البشرية ومنظومة دولية أكثر إنسانوية


على عتبات عام جديد، وبعد نحو ثلاثة أعوام عجاف عاشتها البشرية، ما بين فيروس جائح، ثم حرب إقليمية، يمكنها أن تتحول إلى مواجهة كونية، عطفا على توقعات اقتصادية مزعجة للعام القادم، وفي الوسط من هذا كله فشل أممي في السيطرة على المشهد النووي، لا سيما بعدما تم تأجيل لقاءات ستارت التي كانت مقررة في التاسع والعشرين من شهر نوفمبر تشرين الثاني المنصرم.. هل للمرء أن يتساءل عن حتمية الحاجة إلى منظومة دولية مغايرة لما مضت به الأقدار، ودفعت إليه الخطوب، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وظهور هيئة الأمم المتحدة، ونظام بريتون وودز الذي يقود الاقتصاد العالمي المأزوم حتى الساعة؟

قبل الجواب، ربما يتوجب علينا الإشارة إلى عدة نقاط، وفي مقدمتها حالة السيولة الجيواستراتيجية التي أضحى العالم عليها، إذ لم يعد الكون مقسما تقسيمة ثنائية، كما كان الحال طوال فترة الحرب الباردة، التي أعقبت الحرب الكونية الثانية، بين معسكرين شرقي وغربي، حلف وارسو وحلف الأطلنطي، بل بات مشهد العالم متشظيا بصورة غير مسبوقة، وأضحت هناك تحالفات جديدة صاعدة في أعلى عليين، كثير منها سياسي بتموضع اقتصادي، إن جاز التعبير، من عينة مجموعة شنغهاي الآسيوية من جهة، أو تجمع دول البريكس من جهة ثانية.

تلفت هذه التحالفات الانتباه إلى ما حدث على الخارطة السياسية الأممية، إذ لم تعد القومية أو الجغرافيا ولا الديموغرافيا هي المحدد الرئيس، كما كان الحال من قبل، فعلى سبيل المثال، يمكن للقارئ النظر إلى تجمع دول البريكس، المثال الذي يؤشر إلى تطورات المشهد الأممي، فهو يضم دولا من آسيا كما الصين والهند، ودولا من القارة السمراء كما الحال مع جنوب إفريقيا، ودولا من أقصى الشرق الآسيوي، كما الوضع في حال روسيا الاتحادية، ومعهم البرازيل في أقصى القارة الأميركية اللاتينية.

عطفا على ذلك فإن تجمع البريكس يضم دولا ذات توجهات دوغمائية مختلفة، وسكانية مغايرة، ولسانية متباينة، وكأننا في رواق الأمم القديم.

لم يعد عالمنا المعاصر مشابها لما كانت عليه الكرة الأرضية عشية انتصار دول الحلفاء على الفريق المنافس لهم، أي دول المحور، والمتضمن ألمانيا النازية، وإيطاليا الفاشية، بالإضافة إلى اليابان الإمبراطورية.

عطفا على ذلك، فإنه في نهاية الحرب العالمية الثانية، لم يكن نموذج أشباه الدول معروفا ولا مؤثرا ونافذا كما هو الآن، ونقصد بأشباه الدول التجمعات الاقتصادية المالية العالمية، مثل كارتلات النفط، أو جماعات الضغط الخاصة بالسلاح، وفي مقدمها المجمع الصناعي العسكري الأميركي بأضلاعه الثلاثة: صناع السلاح في المصانع، وجنرالات الحروب في البنتاغون، إضافة إلى المشرعين في الكونغرس بغرفتيه الأعلى الشيوخ والأدنى النواب.

هذا النموذج من أشباه الدول هو ما يعرف بالشركات المتعددة الجنسيات، أو المتعدية للجنسيات، بمعنى أنها باتت فوق الانتماءات إلى دول بعينها، سيما أنها كيانات اقتصادية أخطبوطية، تسيطر على مقدرات العالم، بل لا نغالي إن قلنا إنها تمد أذرعها علانية وخفية للتحكم في صناع القرارات السياسية من مشارق الأرض إلى مغاربها، ومن شمالها إلى جنوبها.

الحاجة إلى منظومة دولية جديدة، أمر ربما تفرضه الأشياء الحديثة في مجال الاقتصاد حول الكرة الأرضية، إذ يبدو للناظرين أن نظام "بريتون وودز" الذي تبلور في أعقاب الحرب الكونية الكبرى، لم يعد قادرا على السيطرة على الأحوال المالية والتوجهات الاقتصادية للعالم بصورته المعاصرة.

تبدو هناك كذلك حقيقة مؤكدة أخرى، لابد من التعامل معها، وهي أن قلب العالم القديم، ذاك الذي كان محلا للتراكم الرأسمالي في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، يتغير ويتحرك إلى الشرق نحو آسيا الصاعدة بقوة، وفيها الصين على سبيل المثال، مرشحة خلال سنوات قليلة لأن تقود العالم ماليا، هناك حيث الدولار لن يبقى طويلا، ذاك "اللورد الأخضر"، القادر على أن يأمر فيطاع.

تحتاج الإنسانية في الوقت الحالي إلى نظام عالمي جديد قادر على التعاطي مع التهديدات التي تشكل نوازل، والتي تؤثر تأثيرا خطيرا على مستقبل الإنسانية.

ومن بين المسببات التي تستدعي البحث عن معالم وملامح منظومة عالمية جديدة، تطفو على السطح قضية "الذكاء الاصطناعي"، هذا التطور الخطير والمثير، الذي يحاول إزاحة العنصر البشري لصالح الروبوتات التي تهدد باحتلال وظائف العالم، ما ينذر بثورة جديدة بين البلاشفة والمناشفة إذا جاز لنا استعارة اللغة الروسية، بمعناها المجرد وليس الأيديولوجي، أي بين الأغلبية والأقلية، وستكون الأغلبية للبشر ولجموع العمال والفلاحين وأقنان الأرض، كما كان يقول دويستفسكي، من قبل المطحونين والمعذبين، والذين باتوا عبيدا للرأسماليين من الاقطاعيين الجدد، أصحاب رؤوس الأموال، الحالمين باستبدال الروبوتات بالعنصر الإنساني.

وإن ينسى المرء فلا يمكنه أن ينسى النوازل المستجدة، وعلى رأسها الحرب الإيكولوجية، والتي تشنها الطبيعة على البشر، وأزمات الطاقة المتصاعدة، ومن غير أن نهمل إشكالية الأمن الغذائي لنحو 8 مليارات فم على وجه الأرض، ومؤخرا طفا على السطح تعبير الدول المارقة فضائيا، والتي أشار إلى بعضها الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في زيارته الأخيرة والمثيرة هذه الأيام للولايات المتحدة الأميركية.

هل من خلاصة؟

يبقى الاجتهاد الدولي مفتوحا حول التساؤل الرئيس: "كيف للبشرية أن تبلور نظاما عالميا جديدا أكثر إنسانوية، وأقل براغماتية، عالم فيه مساحة للروح وليس ماديا مفرغا من الرؤى الإيمانية والعقدية، عالم من الديالوج وليس المنولوج، يراعي مصالح البشر جميعا، من غير محاصصة أو تمييز، وبدون إقصاء أو عزل وإبعاد.

تاريخ الخبر: 2022-12-02 06:18:18
المصدر: العربية - السعودية
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 81%
الأهمية: 92%

آخر الأخبار حول العالم

أرامكو تعلن عن النتائج المالية للربع الأول من عام 2024 السعودية

المصدر: جريدة الوطن - السعودية التصنيف: إقتصاد
تاريخ الخبر: 2024-05-07 12:24:19
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 70%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية