مما تحدث عنه الأستاذ في حوار شامل، ص 53، من توسع للجماعة وشهرتها بين صفوف الطلبة والتلاميذ ورجال ونساء التعليم والعمال، حيث تم اختبار التصور النظري السابق عن العمل في أرض الواقع بإكراهاتها الثقافية والاجتماعية والسياسية. ويضاف له ما تحدث عنه محمد العيادي من تحول في فكر الأستاذ في كتابه “دراسات في المجتمع والتاريخ والدين”، مرجع سابق، ص 205. ناهيك عما تحدث عنه الأستاذ بنفسه رحمه الله.
[2] العروي، عبد الله. مفهوم الحرية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط5، 2012م، ص9.
[3] انظر: الجزء الثاني من حوار مع الإمام في برنامج مراجعات (الحلقة الثالثة)، مرجع سابق، ابتداء من الدقيقة 30.
[4] كُتب المقال باسم مستعار هو “أبو جهاد”.
[5] بشيري، محمد. “لك الله يا ياسين”، مجلة الجماعة، مرجع سابق، عدد 16، ط1، 1985م، ص 10.
[6] ضمن الملحقات تجد منها رسالة الأستاذ إلى بنته مريم، “رسالة إلى بنيتي مريم”، وإلى الطلبة. وقد يصدر كتاب الرسائل منفردا يوما ما.
[7] أحمد محرم (1877-1945م)، شاعر مصري من أصول تركية.
[8] ركراكي، منير. من الأقصى إلى الأقصى (ديوان شعر)، مطابع دعاية، سلا، ط 1، 2018م، ص 7-8.
[9] ربيع، مبارك. الطيبون، دار الكتاب، الدار البيضاء، ط1، 1971م، ص 113.
تاريخ الخبر: 2022-10-17 18:20:16
المصدر: الجماعة.نت - المغرب
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 46%
الأهمية: 52%

آخر الأخبار حول العالم

إيقاعات الجاز تصدح بطنجة بحضور مشاهير العازفين من العالم

المصدر: موقع الدار - المغرب التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-05-01 09:24:52
مستوى الصحة: 49% الأهمية: 52%

«نزاهة»: إيقاف 166 فاسداً في 7 وزارات - أخبار السعودية

المصدر: صحيفة عكاظ - السعودية التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-05-01 09:23:39
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 57%

الصين: وصول رواد فضاء المركبة الفضائية “شنتشو-17” لبكين

المصدر: موقع الدار - المغرب التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-05-01 09:24:56
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 51%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية