من خطواته حافي القدمين في شوارع ميناس جيرايس إلى قمة العالم, من الفقر مهَّد بيليه طريقه ليصبح رمزًا لكرة القدم، وترك إرثًا غير مسبوق.

إدسون أرانتيس دو ناشيمنتو، أو بيليه كما يعرفه عالم كرة القدم، كتب تاريخا بإنجازاته في كأس العالم .

كان بيليه واحدًا من القلائل الذين ناقضوا نظريتي. فبدلًا من ١٥ دقيقة من الشهرة، سيحظى بـ١٥ قرنًا منها.

وهو بطل العالم ثلاث مرات مع البرازيل

غزو العالم:
في عمر الـ١٧ فقط، انضم بيليه لقائمة البرازيل التي سافرت إلى السويد في __١٩٥٨__، ليلعب دورًا حاسمًا في أول فوز للسيليساو بكأس العالم. سجل المراهق ستة أهداف بينها ثنائية في فوز منتخبه بنتيجة ٥-٢ على السويد في النهائي.

ورغم أنه كان لا يزال في الـ٢١، وصل بيليه لقمة عطائه الفني بعد أربعة أعوام في تشيلي __١٩٦٢__، حيث سجَّل هدفًا آخر في كأس العالم. لكن لسوء الحظ، أجبرته إصابة في مباراة البرازيل الثانية في دور المجموعات على مشاهدة بقية البطولة وتتويج بلاده بلقبها من مقاعد المتفرجين.

سحل بيليه هدفه الثامن في إنجلترا __١٩٦٦__،بطولة انتهت مبكرًا للسيليساو بعد الخسارة من البرتغال التي أدت للخروج من دور المجموعات.

ظن العديد من منتقديه، بما في ذلك أولئك في أرض الوطن، أن مسيرته انتهت، لكنه سيحظى بفرصة لرد اعتباره في آخر ظهور له في كاس عالم بعد أربعة أعوام.

بيليه توفي عن عمر يناهز ٨٢ عامًا ، ترك “الملك” إرثاً لا مثيل له في عالم كرة القدم.

أطلق دوندينيو وسيليستي على ابنهما الأول اسم إدسون كناية بأحد أهم المخترعين في العالم توماس إديسون. ورغم أن أفراد الأسرة أطلقوا عليه لقب “ديكو”، إلا أن أصدقاءه في المدرسة سمّوه “بيليه” نتيجة عدم لفظه لاسم الحارس البرازيلي “بيليه” بشكل صحيح. كان دوندينيو يلعب في دوريات الدرجات الدنيا.

وقال عن ذلك بيليه في مقابلة أجراها مع الفيفا : “أنا فخور جداً إلى يومنا هذا بأن والدي هو اللاعب الوحيد الذي أعرفه والذي سجل خمسة أهداف من كرات رأسية في مباراة واحدة”.

كان الأب دوندينيو وأصدقاؤه متسمّرين بالقرب من جهاز الراديو ويشعرون بسعادة بالغة، فالبرازيل كانت متقدمة بهدف دون رد على أوروغواي ولم يكن الفريق بحاجة سوى لتعادل في تلك المباراة التي استضافها ملعب ماراكانا عام ١٩٥٠ من أجل الفوز بأول لقب للسيليساو في كأس العالم. وعندها غادر بيليه، ابن التاسعة آنذاك، منزل والديه ليلعب كرة القدم مع أصدقائه.

ويستحضر بيليه مجريات ذلك اليوم قائلاً: “عندما عدتُ للمنزل، أصبتُ بالذهول. فقد كانت المرة الأولى التي أشاهد فيها أبي يبكي. كان مدمراً، ولكني تعهّدتُ له ’يوماً ما سأفوز بكأس العالم من أجلك‘.” لتكون تلك لحظة تحول بالنسبة إلى بيليه الذي أراد قبلها أن يصبح ربّان طائرة، ولكنه يرغب الآن أن يصبح لاعب كرة قدم.

نجح رأس حربة المنتخب البرازيلي السابق فالديمار دي بريتو باكتشاف الموهبة الاستثنائية لهذا الصبي الصغير عندما كان يدرب نادي باورو الذي تم حلّه لاحقاً، واصطحبه معه لفترة تجريبية في صفوف سانتوس، متبجحاً بأن تلميذه الصغير هذا سيصبح “أفضل لاعب في العالم”.

ورغم أن المدرب “لولا” هزأ من هذا الادعاء، إلا أنه سرعان ما منح بيليه فرصة اللعب للمرة الأولى في التشكيلة الرئيسية حالما رآه خلال أول حصة تدريبية، ولم يخيب ابن الخامسة عشر أمل المدرب، وسجّل هدفاً في مباراته الأولى.
وعلى مدى السنوات الثماني عشرة التالية، اقتنص بيليه ٢٥ لقباً مهماً لصالح سانتوس، بما في ذلك لقب كأس ليبرتادوريس مرتين وكأس الإنتركونتيننتال مرتين كذلك.

بالنظر إلى أن أندية الإنتر ويوفنتوس ومانشستر يونايتد وريال مدريد حاولت ضمّ بيليه إلى صفوفها، أعلنت الحكومة البرازيلية، في ظل حكم الرئيس جانيو كوادروس، أن هذا النجم هو بمثابة “كنز وطني رسمي” لمنع انتقاله إلى خارج البلاد.

سجل بيليه ١٢٧ هدفاً لسانتوس في سنة تقويمية واحدة عام ١٩٥٩.

خلّد بيليه القميص رقم ١٠ في أرجاء العالم، ولكن ذلك جرى بالصدفة. فقد نسي القائمون على المنتخب البرازيلي إرسال أرقام تشكيلة اللاعبين إلى الفيفا قبل انطلاق منافسات السويد ١٩٥٨، ولذلك تم تخصيص اللاعبين بأرقام عشوائية، دون أن يكون لها أي علاقة بمراكزهم، إذ تم منح الحارس جيلمار ولاعب قلب الدفاع زوزيمو الرقمين ٣ و٩ تباعاً. أما بيليه الذي استهلّ المباراة كلاعب احتياط فقد حصل على الرقم ١٠ الذي خلّده إلى الأبد.

٢٥ هو عدد الأهداف الدولية التي سجلها بيليه في ٢٥ مباراة فقط، ولم يصل أي لاعب آخر في التاريخ إلى هذا العدد من الأهداف الدولية عندما كان لا يزال مراهقًا.

بيليه وجرينشيا:
خاض بيليه وجرينشيا سوية ست مباريات في كأس العالم وعدة مواجهات في كأس أمريكا الجنوبية، وواجها الأرجنتين في عدة مناسبات، وكذلك عمالقة الكرة الأوروبية منتخبات إنجلترا وفرنسا والبرتغال والاتحاد السوفييتي وإسبانيا وألمانيا الغربية، دون أن يخسر هذا الثنائي العجيب أياً من تلك المباريات.

شخصية أوقفت الحرب:
قُتل ما بين مليون ومليوني شخص خلال الحرب الأهلية النيجيرية بين عامي ١٩٦٧ و١٩٧٠.
والمذهل أن الطرفين المتحاربين وهما الحكومة النيجيرية وإقليم بيافرا الانفصالي توصلا إلى هدنة دامت ٤٨ ساعة في عام ١٩٦٩، من أجل متابعة مباراة جمعت بيليه وناديه سانتوس مع النسور النيجيرية والذي انتهى بالتعادل بهدفين لمثلهما، ونال فيه “الملك” مساندة وتصفيقاً من الجمهور طوال المباراة.

نجم لا يمكن إقصاؤه:
قبل شهرين ونصف من انطلاق كأس العالم ١٩٧٠، ارتأى المدرب – جواو سالدانا الذي قاد المنتخب البرازيلي في مشوار تصفيات مثالي – أن يستبعد بيليه من تشكيلة الفريق في مباراة ودية أمام تشيلي، ليتسبب هذا القرار بإقالته خلال ساعات قليلة.

توجّه مسئولو الاتحاد الرياضي البرازيلي إلى معسكر تدريب نادي بوتافوجو دون تخطيط مسبق، وطلبو من ماريو زاغالو القدوم إلى السيارة لأنه أصبح المدرب الجديد للمنتخب الوطني. مستفيداً من الثقة التي منحه إياها زميله السابق، قام بيليه بإقناع زاغالو وطبيب الفريق ليديو توليدو بإشراك توستاو في البطولة، وهو الذي تعرّض لإصابة في العين هددت مسيرته في عالم كرة القدم.

أرقام قياسية في كأس العالم:
بيليه هو أصغر هداف وأصغر هداف ثلاثية شخصية وأصغر لاعب في النهائي وأصغر هداف في المباراة النهائية في تاريخ كأس العالم.
جونار جرين، الذي واجه البرازيل في مباراة الحسم في نسخة ١٩٥٨، شارك بمباراته الأولى مع المنتخب السويدي قبل أن يولد بيليه حتى. ولم يشهد تاريخ المباراة النهائية في العرس الكروي العالمي فارقاً عمرياً كهذا بين لاعبين، والذي بلغ ٢٠ عاماً.
أوفه زيلر وبيليه وميروسلاف كلوزه وكريستيانو رونالدو هم الوحيدون الذين هزّوا الشباك في أربع نسخ من كأس العالم (رونالدو برصيد بخمس نسخ بعد أن سجل هدفاً في قطر ٢٠٢٢)، وكان لاعب ألمانيا الغربية زيلر قد سبقه إلى ذلك قبل ثلاث دقائق فقط في نسخة ١٩٧٠.
فافا وبيليه وبول بريتنر وزين الدين زيدان وكيليان مبابي هم اللاعبون الوحيدون الذين سجلوا أهداف في نهائي نسختين من كأس العالم.

إرث الساحر:
يعود الفضل إلى بيليه في إطلاق لقب “اللعبة الجميلة” على كرة القدم، كما كان وراء إطلاق لقب “الفريق الجميل” على المنتخب البرازيلي الذي اعتلى منصة التتويج في المكسيك ١٩٧٠.

ملك نيويورك:
لم تكن كرة القدم حاضرة بشكل واضح في نيويورك في مطلع السبعينيات، ولكن مشاهير كرة القدم كانوا معروفين. ولذلك فإنه عندما نجح نادي نيويورك كوزموس بإقناع بيليه في العدول عن اعتزاله والانضمام للفريق في عام ١٩٧٥، تفجّرت شعبية اللعبة، وأصبح كوزموس الفريق الأكثر إبهاراً في العالم، وأصبح “الملك” من أشهر الشخصيات في مدينة نيويورك.

وقال الفنان ميك جاغر عن حضور بيليه في استوديو ٥٤: “كان الجميع على الإطلاق يودّ مصافحته، والتقاط صورة معه. والقول إنك أمضيت أمسية مع بيليه كان بمثابة وسام الشرف الأكبر”.

أسر بيليه قلوب الجماهير التي غصّب بها الملاعب لمتابعة مبارياته التي استقطبت الكثير من المشاهير، ولا سيما محمد علي وبيتر فرامبتون وجاجر وإلتون جون وهنري كيسنجر وروبرت ريدفورد ورود ستيوارت وباربارا سترايساند، بينما أقنع انتقاله هذا نجوماً من أمثال فرانز بيكنباور وكارلوس ألبرتو وجورجو كيناليا على القدوم إلى نيويورك، ليترك إرثاً خالداً على كرة القدم في الولايات المتحدة الأمريكية في محطته الأخيرة كلاعب.

التلفزيون والسينما فيلم Escape to Victory:
قام بيليه بدور هام في الفيلم الذي أخرجه جون هوستون عام ١٩٨١، ومثّل فيه كل من سلفستر ستالون ومايكل كين وماكس فون سيدو وبوبي مور، ويدور حول سجناء لقوات الحلفاء في الحرب العالمية الثانية وخوضهم لمباراة ودية مع الألمان.

مشاركات أخرى:
ظهر بيليه في عدة مسلسلات وأفلام برازيلية، وفيلم Hotshot الأمريكي، والفيلم الوثائقي الهزلي البريطاني Mike Bassett: England Manager.

مسلسل The Simpsons:
في إحدى الحلقات من عام ١٩٩٧ يسأل بارت والده عن سبب عدم اصطحابهم لمباراة كرة قدم، وفي المشهد التالي نرى العائلة في ملعب سبرينغفيلد تشاهد بيليه وهو يتحدث قبيل انطلاق مباراة بين البرتغال والمكسيك. ومنذ تلك الحلقة، شهدت هذه السلسلة ظهوراً لكل من ديفيد بيكهام وكريستيانو رونالدو ونيمار.

سجل بيليه ستة أهداف في مباراتين أمام فرنسا، وهي حصيلة ثلاثية في فوز بنتيجة ٥-٢ في نصف نهائي السويد ١٩٥٨، وثلاثية أخرى في لقاء ودي استضافته باريس عام ١٩٦٣. أما الخصوم الذين تلقت شباكهم أكبر عدد من أهداف بيليه مع المنتخب البرازيلي فهم باراغواي (١٠ أهداف في ٩ مباريات)، ومن ثم الأرجنتين (٨ أهداف في ٩ مباريات).

الموسيقى:
قبل بلوغه سن الثمانين بأربعة أيام، أصدر بيليه أغنية Acredita No Véio (استمع للرَّجُل الكبير) التي تم تسجيلها مع الفنانين رودريغو وغابرييلا اللذين فازا بجائزة غرامي عام ٢٠١٩. يُذكر أن بيليه كان يحب الموسيقى جداً، وألّف مئات المقطوعات منذ مطلع الستينيات. ويشتهر بأنه كان يحمل آلة تسجيل معه أينما ذهب لأنه “يمكن في أي وقت أن يأتيك الإلهام لأغنية، حتى في كأس العالم”.

المشاهير والتكريم؛
تم اختيار بيليه في عام ١٩٧٠ كأشهر شخص على هذا الكوكب قبل جون لينون والبابا بولس السادس وبول مكارتني ومحمد علي وبول نيومان والملكة إليزابيث الثانية ونيل أرمسترونغ وإلفيس بريسلي وكلينت إيستوود وإليزابيث تايلور وجون واين وباربرا سترايسند.

بعد بضع سنوات، تم تصنيف العلامة التجارية “بيليه” على أنها ثاني أكبر علامة تجارية في العالم وفقًا لاستبيان، وهي أكبر بشكل مذهل من شركات نفط وغاز وبنوك ومصنعي سيارات وشركات طيران وعمالقة اتصالات وكل شيء آخر إلا كوكاكولا.

كان بيليه ومحمد علي وجاكي روبنسون الرياضيين الوحيدين الذين ظهروا قي قائمة مجلة تايم عام ١٩٩٩ لأهم ١٠٠ شخصية في القرن.

في نفس العام، كان بيليه واحداً من تسعة رياضيين منحتهم اللجنة الأولمبية الدولية جائزة “رياضي القرن”، على الرغم من عدم مشاركته مطلقاً في الألعاب الأولمبية، ومن بين اللاعبين الآخرين المكرّمين كارل لويس ومارك سبيتز وناديا كومانتشي، وهما ثلاثة من أكثر الرياضيين انتصاراً في تاريخ الألعاب الأولمبية، بالإضافة إلى ستيفي غراف ومايكل جوردان.

كان بيليه هو أول من نال جائزة لوريس للإنجازات مدى الحياة عام ٢٠٠٠.