عرس الأمهات المغربيات في مونديال المغرب العميق


أمين الركراكي

لعل إنجاز أسود الأطلس في مونديال قطر يشكل حافزا للباحثين والمفكرين لإعمال أدوات البحث والتفكير في ما أفرزه المونديال من ظواهر تستدعي التأمل والدراسة. في هذا السياق تشتغل الشبكة المغربية للسوسيولوجيا من أجل دفع الباحثين والباحثات المغاربة للإسهام في دراسة ما يسميه منسق الشبكة عبدالفتاح الزين “الظاهرة الجديدة التي صفعتنا ودفعتنا للعودة إلى جذورنا وتربتنا للانطلاق منها في قراءة واقعنا المغربي”.

 

ويعتبر أستاذ علم الاجتماع، في حديثه مع “الأيام”، أن دور الثقافة والمعرفة والبحث العلمي يتجلى في استجلاء مكامن القوة والضعف وتكوين مشتل للأفكار يستفيد منه صاحب القرار السياسي في مجال عمله.

 

يمثل إنجاز المنتخب في المونديال فرصة بالنسبة لعبدالفتاح الزين أستاذ علم الاجتماع ومنسق الشبكة المغربية للسوسيولوجيا من أجل إعادة الاعتبار لعلم الاجتماع في المغرب، وإعمال آليات التفكير والبحث في هذا الجانب من ضمن جوانب أخرى، ويضيف: «لتبسيط الأرضية العامة للقراء لفهم المقصود، لابد من الإشارة في البداية إلى المشكل الذي نواجهه في المغرب في ما يتعلق بسوسيولوجيا وأنثروبولوجيا الوقت الحر وسوسيولوجيا وأنثروبولوجيا الرياضة. فكما تعلمون شهدت السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا انتكاسة كبيرة في المغرب خاصة في سنوات الرصاص، ونحن اليوم بصدد استغلال هذه الفرصة في إطار الشبكة المغربية للسوسيولوجيا للدفع بأهمية العلوم الإنسانية والاجتماعية لمواكبة هذه الأمور التي تتطلب هندسة اجتماعية لا تشير فقط إلى جوانب القوة في المجتمع ولكن إلى جوانب الضعف كذلك».

 

غالبا ما تتناقض أخلاقيات الرياضة باعتبارها جزءا من اللعب، يضيف الزين، مع أخلاقيات المجتمع إلا إذا كانت هناك مرافقة تنشيئية تتوخى توجيه العنف – وهو مسألة طبيعية في الإنسان – والمهارات والقدرات بشكل إيجابي، فمثلا لعبة الغميضة قد تمثل نوعا من الهروب من الرقابة (شوية تحراميات) لكي يفاجئ اللاعب القانون ويبلغ مراده وعندما يلعب الطفل مع أفراد أسرته لعبتي الورق (الكارطة) أو (ضامة) فهو يفعل كل شيء من أجل التفوق على والده أو أخيه باعتباره خصما له، وحتى داخل فريق لكرة القدم إن كان أخوه يلعب في فريق منافس فيعتبره خصما له إلى حين. هذه القيم المرتبطة باللعب تربي الإنسان على تمييز العلاقات والتحكم في الغرائز وتدبيرها مثل الخوف والقلق والعنف.

 

في الحاجة إلى القدوة

 

يعرج الزين على عدد من المعطيات الدالة في تألق المنتخب، والتي تتجاوز منطق الربح والخسارة مبينا في هذا الصدد: «لأول مرة في تاريخ المغرب تصبح الرياضة تابعة لوزارة التعليم، ونتمنى ألا تكون هذه العملية سياسية محضة بل مبنية على مجموعة من الأمور المرتبطة بالتنشئة، لأننا لا يجب أن ننسى ما كان يمثله العربي بن مبارك لنا في صغرنا وباقي الأطفال والشباب، وما مثله لاحقا عويطة والمتوكل ومن تبعهما من أجيال. هؤلاء للأسف لا نجد لهم أسماء في الفضاء العام والأماكن العمومية، وهم قدوة شئنا ذلك أم أبينا، ولا يجب أن تكون لدينا قدوة سياسية فقط بل يتعين علينا أن نعطي فرصة للشباب لاختيار القدوات».

 

من هذا المنطق، يضيف الزين «تكتسي الرياضة أهميتها باعتبارها لعبة لكنها جدية وجادة ومنتجة ليس للثقافة فقط بل لجوانب أخرى، مثل الاقتصاد الترويجي والترويحي وأعطي مثالا بعائدات كرة القدم المادية، كما يتجلى ذلك في المستوى الذي يعيش فيه النجوم الكبار وكذا عائدتها غير المادية وغير الاقتصادية الكبيرة، فاليوم أصبح سكان الإسكيمو يعرفون خريطة المغرب كما أن بعض شبابنا الذي كان يتأفف من رفع العلم الوطني، بل إن مجموعة منهم يرتدون ملابس بخرائط كبيرة لأمريكا، خرجوا اليوم إلى الشوارع مدثرين بالعلم المغربي، وهذا يبين أن الناس بدأوا يثقون في أنفسهم وبلدهم وثقافتهم. ونذكر هنا الإشارة التي قدمها ياسين بونو في كأس العالم وقبل ذلك في كأس إفريقيا الأخيرة حينما رد على من طالبه بالحديث بلغة أجنبية بحجة عدم وجود مترجم قائلا (هذا ما شي شغلنا)، وهذه ثقة في اللغة والثقافة.

 

قنطرة عبور بين الهويات

 

يسلط عبدالفتاح الزين الضوء على معطى آخر يتعلق بمسألة اللحمة داخل الفريق، والتي تأسست على الانتماء المغربي الذي تنتفي فيه الجنسية، إذ لا يصبح حينها اللاعب هولنديا ولا بلجيكيا ولا مهاجرا، بل ينتمي لمغاربة العالم باعتبارهم قنطرة العبور بين الهويات، ويضيف في هذا السياق: «المغاربة ليسوا عرقا بل كائنات اجتماعية متميزة بتعدديتها وأقصد بذلك أننا لسنا مغاربة عربا فقط أو مسلمين فقط أو أمازيغ فقط أو يهود فقط، نحن كل هذا وكل جزء من هذه الجزئيات هو كذلك مقسم إلى أجزاء. فلو أخذنا الأمازيغ على سبيل المثال نجد أن عبدالسلام ياسين ليس هو الجابري والأخير ليس هو شفيق وشفيق ليس هو إدمون عمران المالح، فلكل أمازيغيته. وهذا يسري على البقية، فمن بين العرب أيضا كل واحد يتصور نفسه بشكل مختلف حيث تمثل فسيفساء المغرب تجربة رائعة. النقاشون القدماء عندما كانت تسقط منهم حبة فسيفساء واحدة من عملهم يصفون الزليجة بالعمياء. ومعنى هذا أن المغاربة لا يمكن أن يتقدموا إلا بهذا الإرث الذين سجلوه في دستورهم وهذا شيء مهم».

 

الانتماء العابر للأوطان

 

إلى جانب «النية» بوصفها من العوامل النفسية والسيكولوجية التي خلقت هذا المنتخب، يحضر التوازن النفسي، من خلال الانتماء المتجلي مثلا في رفض لاعب سويسري التعبير عن فرحه بعدما سجل هدفا في مرمى منتخب بلاده الأصل.

 

من هذا المنطق، يصف الزين «انتماء اللاعبين العبر-الوطني المؤسس على الهوية المغربية. فهم سفراؤنا ونقطة التقائنا مع الآخر لأن الهويات / الجنسيات عبرالوطنية هي التي ستساعدنا في بناء عولمة ثانية ترعى الاختلاف وتحتضن التعدد وتثمنه وتنهض به. نقطة أخرى تكتسي أهميتها في هذا الجناب تتعلق بكون هؤلاء اللاعبين من أبناء الطبقة الكادحة، لذلك فالرياضة ليست فقط فرجة ولعبة بل كذلك مصعد للارتقاء الاجتماعي.

 

انتهى التاريخ الذي كنا نتحدث فيه لأجيال عن مقولة: «إلى ما جابها القلم يجيبها القدم ويمكن بالنغم». الاقتصاد الإبداعي والثقافي بما فيه الرياضي أصبح من رؤوس الأموال والإنتاجات والموارد المهمة داخل المجتمع، فمداخيل XBOX مثلا تضاهي مدخول دولة من العالم الثالث والأرباح في المجال الرياضي تضاهي أرباح منطقة من مناطق إفريقيا، ومداخيل الفيفا تعادل مداخيل دولة مرجعية في العالم. الرياضة لم تعد أداة من أدوات الفرجة والترويح والترفيه فقط بل أصبحت مكونا من مكونات تشكيل الموارد البشرية داخل المجتمع».

 

دور المرأة في بناء الموارد البشرية

 

تخفي صور نجاح اللاعبين وراءها قصصا من الكفاح الذي خاضته الأمهات والأسر في المراحل الصعبة في حياتهم، قبل أن تنقذهم الرياضة وتنقذ آباءهم الذين واكبوهم وتابعوهم حتى بلوغهم مرحلة التألق.

 

يضيف أستاذ السوسيولوجيا بخصوص هذه النقطة: «هؤلاء اللاعبون اختاروا الوطن الأم فالأمومة يبقى لها دور، لكن للأسف في وطننا وفي مقاربتنا المجتمعية مازلنا لا نثمن دور المرأة في بناء الموارد البشرية، التي هي اليوم قيمة من القيم الاقتصادية الكبرى. بل إن المرأة التي تجلس في البيت توصف بأنها «بدون» في بعض الأبحاث. وإلى يومنا هذا لا توجد دراسة تحاول أن تبين وتوضح لصاحب القرار السياسي، ضمن المحاسبة الوطنية، ما هي مساهمة العمل المنزلي داخل الأسرة في إنتاج الثروة على مستوى الموارد البشرية والاقتصاد العائلي، أو العوائد، سواء منها المادية أو اللامادية التي تتجلى في نسبة الأمهات اللواتي يساهمن في انتشال أبنائهن من براثن الانحراف والإرهاب وغيرهما».

 

«عندما كنا معتقلين في السبعينات، ناضلت الأمهات من أجل الاعتراف بنا كمعتقلين سياسيين لدى الأحزاب الوطنية آنذاك، مثل الاتحاد الاشتراكي وحزب الاستقلال وغيرهما، فالأمهات رابطن من أجل حقوق أبنائهن وهذا ليس امتيازا للمغرب وحده، فحركة الأمهات في الشيلي مثلا لازالت مستمرة. إذن الأمهات لهن دور كبير حتى أنني بت أتحدث هنا عن التحول من مقاومة المرأة إلى المرأة المقاومة، على اعتبار أن الاستقلال الذي ناضلت من أجله لم تتفيأ منه بشكل كامل. تروي الذاكرة الشفوية أن النساء كن يذهبن وراء المقاومين في الحروب التي كانت قائمة بين القبائل والمستعمر، ومن يتراجع ترشه النساء بالحناء، وكأني بهؤلاء الرياضيين يمثلون راية المغرب ويدافعون عن بلدهم بل إنهم أصبحوا رمزا للنضال ويمثلون كل العرب وكل الأفارقة والمسلمين وكل دول العالم الثالث» يضيف عبدالفتاح الزين.

 

ويركز السوسيولوجي على معطى دال في هذا الجانب يتمثل في أن اللاعبين «بحضور أمهاتهم يتغذون على هذا الرابط الروحي والنفسي، فعندما تحضر العائلة يرفض المرء فكرة السقوط بسهولة. لأول مرة في تاريخ كأس العالم نسجل تواجد الأمهات بهذا الشكل، وكأنها رسالة بكون المونديال يجب أن يتأسس على قيم أخرى غير القيم الغربية. فمع الأسف حقوق الإنسان مؤسسة على قيم يهودية مسيحية في حين أن فكرة التسامح في الثقافة العربية الإسلامية غير موجودة، علما أن الهُوية والثقافة العربيتين كأرضية للثقافة الإسلامية تنطلق فيها من تعريف نفسك انطلاقا من الآخر لا باعتباره خصما بل من باب الاختلاف والمغايرة، ولهذا نجد بدل التسامح مفردات الإيثار والصداقة، وهي نابعة من الصدق فالصديق وُضِعَ في مرتبة الأخ (رب أخ لم تلده لك أمك) لكي نعرف إلى أي حد يُطْلَب الصدق في العلاقات الاجتماعية».

 

مكانة الأم في المجتمع المغربي

 

«تظهر مكانة الأم، كما يقول الزين، في المجتمع المغربي عندما تُطَلَّقُ المرأة أو يموت زوجها، فبعض القبائل ترى في إعادة تزويج المرأة من أجنبي عيبا، لهذا نجد أخ المتوفى يتزوجها وإذا حضنت المرأة أبناءها وكفلتهم يُنسَبون إليها، لهذا تطلق عندنا إلى اليوم ألقاب مثل ولاد عيشة ولاد فاطنة ولاد ربيعة. عندما طالبت بعض الجمعيات النسائية بنسب الأبناء إلى الأب والأم معا قلت لهن إن هذه الأمور لا تحتاج إلى نضال بل إلى إعادة قراءة تاريخنا بما يساعدنا على فهم هويتنا باعتبارها هوية دامجة تتأسس على التعدد وعلى الاحترام».

 

ويضيف موضحا: «مكانة المرأة في المغرب كانت دائما موجودة وإن كان المجتمع ذكوريا. وانتصارات المنتخب لها جوانب أخرى تفسرها فسجود اللاعبين وعلاقتهم مع أمهاتهم لا يمكن تنسينا جوانب أخرى مثل إتقان اللعبة والمهارات والتكوين البدني والروح القتالية والخطة. حضور الأمهات يمكن أن نشبهه بطريقة تحضير الأطباق في المطبخ المغربي الذي لم يعتمد يوما على مقادير معينة (50 غ من هذا و200 غ من ذاك) فلكل واحد «قبسته» وأفضل وصفة هي «عينك ميزانك»، كل هذه العناصر هي خلطة خيميائية ليست مضبوطة بالمقادير كما هو حال المطبخ المغربي».

 

ويستطرد الزين في السياق ذاته دائما: «هذه التجربة فيها ما بني على التخطيط مثل أكاديمية محمد السادس ومنها ما تأسس على التجربة والحنكة، فكل الأفراد لهم مستويات رياضية عالية ومنها ما يتعلق بروح الانتماء للوطن ومنها ما يعود لقدرة الإطار الوطني على الاستفادة من التعدد. فالرياضيون يتحدثون لغات متعددة لكن يحركهم وتر وطني واحد وهو الانتماء للمغرب الذي اختاروه عن سبق إصرار فقد كان بإمكانهم اللعب لمنتخبات أخرى. إن حضور الأمهات يمثل مكانة المرأة في النسيج المجتمعي الذي علينا تطويره وتثمينه فقد كنا في مونديال قطر اللاعب رقم 13 مع الأسرة كلها إلى جانب اللاعبين الأحد عشر والجمهور رقم 12. وللأسف، أن كرة القدم النسائية لم تستقطب الانتباه الكافي بعد الملحمة التي حققتها مؤخرا.

تاريخ الخبر: 2022-12-22 21:20:21
المصدر: الأيام 24 - المغرب
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 67%
الأهمية: 71%

آخر الأخبار حول العالم

السجن 7 أشهر لخليجي في قضية مقتل شابة في "قصارة" بمراكش

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-05 15:25:47
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 70%

بطولة ألمانيا.. بايرن يؤكد غياب غيريرو عن موقعة ريال للاصابة

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-05 15:26:00
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 58%

السجن 7 أشهر لخليجي في قضية مقتل شابة في "قصارة" بمراكش

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-05 15:25:54
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 55%

بطولة ألمانيا.. بايرن يؤكد غياب غيريرو عن موقعة ريال للاصابة

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-05 15:25:55
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 58%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية