تباشر الحكومة الجزائرية بداية من يناير/كانون الثاني العمل على تحقيق الأهداف الاقتصادية التي تضمنتها موازنة 2023، ومن المتوقع أن تحقّق ازدهاراً اقتصادياً ترجوه الدولة منذ سنوات. وقد رصدت الحكومة لأول مرة مبلغاً قارب 100 مليار دولار في قانون مالية العام الجديد، الذي وقعه الرئيس عبد المجيد تبون هذا الأسبوع.

وتحاول الحكومة في موازنتها كل عام رغم التحديات الاقتصادية، أن تحافظ على ما تسميه "الطابع الاجتماعي" للدولة، مع البحث عن حلول تُخرِج اقتصادها من حيّز التبعية للمحروقات التي توضع على أساس سعرها الميزانية كل عام.

ميزانية تاريخية

في سابقة هي الأولى من نوعها، رصدت الجزائر مبلغاً يزيد على 99 مليار دولار في مشروع قانون المالية الذي يناقشه البرلمان، قبل توقيع رئيس الجمهورية عليه، وفق برتوكولات تشريعية تتم كل عام.

ولفت هذا المبلغ الذي وُصف بـ"التاريخي، والضخم" أنظار المتابعين في الداخل والخارج، مقارنة بالميزانيات المرصودة في السنوات السابقة.

في هذا الصدد يقول أستاذ الاقتصاد بجامعة أم البواقي مراد كواشي، في لقائه مع TRT عربي: "رغم ضخامة هذه الميزانية للجزائر، تظلّ في الوقت ذاته موازنة صغيرة، مقارنة بما يرصد في دول أخرى بما فيها دول المنطقة العربية".

وأوضح الخبير الاقتصادي هواري تيغرسي عضو لجنة المالية والميزانية بالبرلمان الجزائري سابقاً، في حديثه مع TRT عربي، أن حجم الموازنة انقسم بين ثلثين لميزانية التسيير، والأخير لميزانية التجهيز، حسب الالتزامات الاجتماعية للدولة.

وتحظى وزارة الدفاع بالنصيب الأكبر من موازنة الجزائر، وارتفعت هذا العام إلى 22 مليار دولار، في حين أنها كانت 10 مليارات دولار قبل عامين. وتأتي بعدها الميزانيات الخاصة بالتربية والتعليم والداخلية والجماعات المحلية والصحة والتعليم العالي والأشغال العمومية.

وتتوقع الحكومة في موازنة 2023 تحقيق إيرادات مالية تصل إلى 56 مليار دولار، وقد اعتمدت سعراً مرجعياً للنفط يُقدَّر بـ60 مليار دولار، وسعراً للسوق يستقرّ عند 70 مليار دولار.

يُذكر أن سعر النفط الجزائري اليوم يتخطى 80 دولاراً للبرميل الواحد، وسيظلّ بهذا الشكل في حال لم تتوقف الحرب في أوكرانيا. وتتوقع الجزائر أن تحقّق منه عائدات تزيد على 50 مليار دولار في هذا العام.

ومن المتوقع أن يحقّق قانون المالية الجديد نموّاً اقتصاديّاً في الجزائر بنسبة 4.1%، بالإضافة إلى خفض نسبة التضخم التي تقدر بـ9.4% إلى 5.4%. غير أن العجز في الموازنة سيصل إلى 43 مليار دولار هذا العام، بعدما كان 31 مليار دولاراً العام الماضي، وهو ما يمثل 20.6% من الناتج المحلي الإجمالي.

مواصلة الدعم الاجتماعي

يرجع هذا العجز في الميزانية بالأساس إلى استمرار الحكومة في سياسة الدعم الاجتماعي، رغم الانتقادات الموجهة إلى الطريقة التي يجري بها في الوقت الحالي.

ووصف البرلماني السابق هواري تيغرسي موازنة الجزائر لهذا العام في حديثه مع TRT عربي، بأنها "اجتماعية بامتياز"، مضيفاً أن الحكومة تهدف إلى تخصيص جزء من الميزانية للنفقات غير المتوقعة ودعم المتقاعدين والعاطلين عن العمل. بالإضافة إلى أنها تطمح إلى زيادة أجور الموظفين الحكوميين، والحفاظ على القدرة الشرائية.

وقد أقرّ الرئيس تبون هذا الأسبوع زيادة في أجور 2.8 مليون موظف حكومي على مدار عامَي 2023 و2024 تتراوح بين 32 و60 دولاراً شهريّاً. إلى جانب رفع منحة إعانة البطالة لتصبح نحو 107 دولارات، التي يستفيد منها 1.9 مليون عاطل عن العمل. بالإضافة إلى ذلك، أُجريَت زيادات في معاشات المتقاعدين تخصّ نحو 1.3 مليون متقاعد.

وحسب ما قاله هواري تيغرسي لـTRT عربي، فإن دعم القدرة الشرائية إجراء ضروري باعتباره المتغير الأساسي في لغة الاقتصاد، لأنه يساهم في الحفاظ على الأمن الغذائي وتطوير أداء قطاعات التربية والتعليم والصحة. وأضاف تيغرسي أن "تحقيق التنمية المستدامة يكون بالاهتمام بالعنصر البشري".

وإضافةً إلى الزيادات في الأجور والمنح، لم ترفع الحكومة أيضاً هذا العام قيمة الضرائب المفروضة على المواطنين، مع مواصلة دعم بعض المواد الأساسية كالحليب والزيت والسكر والخبز والوقود.

على جانب آخر، يرى أستاذ الاقتصاد مراد كواشي في حديثه مع TRT عربي، أن هذه الالتزامات الاجتماعية قد تصبح عبئاً يثقل كاهل الخزينة العمومية، في حال ما انخفضت عائدات النفط، بالنظر إلى أنها تشكّل العمود الأساسي لموازنة الدولة.

ديناميكية جديدة

أكّد وزير المالية الجزائري إبراهيم كسالي، لدى تقديمه مشروع قانون المالية 2023 أمام البرلمان، أن الحكومة لا تهدف من تلك الموازنة إلى المحافظة على القدرة الشرائية للمواطنين فقط، بل أيضا لـ"تعزيز برنامج الاستثمار العمومي والخاص لضمان النموّ الشامل".

وأضاف كسالي أن قانون المالية الجديد يتضمن إجراءات لتشجيع الاستثمار وتبسيط الإجراءات الضريبية وتعبئة الموارد، بالإضافة إلى أنه يشجّع على النشاطات التضامنية، ومكافحة الغشّ والتهرب الضريبي.

وأكّد وزير المالية الجزائري أن الموازنة التي اعتمدتها الحكومة لعام 2023 "ستعطي ديناميكية جديدة للاقتصاد الوطني".

واستكمل الخبير الاقتصادي هواري تيغرسي حديثه مع الـTRT عربي بأن "الحكومة تسعى من خلال سَنّ تسهيلات جمركية وضريبية، وأخرى تتعلق بالعقار الصناعي إلى استقطاب الاستثمارات، خصوصاً بعد صدور قانون الاستثمار الجديد الذي يضمن الشفافية في منح رخص الاستثمار، وتحقيق مبدأ العدالة والنزاهة في تحويلات الأموال".

أما الدكتور مراد كواشي فيوضح لـTRT عربي أن مساعدة هذه الموازنة في تحقيق نموّ اقتصادي مربوط بمدى تحسين مناخ الأعمال التي تتعلق بقطاعات أخرى خارج المحروقات مثل قطاع الصناعة، التي تظلّ مساهمته حتى اليوم ضئيلة. بالإضافة إلى تطوير قطاعات الفلاحة والسياحة والخدمات، وغيرها من المجالات غير المرتبطة بالنفط والغاز.

تجارب مخيبة

انتقدت حركة "مجتمع السلم" المعارضة ما ورد في موازنة 2023، وصوّت نوابها الـ64 ضدّ نصّ القانون حينما عُرض في البرلمان، راجعة ذلك إلى أن الموازنة أظهرت أن الحكومة لا تمتلك "رؤية اقتصادية". بجانب أنها لجأت إلى تضخيم ميزانية التسيير التي فاقت 70 مليار دولار، فيما لم تتعدَّ ميزانية التجهيز 30 مليار دولار.

ويثير الارتفاع المستمر لميزانية التسيير مخاوف من تكرار الأخطاء التي وقعت في عهد الرئيس السابق الراحل عبد العزيز بوتفليقة، والتي جعلت مسؤولين كباراً في مختلف قطاعات الدولة يرتكبون جرائم تتعلق بنهب المال العمومي. ويذكر أن القضاء الجزائري لا يزال يسعى لاسترداد تلك الأموال المهربة، واستُعيدت 20 مليار دولار منها حتى الآن، وفقاً لما قاله الرئيس تبون في آخر مقابلة تليفزيونية له.

ويشدّد الخبير الاقتصادي هواري تيغرسي على ضرورة مرافقة تنفيذ نصوص هذه الميزانية بتشريعات تضمن حماية المال العامّ وتطوير الاقتصاد، موضحاً أن هذا هو السبيل الوحيد الذي سيحقّق هدف الحكومة برفع ناتج البلاد المحلّي الخام إلى 200 مليار دولار في أقرب وقت.

واختتم كواشي حديثه مع TRT عربي، مؤكّداً أن تفادي الوقوع في أخطاء الماضي يكون بـ"انتهاج الصرامة في التسيير، والمحاسبة الدقيقة للمسؤولين، والمراقبة القبلية والبعدية لهم، والعمل على تحقيق أهداف رقمية، ومتابعة سير المال العامّ، والصرامة في تطبيق الميزانية وتشديد أقصى العقوبات على من تسوّل نفسه له سرقة مال الجزائريين".


TRT عربي