فى معنى القيم


عندما نبحث عن كلمة “قيم” في المصادر اللغوية العربية مثل لسان العرب ومختار الصحاح، لا نجدها إلا بوصفها أحد مشتقات المصدر “قوم”، وهي الكلمة التى تحيل إلى الثبات والوقوف وتقدير الشئ. وفيما يتعلق بالدلالات الأخلاقية للكلمة فيمكن أن نجدها فى كلمة الاستقامة. ولكن بشكل عام، فإن الدلالات الراهنة للقيم المشبعةبالأخلاق، يمكن أن تكون ظاهرة حديثة نسبيا تم تعزيزها بخطابات الهوية والخصوصية الثقافية التى شهدت طفرة هائلة فى العصر الحديث. ولا يجب تجاهل حقيقة أن المجال الاقتصادى هو الموطن الأصلى لمفهوم “القيمة”. ففى المصادر الحديثة، ارتبط مصطلح “القيمة” دائما بمبدأ المنفعة الاقتصادى، حيث أن قيمة الشئ تعنى “ثمنه” و”منفعته”. وهذا المعنى العملى نجده أيضا فى المصادر اللغوية الأقدم، وهذا يجعلنا نطرح السؤال: لماذا ومتى حدث هذا الارتباط الوثيق بين القيم والأخلاق والهوية؟

 

على ما يبدو أن القيم شأنها شأن سائر المصطلحات الثقافية والاجتماعية فى العصر الحديث، وخاصة فى مجتمعاتنا، ظلت أسيرة ثنائية “الثابت والمتغير” من ناحية و”الذات والآخر” من ناحية أخرى. وكما هو معروف فإن هذه الثنائيات غير فعالة فى المجال الاقتصادى، بقدر فعاليتها فى المجالين الثقافى والاجتماعى. ولذلك فإن تعريف القيمة اقتصاديا بوصفها “ثمن” أو “منفعة” لا يعنى أية دلالات أخلاقية. بينما يختلف الأمر عندما نصف سلوكيات أو أخلاقيات معينة بأنها ذات قيمة أو بوصفها قيمة فى حد ذاتها، فهنا تبدأ القيم نشاطها كمكونات ثقافية واجتماعية. 

 

وفي هذا السياق، تختلف تعريفات القيمة حسب الاتجاهات المعرفية والأيديولوجية، وحتى داخل المجال الواحد، فمثلا فى المجال الفلسفى نجد اختلافا فى تعريف “القيم” بين الاتجاهات المثالية والوضعية. ووفق التعريف الوارد فى “المعجم الفلسفى” لمجمع البحوث العربية، فإن الاتجاهات المثالية تعتبر “القيمة” من حق وخير وجمال “صفة عينية كامنة في طبيعة الأقوال “فى المعرفة”، والأفعال (فى الأخلاق)، والأشياء (فى الفنون)، وما دامت كامنة فى طبيعتها فهى ثابتة لا تتغير بتغير الظروف والملابسات”، أما الاتجاهات الطبيعية الوضعية، فتقول عكس ذلك أى أن القيمة “صفة يخلعها العقل على الأقوال والأفعال والأشياء، طبقا للظروف والملابسات وبالتالى تختلف باختلاف من يصدر الحكم.. والقيمة بهذا المعنى تعنى الاهتمام لشئ أو استحسانه أو الميل إليه والرغبة فيه، ونحو هذا مما يوحى بأن القيمة ذات طابع شخصى ذاتى خلو من الموضوعية، وتكون وسيلة لتحقيق غاية”. 

 

وتشكل النظرة المثالية التى تعتبر القيم أن كامنة وثابتة لا تتغير،أرضية ملائمة لبناء خطابات الهوية والخصوصية الثقافية وخاصة فى شقها الأخلاقى والقيمى، فمفهوم “الهوية” هو التعبير السياسى والاجتماعى الذى يدافع عن فكرة الثبات من أجل رسم حدود الجماعة السياسية أو الاجتماعية أو الدينية، أما القيم التى باتت تتماهى مع الأخلاق فهى مادة هذا الثبات وموضوعه. وهكذا، عادة ما تزعم خطابات الهوية الدفاع عن قيم ما، كما أن الحديث عن القيم فى خطابات أنصار الهويات الدينية والقومية لا يخلو من مقارنات مع قيم مجتمعات وثقافات أخرى، ولعل الجدل الشائع بين قيم الشرق والغرب خير مثال على ذلك. 

 

ولكن على العكس من ذلك، فإن الشائع فى مجال العلوم الاجتماعية النظر إلى القيم باعتبارها منتجات ثقافية، ومن ثم فهمها وتشخصيها من خلال تفاعلاتها الاجتماعية، وعوضا عن الانحياز لأفكار الثبات والكمون القيمى، يجرى النظر فى خصوصية السياقات التى تعطى للقيم معانيها. وبهذا المعنى، فإن الأمر لا يتعلق بما إذا كانت القيم جيدة أم سيئة، ولكن بطريقة توظيفها فى السياقات المختلفة، وكذلك بما يطرأ عليها من تحولات وتغيرات. 

 

وفى الواقع أن العزل “المثالى” بين القيم وواقعها، ليس “مثاليا” كما نعتقد لأنه يلبى متطلبات فى مجال سياسات الهوية. ووظيفة هذا العزل هى الإبقاء على نقاء القيم كصورة ذهنية، ومن ثم استخدامها كمادة مجردة لإضفاء مشروعية على خطابات الهوية. وليس هذا وفقط بل توظيفها كمرجعيات عرفية للمحاكمة والعقاب إذا لزم الأمر. وهكذا تظل “القيم” مغلفة وغائبة فى الأعالى، وبالتالى يسهل الزعم بأن ما هو موجود فعليا فى واقعنا لا يعبر عن “قيمنا”، وإنما نتيجة التأثر بقيم وافدة وغريبة، كما يمكن التحايل على الأمر من خلال الزعم بأن “قيمنا”، التى انحرفنا عنها، هى مصدر السلوكيات الجيدة فى المجتمعات والثقافات الأخرى على طريقة مقولة الإمام محمد عبده الشهيرة عندما ذهب لمؤتمر باريس عام 1881، عندما عاد وقال: “ذهبتُ للغرب فوجدت إسلاماً ولم أجد مسلمين، ولَـمَّا عدت للشرق وجدت مسلمين ولكنني لم أجد إسلاماً”. 

 

وباختصار فإن ربط القيم بالسياق أو عزلها عنه، مسألة تستحق التركيز عليها لتحرير القيم والثقافة من أسر ثنائية الذات والآخر التى حكمت تفكيرها على مدار العصر الحديث. وهذه ليست مجرد تفضيلات ذهنية بل توجهات فكرية لها مردود. وربما علينا أن نعترف بأن هناك بين من يسعى لبناء قيم تواكب المتغيرات وتابى متطلباتالتماسك الاجتماعى بغص النظر عن مصدرها، وبين من لا يرى فى “القيم” سوى مادة مجردة للحفاظ على هويات باتت وبشكل متزايد قاصرة عن التعبير عن المتغيرات الاجتماعية والثقافية. 

 

 

 

تاريخ الخبر: 2023-01-09 09:22:07
المصدر: وطنى - مصر
التصنيف: غير مصنف
مستوى الصحة: 60%
الأهمية: 63%

آخر الأخبار حول العالم

الجدعان: تحديات جدية تواجه الاقتصاد العالمي - أخبار السعودية

المصدر: صحيفة عكاظ - السعودية التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-05-15 06:23:41
مستوى الصحة: 48% الأهمية: 56%

إطلاق سراح الرهائن بالضغط العسكري كلام فارغ!

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-15 06:06:51
مستوى الصحة: 85% الأهمية: 96%

قوات "الشمال" تتجه نحو تحرير خاركوف

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-15 06:06:52
مستوى الصحة: 82% الأهمية: 98%

«الشاورما» تشغل الألمان وتلاحق رئيس البلاد! - أخبار السعودية

المصدر: صحيفة عكاظ - السعودية التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-05-15 06:23:42
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 54%

مع مريـم نُصلّي ونتأمل (١٥)

المصدر: وطنى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-05-15 06:21:26
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 50%

روسيا ترد على استعماريي الغرب الجدد

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-15 06:06:50
مستوى الصحة: 78% الأهمية: 89%

«الرياض المالية» تطلق صندوق «1957 فنتشرز» - أخبار السعودية

المصدر: صحيفة عكاظ - السعودية التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-05-15 06:23:39
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 56%

أمريكا ترفع رسوم سيارات الصين الكهربائية 3 أضعاف - أخبار السعودية

المصدر: صحيفة عكاظ - السعودية التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-05-15 06:23:40
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 62%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية