اتفاق جوبا: هل يملك قادة الحركات حلاً لقضايا الهامش؟ «8- 8»


اتفاق جوبا: هل يملك قادة الحركات حلاً لقضايا الهامش؟ «8- 8»

د. صديق الزيلعي

ناقشنا في المقال الأول قضية التهميش بمنظور تاريخي، يبني على مناهج الاقتصاد السياسي، والنظرة الواقعية لما تم في السودان. وأوضحنا أن مصالح الدولة الاستعمارية هي التي خلقت هذا التطور غير المتكافئ في بلادنا، وأن احتياج مصانعهم للقطن هو السبب لاختيار الجزيرة، لصلاحيتها من جميع النواحي، لزراعته. مزارع الجزيرة لم يطلب زراعة القطن، بل فُرض عليه، وتم استئجار أرضه بأبخس الأثمان. وانتقدنا مفهوم الحركات التي تنظر للتهميش كظاهرة جغرافية، الأمر الذي يؤدي لنتيجة خلاصتها: كل مواطني أواسط السودان همشوا كل مواطني غرب السودان.

هذا المفهوم القاصر والمضلل، يخلق عداوات مصطنعة، ويمزق وحدة الشعب السوداني، ويجعل للقبلية والإثنية والمناطقية اليد العليا في تقرير المسائل الوطنية المهمة، ولا يقدم حلاً لأنه يشكل معادلة صفرية. ثم تعرضت بقية المقالات لدور الحكومات المتعاقبة في عملية التهميش، بسبب سياساتها ومناهج عملها، ومصالح قادتها. وانتقلنا إلى جوهر القضية، وهو إهمال المنتج الصغير، وهو المواطن الدارفوري العادي، الذي يجب أن يكون ما يناله من مكاسب ومن تحسين وضع هو أساس أداتنا لقياس أي اتفاق، ولتحديد موقفنا منه، وتقييمنا له. وكان المقال السادس حول عداء الحركات للقوى المدنية، غير المبرر، وانسحابهم من تحالف نداء السودان، وتدشين تحالفهم مع العسكر، بإصرارهم على أن تكون مفاوضات السلام مع العسكر، بحجة مضحكة بأنهما يعرفان بعضهما البعض، لأنهما تحاربا. وتعرضنا في الحلقة السابقة لمسألة جوهرية، وهي أنهم طالبوا بحق دارفور كاملاً، بناء على مقياس السكان ونسبتهم لمجموع سكان السودان، بل أخذوا أكثر من النسبة المنطقية. والأغرب أنهم لم يهتموا بحصر أبناء دارفور الذين يتقلدون وظائف قيادية، أو يدرسون في الجامعات. ولكي نعرف حقيقة تفكير قيادات الحركات، قاموا بالاستيلاء على كل المناصب والمخصصات لأنفسهم والمقربين منهم، وتركوا غالبية أهل دارفور بلا شيء، وهم الذين ساوموا باسمهم لنيل تلك المكاسب. سيتعرض هذا المقال لوضع تساؤل أساسي وجوهري أمام أبناء دارفور، خاصة أعضاء الحركات الذين ناضلوا وضحوا من أجل إقليمهم: هل قادة الحركات يملكون حلاً حقيقياً لقضاياً ومشاكل دارفور؟

أثبتت التجارب التاريخية المتكررة أن الاتفاقات التي تُعقد بين الحكومة السودانية وأي أطراف سودانية أخرى لا تُنفذ. وأن الاتفاق الوحيد الذي نُفذ هو اتفاقية السلام الشامل بين الحركة الشعبية لتحرير السودان وحكومة الإسلامويين. وكانت أسباب تنفيذ ذلك الاتفاق هو: انتصارات الجيش الشعبي في أرض المعركة، وحنكة مفاوضيه، والدعم الدولي المستمر للمفاوضات، ومن ثم ضمان الاتفاق الذي تم. الأمر الذي جعل هامش المناورة محدوداً أمام حكومة الإسلامويين. كل ذلك لم يتوفر في اتفاق جوبا، لأن العسكر كانوا يخططون لما هو أبعد من الاتفاق، ونجحوا في ضم الحركات لمعسكرهم منذ وقت مبكر. أما الحركات، فقد عانت من ضعف رؤيتها النظرية والمفاهيمية لجذور المسألة، وركزت همها في نيل أكبر المكاسب لقادتها في شكل مناصب وزارية وقيادية وأموال وكوتات في الخدمة المدنية. هذا الفهم القاصر جعلهم يلهثون وراء الوزارات، وعندما طرح حمدوك اختيار كفاءات من عضوية وأصدقاء الحركات لشغل المناصب الوزارية، رفضوا بشدة وتمسكوا بالمناصب لأنفسهم ومن حولهم من الأقرباء. والأهم أنهم لا يملكون مؤهلات ومقومات رجل الدولة الناجح. أن يكون المرء قائداً عسكرياً مطاعاً ومهاباً، لا يؤهله ذلك ليكون رجل دولة ناجح، وهو الأمر الذي سنركز عليه في الفقرات التالية.

تميز قادة الحركات بعدم المبدئية، منذ أيام مفاوضاتهم مع حكومة الإسلامويين. وأكدوا تلك الحقيقة بعد نجاح ثورة ديسمبر في إزاحة البشير، وأدى قصر نظرهم لعدم المبادرة والمشاركة في المفاوضات الأولى لإزاحة اللجنة الأمنية وتكوين حكومة ثورية حقيقية. فقد انسحبوا من نداء السودان، وهو مكون أساسي في الحرية والتغيير. ثم قادوا معركة ضد الحرية والتغيير انتهت برفضهم أن تقود المفاوضات، رغم النص على ذلك في الوثيقة الدستورية. وتعاملوا مع الحكومة الانتقالية كأنها العدو وليست حليف الأمس، الذي تم توقيع عدة مواثيق معه. وكمثال من يقرأ ميثاق الفجر الجديد الذي وقع عليه جبريل وعقار ومني وعبد الواحد، ويرى ممارساتهم ومواقفهم منذ إزاحة البشير، سيلمس بكلتا يديه عدم المبدئية. لا يقصد كاتب المقال تبرئة قوى الحرية والتغيير، فهم ساهموا في تصعيد الخلاف، ولم يرتقوا إلى مستوى المسؤولية في تلك اللحظات الثورية الحاسمة.

ظاهرة الانقسامات التي تميزت بها الحركات الدارفورية، هي مثال صارخ على نوعية تلك القيادات ومراميها. فالانقسامات الأميبية وسط الحركات التي وصل عددها إلى العشرات، توضح فقدانها الرؤى الواضحة والمنظور الذي سيحل مشاكل الإقليم، كما أن كل الانقسامات التي تمت، منذ مؤتمر حسكنيتة الشهير وحتى اليوم، ليست بسبب خلاف فكري أو حول الخط السياسي أو مناهج العمل. فالهدف الأساسي، من الانقسام هو خلق تنظيم ليتم التفاوض معه، ثم ينال موقعاً وزارياً، ولقد لعبت سلطة الإسلامويين بذلك الكرت بنجاح تام. وهنا نطرح هذا السؤال المركزي: كيف تستطيع حركات فشلت في أن توحد نفسها أن توحد الإقليم وتخدمه وتطوره وتخلق تنمية متوازنة حقيقية؟!

هناك أمثلة كثيرة، لكنني سأنتقي بعض منها لتقديم صورة حقيقية عن قادة الحركات، وقدراتهم على إخراج دارفور من وهدة التخلف إلى رحاب التنمية:

  • تلقى جبريل إبراهيم الدعوة لحضور مؤتمر المناخ المنعقد بشرم الشيخ في مصر، تحدث جبريل في المؤتمر، وقال “إن التغيرات المناخية ضربت دارفور عدة مرات، أضرت بالإقليم، وأدت إلى تخلفه، والآن يحتاج الإقليم للمساعدة من الدول الغنية”. هذا الطرح يكشف عن حقيقتين مهمتين هما: ذهب جبريل إلى المؤتمر كممثل لحكومة السودان، وليس إقليم دارفور. كما أنه، دائماً منشغل بنيل أكبر قدر من المساعدات التي سيوظفها لصالح تنظيمه وبقية التنظيمات. والأدهى وأمر، أن منظمة (كرستيان ايد) قادت حملة داخل المؤتمر حول تأثير التغيرات المناخية على الدول الأفريقية، وقالت إن الغالبية العظمى من دول القارة ستتأثر (50 من 54 دولة). ولكنها أضافت أن عدداً صغيراً من الدول سيكون تأثرها أكبر وأخطر، مما سيقلل ناتجها القومي الإجمالي بنسبة الربع. وفي مقدمة تلك الدول: السودان. فها هو وزير مالية الانقلاب يذهب إلى المؤتمر ليطلب العون لدارفور وحدها، بينما المنظمات الغربية تقود حملة لكل الأقطار الأفريقية، وبالتحديد لكل السودان الذي سيتأثر ويخسر. المسألة المهمة الأخرى، أن طرح جبريل، ينسف من الأساس، منظور حركته وكل الحركات الأخرى، التي تقول بأن السودان النيلي هو الذي همش دارفور. ويتم ذلك الطرح الفطير رغم أن معظم الدراسات أكدت أن تخلف دارفور يعود لعدة أسباب، أحدها التغيرات المناخية ونقصان الموارد. بل إن الدكتور محمد سليمان قد أصدر كتاباً بعنوان (حرب الموارد) يشرح فيه بعض جذور المسألة الدارفورية.
  • استمر التفاوض في جوبا لأكثر من عام، وكان الهم الطاغي للحركات هو انتزاع أكبر قدر من المكاسب، لكنها فشلت في إعداد برنامج لعلاج مشاكل الإقليم حتى يكون مرجعاً بالنسبة لها عندما تأتي للحكم. وكمثال الحركة الشعبية (شمال)، كلفت عدداً من الأكاديميين (من خارج الحركة) لإعداد تصور برنامجي. ولم تهتم حركات دارفور بتكليف الأكاديميين من أبناء دارفور بإعداد خطة وبرنامج تنموي على أسس علمية، يستهدف النهوض بالإقليم. وكمثال، لم نقرأ للحركات أي دراسات عن أسباب فشل مشاريع: غرب السافانا، جبل مرة، ساق النعام، مدبغة نيالا، ومصنع نسيج نيالا، وكيفية معالجة أسباب فشلها.
  • لم يتحقق السلام في دارفور بعد توقيع اتفاق جوبا، بعد مرور أكثر من سنتين عليه. فالمجازر التي تمت في جبل مون وكرينك وغيرهما تشكل مثالاً صارخاً على فشل الحركات في تحقيق الأمن والسلام.
  • المحاولات المستمرة لتفريغ معسكرات النازحين بدون حل مشكلة أراضيهم التي استولى عليها بعض القادمين من خارج الوطن، ويرفضون، بقوة السلاح، تركها لأهلها الأصليين.
  • موقف قادة الحركات من الانقلاب ومشاركتهم فيه، منذ البداية، ينسف كل ما كُتب في الديباجة عن الديموقراطية والحكم المدني ونبذ العنف، ويجعلها تعابير لا قيمة لها في واقعنا المحدد. ورغم الادعاء الكاذب بأنهم استمروا مع الانقلاب للحفاظ على اتفاق جوبا، إلا أنهم لم يحققوا أي من بنوده، ما عدا ما يتعلق بالمناصب التي نالوها لأنفسهم، وهددوا بالقتال إذا انتزعت منهم.
  • أثبتت التجربة أنهم على كامل الاستعداد للتلون كالحرباء حفاظاً على ما نالوه من مكاسب. فهم الذين رفضوا الحرية والتغيير وخرجوا عنها، وقالوا فيها ما لم يقله مالك في الخمر. ثم بلا خجل، كونوا ما أسموه بـ (الحرية والتغيير – التوافق الوطني)، الإصرار على استعمال اسم تنظيم رفضوه منذ البداية ولم يشاركوا في أعماله. ثم للحاق بأخذ أكبر نصيب من الكيكة، تغيروا وأسموه (الحرية والتغيير – الكتلة الديموقراطية)، وهم الساعد الأيمن للانقلاب العسكري.
  • دور الحركات في إثارة النعرات القبلية والعنصرية، داخل إقليم دارفور وعلى نطاق السودان، وعدم بذل أي جهد لمحاربتها. بل إن بعض القادة شكلوا بتصريحاتهم ومواقفهم العملية رصيداً داعماً لتلك النعرات العنصرية التي تهدد بقاء هذا الوطن.

الخاتمة:

أختم هذه المقالات بنداء لأبناء دارفور كافة: تعالوا لكلمة سواء، حركوا طاقاتكم الفكرية والتنظيمية والسياسية في حملة واسعة لتقييم ما تم في جوبا، وهل هو الحل الأمثل لقضايا الإقليم وقضايا السودان؟ وأن تقرؤوا بعين ناقدة الدعوات القاصرة التي تتهم كل سكان وسط السودان بأنهم من همشوا الغرب، وأن تقيموا قادة الحركات بمواقفهم العملية، وليس بالتصريحات الرنانة التي يطلقونها وهم في قصورهم في العاصمة، وليس بين من يتحدثون باسمهم.

اتفاق جوبا: طالبوا بحقوق دارفور كاملة ولكنهم استولوا على الحصيلة لأنفسهم «7- 8»

تاريخ الخبر: 2022-12-10 00:23:03
المصدر: صحيفة التغيير - السودان
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 48%
الأهمية: 64%

آخر الأخبار حول العالم

نقطة النهاية

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-08 06:07:26
مستوى الصحة: 91% الأهمية: 86%

شي جين بينغ يبحث عن فهم أوروبي

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-08 06:07:24
مستوى الصحة: 77% الأهمية: 93%

غموض مستقبل محمد صلاح يدفع الاتحاد السعودي لاتخاذ خطوة حاسمة

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-08 06:07:20
مستوى الصحة: 86% الأهمية: 91%

صندوق النقد الدولي يؤكد تراجع الاعتماد على الدولار في العالم

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-08 06:07:09
مستوى الصحة: 95% الأهمية: 89%

صحيفة: "الفطيرة الروسية" ألغيت من مأدبة ماكرون وشي

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-08 06:07:07
مستوى الصحة: 82% الأهمية: 85%

مصر.. مجموعة مجهولة تتبنى قتل رجل الأعمال الكندي في الإسكندرية

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-08 06:07:08
مستوى الصحة: 84% الأهمية: 93%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية