إتفاق جوبا: التهميش خلال سنوات الحكم الوطني الأولى «2 – 8»


د. صديق الزيلعي

تعرضنا في الحلقة الاولى لبعض الجذور التاريخية للتهميش ونحاول، في هذه الحلقة، قراءة دور الحكومات المختلفة.

وبعيدا عن إطلاق الاحكام المعممة سنحاول تقديم عرض سريع لدور الحكومات المتعاقبة في تكريس وتعميق التهميش وشرح ما تم خلال كل مرحلة من مراحل ما بعد الاستقلال حتى نتعرف على اولويات الفئات الاجتماعية الحاكمة وما قامت به ولكي نتدارس استراتيجية اقتصادية بديلة لصالح المنتجين الحقيقيين.

الحكومة الوطنية الاولى:

ناضل شعب السودان حتى حقق استقلاله السياسي في 1956. تفجرت، بعد تحقيق الاستقلال، معركة سياسية حول طريق التطور الذي ستسلكه البلاد. كان لتلك المعركة السياسية الفكرية، وما نتج عنها من سياسات، اثار بعيدة المدى لا نزال نعانى، حتى اليوم، من تبعاتها. فقد رفعت القوى الاجتماعية، التي قادت معركة الاستقلال، شعار تحرير لا تعمير، في مواجهة دعوة القوى النقابية واليسارية المنادية بالتعمير والتحرير في ان واحد وانه لا تعارض بينهما. وكان الافق الاجتماعي للقوى التي ورثت حكم السودان قاصرا على استكمال الاستقلال السياسي (السودنة، رفع العلم، نشيد وطني، تمثيل دبلوماسي عالمي) مع الابقاء على كل الهياكل والبنيات الاقتصادية والاجتماعية التي خلقتها الدولة الاستعمارية. بينما دعت القوى النقابية واليسارية لانتهاج تنمية مستقلة وانهاء كافة اشكال التبعية للدولة الاستعمارية. ذلك الصراع لم يكن تهويما أكاديميا مجردا وانما كان صراعا حول خطين للتطور الاقتصادي الاجتماعي: اولهما يحصر الاستقلال في الإطار الشكلي والاخر ينادى بتنمية حقيقية لصالح الاغلبية الساحقة من شعبنا (في المركز والاقاليم).

نجح أنصار التيار الاول، الذي لم ير أكثر من تحقيق الاستقلال السياسي الشكلي، في السيطرة على جهاز الدولة الموروث واستمر في حكم البلاد (مدنيا وعسكريا) طيلة فترة ما بعد الاستقلال والى الآن. استمرار ممثلو هذا التيار في السيطرة على جهاز الدولة ادى لتعميق الهوة الاقتصادية بين اقاليم السودان الجغرافية وفئاتها الاجتماعية المختلفة. فقادة تلك القوى كانوا اصحاب مشاريع القطن الخصوصية بالنيلين الابيض والازرق وملاك مشاريع الزراعة الالية في القضارف، كما كانوا وكلاء للشركات العالمية التي تعمل في الصادر والوارد، وتربعوا فوق المناصب العليا للخدمة المدنية والقوات النظامية. اهتمام هذه القوى بالعائد الاقتصادي السريع جعلها تحافظ على غرب السودان كما تركه الاستعمار مصدرا للعمالة الرخيصة والمواد الخام للتصدير (الحبوب الزيتية والصمغ والماشية).

عملت الدولة الوطنية على دعم النشاط الاقتصادي لتلك الفئات. وقد نالت تلك الفئات الرخص التجارية وتصديقات المشاريع الزراعية والصناعية والتسهيلات المصرفية المريحة والوظائف القيادية في الخدمة المدنية والقوات المسلحة. بينما لم تنل الاغلبية الساحقة، في الهامش وحتى داخل العاصمة، غير الكدح والمعاناة وتدهور احوالها المعيشية.

و كمثال صارخ لسياسة دولتنا الفتية، تجاه الكادحين من الوسط، ما حدث في فبراير 1956 (بعد اسابيع قليلة من استقلال السودان) وكشف عن طبيعة تفكير القوى التي ورثت جهاز الدولة الاستعماري وعقليته الادارية وكما ارسلت رسالة واضحة بانها ستواجه بعنف كل من يهدد مصالحها. ويتلخص الحدث في الاتي: طالب مزارعو مشروع جودة الزراعي (مشروع خاص على النيل الابيض لزراعة القطن) بمعرفة حساباتهم وتجمعوا سلميا امام مكاتب ادارة المشروع.

استدعت الادارة البوليس الذي استخدم الرصاص لتفريقهم وقتل على الفور 25 منهم واعتقل 189 مزارعا تم وضعهم في زنزانة صغيرة سيئة التهوية. ولم تهتم السلطات بصيحات المزارعين واستغاثاتهم فمات بعضهم اختناقا. اثارت تلك الجريمة غضب الشعب ونظم اتحاد العمال وطلاب الجامعة ونقابة المحامين مواكب ردت عليها السلطة بالعنف واعتقال ومحاكمة قادة المظاهرات وبلغت جملة الاحكام 141 شهرا. وكان هذا أحد التجليات الصارخة لبرنامج تحرير لا تعمير. كما انه يهزم الحجة التي تحمّل كل سكان مناطق وسط السودان النيلية المسئولة، مباشرة او بطريقة غير مباشرة، عن تهميش بقية السودان.

وهنا يحضرني موضوع الالاف من شباب منطقة الجزيرة الذين يمشطون اسواق واحياء العاصمة القومية يبيعون الأواني المنزلية وبعض الخردوات مقابل ارباح زهيدة لا تسمن ولا تغنى عن جوع، هل هؤلاء مسئولون عن التهميش الجغرافي ام هم أنفسهم يعانون التهميش في اسوا صوره ويكدحون لتوفير لقمة العيش! وينطبق نفس المثال على عمال عطبرة الذين عاملهم كادر ويكفيلد (خلال العهد الاستعماري) بمستوى اقل من الحد الادنى اللازم لبقاء الانسان حيا ولذلك ناضلوا بلا هوادة من اجل تحسين اوضاعهم المعيشية!

وفى إطار دعوة اليسار و النقابات لتغيير سياستنا الاقتصادية، طالب اتحاد العمال الحكومة، في 1958، بتنفيذ اجراءات اقتصادية اهمها: تنويع التجارة الخارجية، تأميم القطاعات الاقتصادية الاستراتيجية، اجراء تخفيض فعال في منصرفات جهاز الدولة الإداري وتحسين اجور العاملين. لم تهتم الحكومة بتلك المطالب مما ادى لان يعلن اتحاد العمال اضراب عام شاركت فيه 42 نقابة عمالية. وكان رد الحكومة هو حملة من الاعتقالات.

وخلاصة القول: سلطة تفصل تعسفيا بين التحرير والتعمير لا نتوقع منها الاهتمام بغرب السودان او أي اقليم اخر.

الحكومة العسكرية الاولى (1958-1964):

نتيجة لتصاعد الحركة الجماهيرية المناهضة للمعونة الامريكية والرافضة للارتباط بحلف بغداد الاستعماري والداعية لسحب الثقة من حكومة (السيدين) في جلسة البرلمان المقرر انعقادها في يوم 17 نوفمبر. قام حزب الامة بتسليم السلطة للجيش.

واهم ما قامت به الحكومة العسكرية في الجانب الاقتصادي هو وضع الخطة العشرية للتنمية (1960-1970). اهم اهداف تلك الخطة هي:
تمويله للقطاع الخاص (سلفيات للآلات وللنظافة وللتخزين الخ). وصاحب التوسع الكبير في الزراعة الالية توسع كبير اخر خارج المناطق المخططة اصلا للزراعة الآلية.

وشهدت الفترة دخول الزراعة الآلية لمنطقة هبيلا (وهي اول منطقة في غرب السودان تدخلها الزراعة الالية). وكان لها اثارها الجانبية حيث انتزعت الأراضي من اصحابها الاصليين ووزعت لآخرين وأُغلقت المسارات الطبيعية للرعاة ولم يتم الالتزام بالدورة الزراعية او الاحزمة الشجرية لحماية التربة. وتم تحويل ما حقق من فوائض اقتصادية لمناطق اخرى لاستثمارها في العمل التجاري والعقاري ولم تنل منها المنطقة الاصلية وسكانها أي فوائد.

اضغط هنا لقراءة الجزء الأول من المقال

تاريخ الخبر: 2022-12-04 00:23:11
المصدر: صحيفة التغيير - السودان
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 57%
الأهمية: 51%

آخر الأخبار حول العالم

تراجع جديد في أسعار الحديد اليوم الخميس 2-5-2024 - اقتصاد

المصدر: الوطن - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-02 06:21:03
مستوى الصحة: 53% الأهمية: 54%

مع مريـم نُصلّي ونتأمل (٢)

المصدر: وطنى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-05-02 06:21:50
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 50%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية