رسائل غير معنونة فى صندوق البريد

رسالة ١

احذر، فكل من مر هناك يريد ابتلاع قطعة من روحك.. أكبر قطعة يمكنه انتزاعها منك، قد تكون حتى أكبر من هوة حنجرته المتأهبة دائمًا للابتلاع. يتركك تتأمل نفسك وهى تنعصر بين أنيابه، وتنزف ذكرياتك إلى آخرها بين شقوق شفتيه، ثم يترك الباقى منك فريسة لمصير آخر.

تحاول أن تقطب روحك، لكن يد العفن تسبقك إليها، وتجد نفسك أمام سؤال يرتدى زى قاضٍ خلفه ميزان عملاق، لكن لا تستطيع الجزم: هل الميل فيه أم فى زاوية رؤيتك بعد أن سرقوا روحك؟ تختصم الغريب أمام القاضى وكلك أمل فى أن يعيد إليك شيئًا، ولكن قبل أن تفقد رؤيتك تمامًا، يكرر القاضى نفسه: هل تمضى بلا روح أم نطبب لك العفن؟

حينها ستحاول جاهدًا الوصول إلى الكفة المائلة، حيث يمكنك القفز ليس إليها، ولكن من القاعة.. من الطريق.. من السؤال.. مما تبقى منك.

وينتهى محضر الجلسة بتوقيع: تحياتى

 

رسالة ٢

يبدو أن البذرة التى استودعتها إياك قد نبتت وأيعنت ثمرتها بالسماء. يبدو أنها زهرة رُوزِية، أخذت ملائكية الأبيض ممزوجة بثورة الأحمر، لتحيا كأنثى متوردة لا ينقصها إلا قلب مملوء بقطرات الندى، لكن ساقيها الممدتين نحو السماء، قد ذَبحتا كل الحكايات الوردية بنصال أشواكهما قبل أن تصل.

فإما أن ترفعنى إلى هناك.. وإما أن تؤتينى قلبًا نديًّا، ولا يخشى الشوك.

 

رسالة ٣

كنت أراك كل يوم وأنت تغرس بذور الظل حول شرفاتى.. حينها لم أكن أخشى غير نبتة العطر.. العطر فقط يقتلنى شنقًا ولا تمنعه أبواب. ونسيت بفعل الوقت غرسك المدفون أسفل منى.. ونسيتك. خطواتك المترددة كانت إذنًا للنسيان. ربما كان علىّ أن أكتب جديدًا عن شىء آخر.. ربما عن جولاتى المتكررة مع ضيق النَّفَس.

متى يكف الموت عن إرسال صبيته الذين يُخَلخلونك ويُميتونك مَرّات قبل أن يتسلمك وأنت ميت بالفعل؟

لم لا نَمضى دفعة واحدة كنخلة سقطت مغشيًّا عليها من ضربة شمس؟ تبدو لى نهايةً أجلّ وأنا أصارع النور لا المرض.. نهاية تليق بمواليد الربيع! لكن زرعتك التى تدخلت فجأة، لا أدرى هل منحتنى الظل أم حرمتنى نهاية أفضل.. إنها أربكت مفاهيم الموت والحب والحياة بداخلى.. جعلتها جميعها تبدو كمخلوط محرَّم مُزِج عنوة ووُضِع فى كأس واحدة. سيكون نخب أول لقاء بيننا إن أمهلنى صِبيْية العطر حتى العَشاء.

 

رسالة ٤

أعلم مقدار ضعفى أمام هزيمة الفقد، لذا أتحاشى طاولات الرهان.. فى كل مرة أكتفى بصنع أقدار موازية، وأنا أتقلب بين زوايا الرؤية. أراقب تتابع الألوان إثر انكسار الضوء. كل من مر هناك أدرك أنه لم يكن سوى درجة فى قوس قزح عملاق، يتلاشى طوله الموجى لمجرد مرورك بذهنى، مثل سهم أبيض يحسم كل المعارك التى تدار على شرف ملامحى بين الظل والنور.. ربما لأنك تختصرها جميعًا.. تختصر أمة من الألوان بداخلك.

 

رسالة ٥

الكون صار مرعبًا بدرجة قد تجعل من الانتحار محاولة هادئة للاختباء. ربما فقدت عقلى عددًا من المرات وأنا ألتجئ إليك على حافة الشرفة، لإنها الرحلة بالكلمة التى لا تقبل «الفصال» أو المزايدة.

تعلم أن كل هذه المرات كانت محض محاولات للقفز، لا أعلم إلى أين.. لكن «مِن أين» دائمًا هو ما كان المهم.

كنت حينها أمتلك شجاعة القفز. فى إحدى المرات كنت أصرخ وهم يجذبوننى إلى الخلف، كأنى أرى عيون الموت تلفظنى هى الأخرى. أما الآن، وقد تخلت الأيادى كلها، وصارت الشرفات متاحة، بقيت نظرة منه أو إليه كفيلة لتخبرنى كم أنا ضعيفة.. ضعيفة لأنى ورطت طفلى فى هذا العالم، ولا يسعنى تركه وحيدًا. لكن عقلى ظل انتحاريًّا، لذا فعذرًا إن سقطت منّى أسماؤكم أو أرقامكم أو تواريخكم المقدسة، فهى لم تَسقط خَرَفًا إنما سقطت على أثر القفز المتكرر بعقلى عددًا من المرات كل يوم.

مرويات

فى الطريق إلى البيت وجدت الجو دافئًا على عكس الحال فى الصباح.

ليست هناك سوى سحابات خفيفة شفافة وشمس العصر دافئة وهادئة تغرى بالاسترخاء تحت أشعتها. لكن عندما فتحت الباب وجدتهما تجلسان معًا حول المائدة، وقد فردت كاثرين فوقها أوراقها الكثيرة التى تشبه الخرائط.

قلت بدهشة: هل سنتغدى فراعنة اليوم؟

فهتفت كاثرين بحماس: سنؤجل الغداء قليلًا بعد إذنك. أنت وصلت قبل موعدك لكنى سعيدة لأنك جئت الآن.

أريد رأيك. كنت على وشك أن أقرأ على فيونا ما وجدته.

التفتت فيونا نحوى وقالت ببسمتها التى تشيع بعض الحياة فى وجهها الشاحب: أليس هذا رائعًا؟ وجدت كاثرين أخيرًا ما كانت تبحث عنه.

سعلت بشكل متقطع وهى تضع يدها على فمها ثم أكملت:

أظن.. أظن أن المؤرخين.. الـ.. الـ.. المؤرخين سيهتمون بها.

نقلت بصرى إلى كاثرين وسألتها فى حيرة:

- أى مؤرخين؟.. ما الذى سيهتمون به؟

- الإشارة.. الدليل.. قلت لك هذا ليلة الأمس لكنك لم تنتبه.

ظللت صامتًا وأنا أتطلع لها مستفهمًا فأكملت: تذكر يوم ذهبنا معًا إلى معبد أم عبيدة؟

- وكيف أنسى ذلك اليوم؟

أكملت بالانفعال نفسه: كان الدليل هناك يا محمود لكنى لم أهتم به، نقلته بيدى ولم أنتبه، حسبته تضرعًا عاديًا للإله آمون، ركزت بغباء على البحث عن الكتابات اليونانية مع أنه لم يكن إلهًا لليونانيين وحدهم. هو ابن آمون رع. إله الكون وإله الشمس، وكان المصريون يعبدونه بهذه الصفة. بعض الأنهر كانت مطموسة ولهذا ذهبت إلى المعبد مرة أخرى لأتحقق منها.. و..

قاطعتها وأنا أصرخ تقریبًا: من فضلك ما الذى تتكلمين عنه یا کاثرین؟

أنا لا أفهم أى شىء.

فصاحت بدورها: کیف لا تفهم؟ ألم أقل لك من قبل إنى أبحث عن دليل على مقبرة الإسكندر فى سيوة؟

- مطلقا! تبحثين عن دليل على مقبرة الإسكندر هنا؟ فى الصحراء وفى معبد أم عبيدة المشئوم؟ لو سمعت منك هذا من قبل لقلت إنك مجنونة..

قالت بابتسامة ظافرة: بالطبع! لست وحدك! كثيرون غيرك كانوا سيقولون إننى مجنونة! لكن اسمع من فضلك.. اسمع قبل أن تحكم.. بدأت تقرأ وهى تركز على ألفاظ بعينها وتنقل بصرها بینی وبين فيونا «أتريان؟»، وكنت أنا أركز بصرى على فيونا التى أصبح وجهها أصفر تقريبًا فى الأيام الأخيرة، لكننى أرغمت نفسى على الاستماع إلى كاثرين وهى تقرأ كأنها ترتل وتنظر إلينا بين كل جملة وأخرى لتتأكد أننا نتابع ونفهم.

من رواية: واحة الغروب.. جائزة البوكر العربية ٢٠٠٨

تاريخ الخبر: 2022-10-29 21:21:57
المصدر: موقع الدستور - مصر
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 57%
الأهمية: 58%

آخر الأخبار حول العالم

فرنسا.. قتيل وجريح في حادث إطلاق نار في تولوز

المصدر: موقع الدار - المغرب التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-05-04 18:25:08
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 61%

جلالة الملك يوجه خطابا إلى القمة الـ 15 لمنظمة التعاون الإسلامي

المصدر: موقع الدار - المغرب التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-05-04 18:25:03
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 60%

سمرقند تستضيف قرعة كأس العالم لكرة القدم داخل القاعة يوم 26 ماي

المصدر: موقع الدار - المغرب التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-05-04 18:25:05
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 63%

تحديات الذكاء الإصطناعي.. وآليات التوجيه

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-04 18:25:37
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 56%

تحديات الذكاء الإصطناعي.. وآليات التوجيه

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-04 18:25:45
مستوى الصحة: 54% الأهمية: 50%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية