شجرة الخبز

لم يصدق أحدٌ «أم باسل» التى كانت تجلس تبكى وتنوح ساعات طويلة تحت شجرة السنط الضخمة وسط المخيَّم، التى- لسببٍ غير معروف- بدأت مؤخرًا فى طرح الغربان. لم يصدِّقها أحد حينما أشارت، فى صبيحة اليوم التالى لدفن «باسل»، إلى أحد صغار الغربان، وقالت إن هذا «باسل» ابنها. تقصد أن روحه تسكن ذلك الغراب الصغير.

ظننا أن الأم أصابتها لوثة، وفجيعة موت ابنها أطاحت عقلها، فكانت تقضى نهارها كله تحت الشجرة، ترسل القبلات لغراب صغير، وتبكى وتعدِّد.. حتى تكرر الأمر مع «أم سعد».

فى صباح غائم، توقف سعد عن الصراخ، هزته أمه، قلبته يمينًا وشمالًا، صفعته، ركلته، ولكن لم يتحرك، فوقعت الأمُّ مغشيًّا عليها.

فى الصباح التالى، رأينا «أم سعد»، وهى تقف تحت الشجرة، وتصفِّق بفرح وهى تشير إلى غراب صغير جدًّا، لم يكُن موجودًا من قبلُ، وتقول:

- «سعد» عاد.. «سعد» عاد.

هنا بدأنا نصدِّق، وبدأ كل شخص يبحث بين الغربان عن قريبٍ فقده، وكان يبدو أن الأمر صحيح، الكل تعرفوا إلى أقاربهم؛ حتى أمى جاءت تصرخ إلى:

- يا «يحيى»، رأيت أختك «وعد».

وبالفعل، رأيت غرابًا صغيرًا يشبه أختى، له عينان زرقاوان، ومنقار دقيق، وشعر أشقر ناعم. فقالت أمى:

- انظر يا «يحيى»، أختك «وعد» تضحك لنا.

وكانت «وعد» بالفعل تضحك، لكنى لم أضحك.

اسمى «يحيى»، قالت أمى: لقد سميتُكَ «يحيى» لتحيا، ولكى يكون لك نصيبٌ من اسمك. جئتُ مع أمى وإخوتى من «درعا»، بعد أن تركْنا والدَنا هناك يقاتل، وجئنا بعد رحلة شاقة للمخيم هنا على أطراف الأردن. ومع أول يومٍ لنا هنا أدركنا أن الوضع لا يختلف عن سوريا.

فقد بدا المخيمُ كساحة حرب، فور استقبال رماله إطارات عربة الإعانة من مفوضية الأمم المتحدة؛ الأجساد تندفع متلاحمة، الأيادى تتعارك فى الهواء، نحيب أطفالٍ قرصها الجوع، وجوه خائفة ملفوحة بشمس الصحراء. فى البداية، كانت أمى لا تذهب لطلب الطعام، وتنتظر أن يأتى أحدهم، فكان دائمًا ما يأتينا الفتات. ولما سألتها:

- لماذا لا تذهبين معهم؟

قالت:

- يا «يحيى»، فى «درعا»، كان لدينا مصانع وفيلا وخدم.. والآن تريدنى أن أتذلل هكذا؟ 

بعد موت أختى «وعد»، بسبب الجوع، تغيرت نظرة أمى للأمور، فكانت إذا حضرت العربة، أراها تسابق الكل، وكنتُ أراقبها من بعيد، أحاول أن أميِّزها بين الزحام، فكنت فقط أرى يد أمى ورأسها، أراهما كلما حاولتُ القفز بين الجمع المزدحم أسفل العربة، بجسدها النحيل، تحاول جاهدةً الحصول على حصتنا. فكَّرتُ فى طريقة جيدة للمساعدة، بصغر سنِّى ونحول جسدى.

جاءتنى الفكرة، بعدما وجدت الشجرة مستمرة فى طرح الغربان، وأيضًا لمَّا وجدت أمى تنبش التراب وتفتِّش فى بقايا طعام خيم اللاجئين الآخرين، بحثًا عن أى شىء صالح تلقمه إيانا. إذا كانت الشجرة يمكنها طرح الغربان فبالتأكيد ستطرح بسهولةٍ، ودون عناء، الخبزَ.

على باب خيمتنا، وقفتُ أُخفى أول كسرة خبز، بعدما كسرتُها من نصيبى دون أن تعلم أمى. دفنتُها فى الرمال؛ حتى تُنبتَ لنا شجرةً مليئةً بالخبز. داومتُ على زرع الخبز كل يوم، وكان جسدى، مع كل زرعة أزرعها، يذبل ويهزل. حتى آخر كسرة زرعتها، وجدتنى غير قادرٍ على النهوض، وقعت والتصق وجهى بالتراب، حملونى إلى خيمتنا، الولد صار عظمًا، سمعتهم يرددون، سهرت أمى بجانبى، تلقمنى الخبز بيد وتكفكف دموعها بالأخرى. 

وفى الصباح، أتانى صوت أمى من الخارج مندهشًا، وهى تصيح ما هذا؟ كيف نبتت كل تلك أغصان الخبز؟ ألقيت نظرة إلى خارج الخيمة، رأيت شجيرات الخبز تنبت أمام خيمتنا، ابتسمت وأغلقت عينى بهدوء.

من مجموعة: ثلاثة فخاخ لذئب أعور- القائمة القصيرة لجائزة ساويرس

تاريخ الخبر: 2022-12-24 21:21:49
المصدر: موقع الدستور - مصر
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 60%
الأهمية: 51%

آخر الأخبار حول العالم

محامي التازي: موكلي كشف أمام المحكمة أشياء كانت غائبة عنا جميعا

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-03 21:26:14
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 59%

محامي التازي: موكلي كشف أمام المحكمة أشياء كانت غائبة عنا جميعا

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-03 21:26:18
مستوى الصحة: 56% الأهمية: 59%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية