زيارة الرئيس الصيني لمنطقة الخليج وتحديداً السعودية واجتماعه مع قادة عرب بثلاث قمم سعودية-صينية وخليجية-صينية وعربية-صينية على الترتيب يؤشر على أن هذه الزيارة ليست كسابقاتها بل تؤسس لمرحلة جديدة لها ما بعدها فيما يتعلق بالتعاون المشترك بين العالم العربي وفي القلب منه الخليج وبين ثاني أكبر اقتصادات العالم والقوة الطامحة للعب دور أكثر صرامة في النظام الدولي تحت زعامة الرئيس تشي.

ذهبت تحليلات غربية إلى وضع الزيارة في سياق محاولات الصين إعادة تموضعها في نظام عالمي يشهد اختلالات جوهرية بالبناء الدولي في ظل تراجع نفوذ الولايات المتحد، والحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا التي تعيد تعريف أوروبا في النظام العالمي من حيث تبعيتها لواشنطن ودورها بالترتيبات الأمنية العالمية.

بكلمة أخرى كان الحديث وفق هذه التحليلات يدور حول تحريك الصين لواحدة من أحجارها على رقعة الشطرنج كلاعب عالمي في حين ظهرت المنطقة العربية مجرد ساحة لعب في محاولة لإضفاء السلبية على الموقف العربي والخليجي منه على وجه التحديد.

ولكن بالنظر إلى تفاصيل القمم الثلاث نجد -على عكس ذلك- الدور العربي بقيادة السعودية كان له دور كبير بهندسة الزيارة وبناء أجندتها. فمقابل الصين التي تحاول أن تعزز من حضورها في الساحات الحيوية حول العالم مثل الخليج العربي، توجد السعودية (ودول الخليج) التي تحاول أن تتحرر من الوصاية الأمريكية التقليدية وتنوع خياراتها بالتعاطي مع الدول الكبرى لضمان مصالحها في المقام الأول. فالصين لم تعد دولة إقليمية كبرى، بل باتت تحظى بمكانة الدول العظمى في النظام الدولي، ولذلك فإن التحرك باتجاه فتح علاقات بناءة معها يعد أحد أبرز معالم النظام العالمي في الحقبة المقبلة.

لا شك أن العالم بدأ يدخل مرحلة ما يمكن أن يطلق عليه الحرب الباردة النسخة الثانية (Cold War 2.0) بين الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين من جهة وبين الصين وشركائها (إذا صح التعبير). غير أن أبرز معالمها في نسختها الثانية أنها ليست ثنائية القطب بل متعددة ولا تحدث على خطوط الصدع بين المعسكر الغربي والمعسكر الشرقي. فطبيعة الأحلاف ليس صفرية ويمكن للدول الإقليمية الكبرى كالسعودية وتركيا ومصر (على سبيل المثال) التحرك بمرونة بين الدول العظمى من غير إحداث قطيعة مع إحداها أو معاداتها.

ربما أكبر مثال على ذلك تركيا. مؤخراً وخصوصاً منذ اندلاع الحرب بين روسيا وأوكرانيا أبدت أنقرة مرونة بتعاملها مع الدول الكبرى. فلم تصطف مع الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين في حين أدانت الاجتياح الروسي وطالبت بقوة باحترام سيادة الأراضي الأوكرانية ووحدتها وفعَّلت اتفاقيات الملاحة العسكرية بمضيقَي البسفور والدردنيل تجاه عدم استغلالها من القوات المتحاربة. وأبقت تركيا على تحالفها مع الغرب (حلف الناتو) وعلاقاتها مع روسيا من خلال اللقاءات رفيعة المستوى التي جمعت بين البلدين. أسفرت هذه السياسة عن تحقيق تركيا اختراقات على المستوى الدبلوماسي كان أبرزها اتفاقية الحبوب واتفاقيات تبادل الأسرى.

طبيعة الأحلاف ليس صفرية ويمكن للدول الإقليمية الكبرى كالسعودية وتركيا ومصر (على سبيل المثال) التحرك بمرونة بين الدول العظمى من غير إحداث قطيعة مع إحداها أو معاداتها.

السعودية أيضاً تعي جيداً التحولات الجوهرية في ديناميكيات النظام الدولي. وبدلاً من الانكفاء على السياسة التقليدية التي ترى في الولايات المتحدة (الغرب) الحليف الوحيد، بدأت الرياض سياسة خارجية أكثر مرونة بتنويع خياراتها. وكما قال أحد الدبلوماسيين السعوديين واصفاً علاقة السعودية مع الولايات المتحدة بأنها ليست زواجاً كاثوليكياً يكتفي فيه الزوج بواحدة، بل زواج إسلامي مشروع فيه التعدد، فإن السعودية أصبحت في ظل قيادة شابة ترى وجوب التعدد خصوصاً في ظل بيئة دولية متغيرة بشكل واضح وسريع.

لم يظهر عن السعودية أي مؤشرات حول نيتها التخلي عن تحالفها مع الولايات المتحدة. فلا يزال حجم المصالح التي تجمعهما كبيراً. فالسعودية تعتمد في مجالَي الأمن والتسليح بشكل كبير على الولايات المتحدة. فالدولة الوحيدة التي لا تزال تضمن أمن الملاحة في الخليج هي الولايات المتحدة خصوصاً عبر أسطولها الخامس الذي يتخذ من البحرين مقراً له. في حين تشكل السعودية شريكاً جوهرياً للولايات المتحدة في المنطقة سواء تجاه المحافظة على استقرار سوق الطاقة العالمية أو محاربة ما يسمى "الإرهاب".

غير أن هذه التحالف لا يأخذ الشكل الرومانسي في جميع مراحله. كدولة ناهضة تحتاج السعودية إلى التحرر من بعض القيود التي يفرضها الاكتفاء بحليف واحد. فملفات حقوق الإنسان وتضارب الرؤى الداخلية بين الديمقراطيين والجمهوريين تجاه علاقة واشنطن والرياض وتحرُّر أمريكا من قبضة النفط الخليجي يجعل من المراهنة على هذا التحالف في جميع المحطات ضرباً من المخاطرة.

بناء على ذلك تجد السعودية ضرورة تعدد الحلفاء أو الشركاء على أقل تقدير. وفي هذا السياق لا يمكن غض الطرف عن الصين وهي الدول الناهضة بقوة والتي أصبحت ثاني أكبر اقتصاد عالمي. بشكل عام يخدم التقارب مع الصين هدفين جوهريين للسعودية.

فهذا التقارب يعطي هامشاً أوسع للرياض للتحرك على خطوط الصدع بين الدول الكبرى ويعزز قيمتها الاستراتيجية في الحسابات الدولية لهذه الدول. فكل من واشنطن وبكين يحرص على أن يخطب ود الرياض بعدد من الملفات خصوصاً الطاقة، إذ تعززت قيمة السعودية في هذا الملف بعد الصدمة التي تعرضت لها أسواق الطاقة العالمية على إثر الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا.

أما ثانياً فإن السعودية بحاجة إلى تسريع مشاريع تصب في خدمة خطتها الطموحة لرؤية 2030 خصوصاً بالإنشاءات والتكنولوجيا والصناعات النووية. تعد الصين الآن الشريك التجاري الأول للسعودية، وتعد السعودية المورِّد الأكبر للنفط إلى الصين. وتعمل الشركات الصينية على تطوير البنية التحتية للمشروعات النووية السعودية في حين تساهم بتعزيز قدرات السعودية في تكنولوجيا الصواريخ البالستية والمُسيرات.

في الختام يعد النهج المرن ببناء التحالفات والتحرك على خطوط الصدع بين الدول الكبرى من دول إقليمية كالسعودية وتركيا نهجاً يؤسس لمعالم النظام العالمي بالمستقبل القريب. وأعتقد أنه يحتاج إلى مزيد تسليط ضوء ودراسة لأهميته ليس بتحديد طبيعة التحالفات وحسب ولكن في معادلة الأمن والاستقرار الدوليين.

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي