اتفاق جوبا: خلفية تاريخية لتهميش دارفور «1- 8»


اتفاق جوبا: خلفية تاريخية لتهميش دارفور «1- 8»

د. صديق الزيلعي

أصبحت قضية الهامش قضية مركزية في الصراع السياسي، خاصة بعد اتفاق جوبا. وشكل قادة حركات دارفور طرفا من الأطراف الفاعلة في الساحة السياسية في بلادنا. تهدف هذه المقالات لابتدار نقاش عقلاني مع المهتمين بقضايا الهامش، وخاصة أبناء دارفور بمختلف اتجاهاتهم. ستبدأ المقالات بتقديم خلفية تاريخية للازمة الوطنية، في تجليها الدارفوري. ثم نناقش ظروف عقد الاتفاق، وبعد ذلك نناقش بنوده، ونختم بنظرة مستقبلية لكامل المسألة.

ازمة دارفور في جوهرها أزمة إقتصادية/ سياسية/بيئية /اثنية /إجتماعية /ثقافية. لا يمكن تبسيطها بإرجاعها لعامل وحيد، مهما عظم شأنه و كبُر تأثيره. فالتهميش مثلا شكّل سببا اساسيا وعاملا فعالا في تفجير الازمة، ولكنه، وحده، لا يقدم تفسيرا كاملا لكل ما حدث، خاصة وان قضايا ومشاكل دارفور معقدة اصلا، وتعقدت اكثر بمرور الزمن وتداخل عدة عوامل مع بعضها البعض في تفاعل مركّز. لا نعتقد بان أي نظرية احادية الجانب تساعد في تقديم حلول واقعية تعالج جذور ازمة بحجم ازمة دارفور، خاصة إذا علمنا ان دارفور هي سودان مُصغّر في كبر حجمها (حوالي خمس السودان) وتعدد قبائلها وتنوع بيئاتها الطبيعية وانشطتها البشرية بالإضافة لمجاورتها لأربعة اقطار. ونعتقد بان الحلول الثنائية لن تؤدى الا لتعميق الازمة واستمرار معاناة الملايين من البسطاء وزيادة الانقسامات القبلية التي اتخذت طابعا تناحريا، يهدد بشكل دائم، لا رجعة فيه، التعايش السلمى الذى اشتهر به ابناء دارفور لعدة قرون.

ووضعا للمسألة في اطارها التاريخي العام، قمنا بحصر العوامل المتعددة التي فجرت الازمة، ثم قمنا بتبويبها وترقيمها حتى تعطى القارئ الصورة العامة المجملة. وننبه هنا ان تلك العوامل ليست كتلا صماء تتحرك لوحدها في خط مستقيم وموازي للأخريات. وانما هي عوامل متداخلة، تؤثر وتتأثر وتتفاعل وتعمق اثار بعضها البعض، وقد نتج بعضها عن عوامل سبقته وأثّرت، هي بدورها، في عوامل لاحقة. ونرى الا يُفهم هذا التقسيم الا في اطار النظرة الكلية الشاملة للازمة الدارفورية.

في راينا ان العوامل/ الاسباب التي ادت لتفجر الازمة في دارفور هي:

(1) قضية التهميش الاقتصادي والاجتماعي.

(2) الصراع حول الارض.

(3) موجات الجفاف والتصحر.

(4) سياسات الحكومات المركزية المتعاقبة، خاصة سلطة الاسلامويين.

(5) سياسات السودان الخارجية (منذ الاستقلال وحتى الان).

(6) توفر السلاح الحديث.

(7) تشجيع ودعم القبلية.

(8) اهمال قضايا المنتج الصغير.

(9) تطور الوعى السياسي وفقدان الثقة في احزاب المركز.

(10) حل الادارة الاهلية واهمال قرارات مؤتمرات الصلح القبلي.

(11) انعدام الديمقراطية (على كافة المستويات السياسية من مركز السلطة وحتى المجالس المحلية).

(12) الحرب الاهلية في الجنوب.

(13) الدور السلبي لبعض المتعلمين.

(14) التهميش الاقتصادي والإجتماعي.

التهميش هو احد التعابير التي ترسخت، مؤخرا، في ادبنا السياسي. وبدون الاغراق في لُجة التعريفات والمصطلحات نقول ان فهمنا للتهميش، في اطاره العام، هو ابعاد او عزل او حرمان او تخفيض مستحقات او تجميد وضع منطقة او مناطق او مجموعات في داخل قطر ما مما يجعلها في وضع اسوا من بقية المناطق او المجموعات الاخرى. والتهميش يمكن ان يكون سياسيا او جغرافيا او اقليميا او اجتماعيا. وللتهميش اشكال متعددة تشمل تهميش اقليم او لغة او دين او ثقافة او مجموعة اثنية او جماعة ايدولوجية او طبقة اجتماعية. بل ويمكن ان يشمل التهميش شعبا بأكمله وهو ما نجده في الانظمة العسكرية التي تحرم شعبا كاملا من حق اختيار الحكومة التي تقوده. وفى الإطار السوداني تعددت الاجتهادات في تعريف المناطق المهمشة واكثرها استخداما تلك التي عرّفت مناطق الهامش بانها المناطق خارج مناطق الوسط النيلية التي نالت معظم المشاريع التنموية والخدمات الاجتماعية.

صارت حركات دارفور، احدى القوى الاجتماعية التي فرضت وجودها السياسي والعسكري في الصراع من اجل التغيير في السودان. والحركات تطور طبيعي للقوى الاقليمية التي ظهرت بعد ثورة اكتوبر 1964 واهمها جبهة نهضة دارفور واتحاد عام جبال النوبة ومؤتمر البجا واتحاد ابناء المسيرية واتحاد ابناء دنقلا والتي لعبت دورا مقدرا في نشر الوعي الديمقراطي في مناطقها. كما ان الحركات هي امتداد لتضامن قوى الريف التي ظهرت في الساحة السياسية بعد انتصار الانتفاضة في 1985 وكانت لها مواقف مشهودة في الدفاع عن قضايا الريف ودعم الخط السياسي للحركة الشعبية لتحرير السودان. ووجدت العديد من قوى الهامش سندا سياسيا وايدولوجيا في اطروحات د. جون قرنق حول السودان الجديد.

*كيف حدث التهميش:

بعد استتباب الامر للجيش الاستعصديق اماري الغازي وعند اكتمال ارساء البنيات الاساسية لجهاز دولته، بدأت الادارة الاستعمارية في التخطيط لتنفيذ بعض العوامل التى ادت لغزو السودان، تحت الشعار الخادع بإعادة ممتلكات مصر لمصر. كما هو موثق، تم غزو السودان لأسباب استراتيجية واخرى اقتصادية. الاسباب الاستراتيجية، التي اسرعت بالغزو، تمت في إطار السباق الإنجليزي الفرنسي الملهوف للحصول على مستعمرات في افريقيا ونجاح فرنسا في احتلال فشودة. بالإضافة لحلم بريطانيا القديم بإنشاء امبراطورية استعمارية في افريقيا، تمتد من الاسكندرية الى راس الرجاء الصالح.

اهم الاسباب الاقتصادية هي خلق سوق للمنتجات البريطانية وتوفير المواد الخام التي تحتاجها الصناعة الانجليزية. في ذلك الحين كانت صناعة النسيج، في لانكشير، هي احدى اهم الصناعات البريطانية وذات احتياج مستمر للقطن. وتصادف ان مناخ السودان يصلح لإنتاج القطن طويل التيلة، أفضل اصناف القطن. اجرت الادارة الاستعمارية المسوحات الاولية والتجارب فوقع الاختيار على الجزيرة لصلاحية وخصوبة تربتها وتُوفر مياه الري الدائم ولوضعها الطبوغرافي الذي يسهّل الري الانسيابي وقربها من الميناء الوحيد. نزعت أراضي المواطنين بأسعار اسمية زهيدة وأُنشا خزان سنار ومدت الخطوط الحديدية وأُرغم المزارع على زراعة القطن. وهكذا تم الحاق الاقتصاد السوداني بالسوق الرأسمالي العالمي وأصبح القطن يشكل العمود الفقري لاقتصادنا القومي.

اصبحت الجزيرة هي البقرة الحلوب للإدارة الاستعمارية وهكذا بذلت كل جهودها لإنجاح وازدهار زراعة القطن بها. إنجاح الزراعة وتقليل المصروفات يستدعى تدريب سودانيين لشغل المناصب الدنيا في ادارة المشروع وإدارة جهاز الدولة. لذلك قامت الادارة الاستعمارية وإدارة مشروع الجزيرة بتوفير الخدمات الاجتماعية بحدها الادنى، وهو وضع رغم تدنيه لم يتوفر لبقية اجزاء السودان، التي حسب التقدير الاستعماري لا فائدة اقتصادية منها فتجاهلها تماما. اضافة لان معظم تلك الخدمات تم الصرف عليها من اموال المزارعين، حيث كانت تخصم 2% من الحساب المشترك لمال الخدمات الاجتماعية.

ادى التوسع في السوق العالمي للقطن والمنسوجات لإضافة مشاريع جديدة في النيل الابيض والنيل الازرق لإنتاج المزيد من القطن. وهكذا ازدهر وسط السودان اقتصاديا في إطار تلبيته لاحتياجات السوق الرأسمالي العالمي. ولكن هذه المشاريع المروية الكبيرة تحتاج لأيدي عاملة، خاصة في موسم جنى القطن. هنا تذكّر الاستعمار غرب السودان وامكانية توفير الأيدي العاملة الرخيصة منه، خاصة وان موسم لقيط القطن لا يتعارض مع حصاد المحاصيل الغذائية بغرب السودان. بذلت الدولة جهودا لجلب العمالة الرخيصة الموسمية من الغرب لمشاريع القطن بوسط السودان، وهكذا اُلحق الغرب، جزئيا، بالاقتصاد النقدي. ومنذ ذلك الحين اجتهدت الدولة لتوفير وترحيل الأيدي العاملة الرخيصة من غرب السودان وحتى من نيجريا للعمل في مشاريع القطن المروية. تم ذلك مع الاهمال الكامل لتلك المناطق بالغرب والتي تحولت لمستودعات بشرية للأيدي العاملة الرخيصة. هذا هو بداية الاساس المادي للتهميش الاقتصادي والذي نتج عنه تفاوت جيواجتماعى كبير.

السمة الاساسية لكل خطط وبرامج وإستراتيجيات التنمية الاقتصادية التي اُعدت او نُفذت خلال فترة ما بعد الاستقلال انها كرست التهميش الموروث من الدولة الاستعمارية. فالاستعمار كان يعمل من اجل مصالحه فقط، ولكن القوى الاجتماعية التي تربعت على دست الحكم (منذ الاستقلال وحتى الان) لم يكن يهمها غير مصالحها الذاتية ولم تعمل على ازالة الغبن التنموي الواقع على معظم انحاء السودان. ويمكننا تلخيص واقع الاقتصاد السوداني عند نيل الاستقلال في النقاط المختصرة الاتية:

* اهمال تام للقطاع التقليدي حيث يعيش 87% من السكان والذي ينتج 56% من انتاج البلاد.

* 59% من ايرادات الدولة تأتى من الضرائب المباشرة وغير المباشرة (دولة الجبايات الموروثة والمستمرة حتى الان).

* تصرف الدولة 31% من دخلها على جهازها الإداري حيث ينال اصحاب المناصب الدستورية وقادة الخدمة المدنية والعسكرية كل الامتيازات التي كان ينالها الكادر الإداري الاستعماري

* تمثل التجارة الخارجية 13% من إجمالي الانتاج الأهلي السوداني وهي نتاج طبيعي لبلد صاغه الاستعمار كسوق لمنتجاته وكحقل لإنتاج المواد الخام التي تحتاجها مصانعه ولذلك احتلت التجارة الخارجية مكانا متقدما.

* القطن يشكل 64% من قيمة صادراتنا والسلع الاستهلاكية تشكل 63% من وارداتنا (اما الآلات وادوات الانتاج و التنمية فلها قيمة هامشية في وارداتنا).

* هنالك اهتمام طاغي بالقطن على حساب كل المنتجات الزراعية والثروات الاخرى فمثلا الثروة الحيوانية كانت تشكل 3% من صادراتنا في عام 1956.

* لا يوجد أي اهتمام بالتصنيع حيث كان الانتاج الصناعي يشكل اقل من 1% من إجمالي الانتاج الأهلي في 1956.

* نصيب الفرد من الدخل القومي لا يتعدى 26 جنيها في العام.

باختصار شديد هذا هو نتاج نصف قرن من الاستعمار الذي شكل اقتصادنا ليخدم مصالحه، في ظل نظام التبادل غير المتكافئ على مستوى العالم حيث تنخفض قيمة المواد الخام المصدرة وباستمرار وتتصاعد اسعار السلع المصنعة المستوردة.

انطلقت تلك الفئات، التي حكمت السودان منذ الاستقلال وحتى الان، من مصالحها الذاتية وضيق أفقها الاقتصادي. وكان من مصلحتها، كما سنناقش لاحقا، الاستمرار في المنهج الاقتصادي الاستعماري بالتركيز على القطن وحصر الاستثمارات في مناطق وسط السودان والتي توفرت فيها البنيات الاساسية مع اهمال اغلبية القطر. وهكذا أصبح السودان يعاني من التخلف الاقتصادي ويتميز اقتصاده بضيق قاعدته والتمركز مما ادى للتفاوت الشنيع على المستويين الجغرافي والاجتماعي.

تمحورت كل الخطط الاقتصادية في فترة ما بعد نيل الاستقلال (العشرية، الخمسية، الستية، برنامج سلة غذاء العالم والبرنامج الثلاثي… الخ) على تركيز معظم المشاريع والاستثمارات الاقتصادية في القطاع المروى (وسط السودان). وكمثال حتى المشاريع النادرة التي نفذت بغرب السودان كانت مشاريع للزراعة الالية التجارية (كمشروع هبيلا) والتي كان لها اثارها الجانبية المدمرة للبيئة الاقتصادية والاجتماعية والطبيعية. وحيث تم نزع الأراضي من ملاكها الاصليين وأُعطيت للتجار وكبار رجال الدولة والقوات النظامية، من تعارف على تسميتهم بالملاك الغائبين، بأسعار اسمية. ونتج عن ذلك هجرة سكان الارض الاصليين للمدن للعمل كأيدي عاملة رخيصة. كما اغلقت تلك المشاريع المراحيل السنوية للرعاة فحدثت صدامات ادت لتدخل الجيش لحماية المشاريع مثلما حدث في 1976. والدمار البيئي الذي حدث بمناطق المشاريع هو أحد نتائج اهمال الدورة الزراعية والقطع العشوائي الشامل للغابات واهمال انشاء المصدات الشجرية. ومن اهم الاثار السالبة لتلك المشاريع هو ان الفائض الاقتصادي المحقق منها لا يعاد استثماره في المنطقة، بل لمناطق الوسط وحتى هنالك يستثمر في قطاعات غير منتجة (خدمات، تجارة، عقارات، تجارة عملة)، وما تعبير غابات الاسمنت (الذي ظهر في ستينيات القرن الماضي) الا انعكاسا لذلك الواقع.

أما دارفور فقد اُهملت تماما ولفترات تاريخية طويلة امتدت لعقود من الزمن. وعندما اقيمت بها بعض المشاريع كانت نموذجا كلاسيكيا للفشل التنموي لقصور في التخطيط والتمويل والتنفيذ. وهكذا شاركت كل الانظمة (ولا استثنى احد) في عملية تهميش غرب السودان. وللتهميش اثار كثيرة على مواطني الغرب ومنها صغر سوق العمل، خارج نطاق الزراعة والرعي التقليديان، وذلك انعكاس طبيعي لقلة الانشطة الاقتصادية مما ادى لتعطل اعداد كبيرة من الشباب الذين لا يحملون مؤهلات ومهارات. وزاد من حدة صغر سوق العمل، في السنوات الاخيرة، العطالة الجماعية لألاف الشباب من خريجي الثانويات والجامعات. وهكذا خلق التهميش غبنا تنمويا وغبنا اجتماعا تفجرا في شكل غضب سياسي ودعوة قوية لتغيير الاوضاع على المستوى الإقليمي والمركزي.

تاريخ الخبر: 2022-12-03 00:22:40
المصدر: صحيفة التغيير - السودان
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 54%
الأهمية: 51%

آخر الأخبار حول العالم

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية