الأزمة بين أكتوبر وديسمبر أو «سجن كوبر في كل العهود»


الأزمة بين أكتوبر وديسمبر أو «سجن كوبر في كل العهود»

محمد بدوي

في حوارات عديدة مع أصدقاء ومهتمين بالشأن السوداني كثيراً ما تم التعرض إلى الواقع ودور الأمر الذي يمثل جوهر للأزمة تاريخياً، ولعل الأحداث خلال الاسبوعين المنصرمين حفزت النظر إلى غياب السياسات، حيث يتطلب الأمر إلى دور الانتظار والمؤسسات العقابية السودانية، الأمر الذي يكشف بأنه منذ الاستقلال وإلى الراهن ظلت هذه المراكز والمؤسسات تستقبل معتقلين سياسيين وآخرين تحت الحبس بموجب قانون الطوارئ أو لأسباب غير معلنة حتى وصل الأمر إلى تخصيص أجزاء من السجون لتخضع لإشراف جهاز الأمن أو لاستضافة معتقلي قانون الطوارئ، اشتهرت سجون كوبر بالخرطوم بحري بورتسودان بالبحر الأحمر وشالا وزالنجي بولايتي شمال ووسط دارفور بهذه الأقسام تاريخياً إلى جانب سجون أخرى بالطبع، اتفقت جميعها في بيئتها المتراجعة هذا دون الخوض في التعامل وحضورها المتجدد في ظل حكومات ما بعد الاستقلال ظلت توثق إلى أن ذات مراكز مر بها أغلب القادة السياسيين في فترات متعاقبة.

الراهن يشهد على المحاولات المستميتة للتحايل على البقاء بتلك المراكز والاحتماء بمرافق صحية من قبل لرأس النظام السابق المخلوع عمر البشير وقيادات الحركة الإسلامية وجناحيها السياسيات المؤتمرات الوطني والشعبي، وهي السلطة التي التصق بها القمع بل تعتبر التجربة الأقسى والأسواء والأوسع نطاقاً في سلب الحريات وانتقاص الكرامة في سياق تجربة إهمال تلك المرافق التي شاركت فيها كافة الحكومات المتعاقبة منذ الاستقلال، يطول سجل الشواهد لكن أجدني اقتبس بوست للصحفي عادل إبراهيم “كلر” الذي كتب عقب اعتقاله في يناير 2018 بمعية آخرين منهم الأستاذ صالح محمود المحامي وعضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوداني وواقع وطلبه لدواء داخل المعتقل بسجن كوبر، والذي أحضر له البديل بحجة عدم توفر ما طلبه، ليغلق “كلر” على تناقض الحال موجهاً إياه لإدارة المعتقل “انتو قائلين الناس ديل محتجين على شنو ما على الدواء المافي” بل فلو نظرنا إلى حال الرئيس المخلوع البشير وإحالته المتكررة إلى مستشفى علياء فهو يشير إلى السجل الراهن لأوضاع السجون ومراكز الانتظار ولكثرة من مروا من خلف تلك الأسقف والأبواب فلا أعتقد أنه سيتذكر شجاعة الراحلين الدكتور أمين مكي مدني والأستاذ فاروق أبو عيسى وحرمانهم فى 2014 من الرعاية الصحية هما في عمر لاقاه سنيناً وثباتاً على سوء الحال والمرض معاً بل أن الفترة الانتقالية مع وقف التنفيذ بفعل انقلاب 25 اكتوبر2021 لم تكن استثناءً حيث شهدت اعتقالات لقادة الحكومة المدنية وتحالف قوى الحرية والتغيير في ظروف أحاطت بها فقر بيئة الاعتقال التعسفي، وهو ما يثبت أن نسق التفكير المرتبط بغياب السياسات يشكل سمة مستمرة في المشهد.

ذات السجل عزز من سؤال حال دور الانتظار داخل المنشآت العقابية والخدمات الصحية، فقد كشفت جائحة كورونا غياب التنسيق بين مصلحة السجون والنائب العام، وزارة الصحة، الداخلية حيث تعرض العديد من الحالات للعدوى والإصابة وانتهى بعضهم بمفارقة الحياة.

غياب السياسات لا تزال تباعد النظر من إصلاح بيئة الاحتجاز ومكانها في أجندة الأولويات لأنها عنوان للعدالة وسيادة حكم القانون هو ما أثبتته وسائل الإعلام التي تغطي وقائع محاكمة محمد آدم توباك وآخرين في قضية مقتل العميد الشرطة، مما جعل قاضي المحكمة الموقرة يوجه النيابة المختصة بفتح بلاغ في مدير سجن كوبر الاتحادي لعدم تنفيذه أوامرها، فلولا الاهتمام الإعلامي بالقضية وكونها جاءت في فترة انتقالية نسبية لحال بينها والإعلام مقص الرقيب وأدواته.

إذن ما هي ظروف الاحتجاز للآخرين في الحالات الجنائية والمدنية؟ هذا يقود إلى فتح ملفات ارتبطت بفترة السلطة السابقة وهي كثيرة تجربة مقايضة عقوبة السجن مقابل المشاركة في القتال في الحرب الأهلية في جنوب السودان في مواجهة الحركة الشعبية آنذاك بالقتال قد لا يمكن الوقوف على مثلها في التاريخ الحديث المرتبط لنشأة الدول، حيث حملت المقايضة تخفيض عشر سنوات من السجن مقابل سنة من المشاركة في الحرب الجهادية، يتطلب بالضرورة تستدعي التحقيق والمحاسبة والتعويض على الاقل لأنها رسخت للقتال المرفوض ضميرياً لدى البعض.

بحثت عن الإصلاح للمنشآت العقابية ودور الانتظار والاحتجاج في ثنايا مسودة دستور اللجنة التسييرية للمحامين التي قضى القضاء السوداني بإعادة النقابة السابقة مكانها فلم أجد ما يرتقي لواقع الحال، فيبدو أنه الذاكرة كما أشرت تسيطر عليها الرؤية السياسية والحزبية للأحداث في ظل استمرار محنة غياب السياسات التي كلما لاح أفق لتسوية أطل وسطاؤها تارة بتكريم شخصيات في السلطة وتارة أخرى بالسعي علناً بمقترحات لموانئ جديدة ومشاريع تصب في مصالح فردية ودولية دون خشية أو مواربة أو حتى مجرد التفكير في المصلحة العامة.

ختاماً: المصلحة العامة تقتضي البدء بإصلاح المنشآت العقابية وبيئتها فربما قد تتغير فلسفتنا في النظر إلى قيمة وكرامة الإنسان السوداني بما يدفع إلى تعميد النظر نحو فلسفة لصون الكرامة والعدالة وإصلاح الإرث المرتبط بسجل سلب الحريات وتعزيز النظر نحو الوطن عبر حزم منهج السياسات للتعليم من ترسيخ المصلحة العامة قبل التفكير في الأنا وتخصيص الموارد للأفراد والحلفاء الدوليين فهاهو الحال رغم الفارق الزمني ما بين ظهور البشير مبتسماً في قصة قميص ميسي الرياضي، تكريم مفوضية حقوق الإنسان، وتسريبات ميناء أبو عمامة يبصم بأن جرأة الوسطاء تجاوزت مخرجي أفلام الآكشن.

تاريخ الخبر: 2022-12-18 12:23:16
المصدر: صحيفة التغيير - السودان
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 52%
الأهمية: 66%

آخر الأخبار حول العالم

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية