الأثرياء يزاحمون الفقراء
الأثرياء يزاحمون الفقراء
تعود المتابعون لصيحات الموضة في العقود السابقة علي قبول الصيحات المستحدثة تتسلل إلي سوق الملابس مع تغيير طفيف عن الأعوام السابقة, وكان التغيير لا يطال إلا اللون السائد أو التصميم المعتاد للملابس مع تغيير في الجيوب أو الياقات, وفي الحقيقة كانت كلها ضمن الذوق المستساغ للعامة وكان من الممكن تقبلها بلا انزعاج, ولكن تلاحظ في الآونة الأخيرة أن أسواق الملابس باتت تزخر بملابس غالية الثمن بعدما خرج علينا مصممو الأزياء بما سموها موضة الفقراء, وهي ملابس رثة مهترئة بين بنطال ممزق وتم ترقيع بعض فتحاته, وقميص مخرم وسترة تناسلت خيوطها, حتي البقع المفتعلة والمصطنعة باتت تزين ما تبقي من السترة.
هذه الظاهرة السلوكية, التي توجد ميلا لدي الأثرياء بالتسلل لحياة الفقراء واقتباس أيقونات الفقر بل منافسة الفقراء في تقليد أحوالهم. وضعت تحت المجهر وبحثها علماء السلوك والمتخصصون في العلوم الإنسانية والنفسية, وكانت النتيجة هي تفوق جوانب الإثارة في حياة الفقراء علي جوانب الهدوء والوتيرة الناعمة في حياة الأثرياء. ولعل التاريخ الغنائي المصري يذكرنا بالتغزل في حياة الفقراء ومديح حياتهم في قصيدة كتبها بيرم التونسي وهي محلاها عيشة الفلاح, التي تغني بها خمسة مطربين عبر تاريخ الفن بدءا من الموسيقار محمد عبدالوهاب وانتهاء بالفنانة نجاة الصغيرة.
من يتمتع بجذور ريفية ربما يتذكر الخبز الأسمر, وهو إما مصنوعا من طحين الشعير ويحتوي علي نسبة عالية من الألياف الشوكية الظاهرة في تركيبته, أو مصنوعا من دقيق الذرة العوجاء وهي سلالة الذرة التي توشك علي الانقراض وربما أنها قد آلت إلي قائمة العلف الحيواني, وكان هذا النوع من الخبز من نصيب الفلاح الفقير المعدم الذي لا يملك طينا ويعمل أجيرا باليومية, والغريب أن هذين النوعين من الخبز الأسمر الفقير يحتويان علي نسبة بروتين أضعاف ما يحتويه خبز الذرة الأبيض الفاخر المعروف بـالفينو الذي يكاد يخلو من البروتين.
تمر الأيام, ويصبح النوع الأخير من أغلي المخبوزات الصحية لنظام الحمية, وأصبح يباع علي شكل قوالب مقطعة إلي شرائح لطالبي الرشاقة والحمية الصحية وكذلك لمرضي القولون ويباع في عبوات بأسماء فرنسية وبأسعار تفوق البروتين وأندر أنواع الفاكهة.
إذن التنازع حول توزيع الحصص وفق الفقر والثراء ليس هو الشاغل الأكبر لمجتمع الأغنياء, بل هو الاعتراف بما تقسمه الطبيعة من خيراتها وإعادة فهمه واستيعابه, فأبسط المأكولات وأرخصها كان من نصيب الفقراء بات في حيازة الأغنياء تحت مبررات الحفاظ علي الصحة تارة, ولأجل العودة للطبيعة مجددا, وهو منهج الإقرار بحلاوة التوزيع الطبيعي لخيرات الحياة.
نظرة سريعة إلي المنتجعات السكنية التي تسوق للأغنياء من حيث التخطيط والخضرة وإثرائها بأدوات الجذب مثل البحيرات والقنوات المائية التي تشبه الترع والمصارف الريفية, تؤكد حب النفس البشرية للعودة للطبيعة وشراء متعة الريف وإنفاق الأموال الباهظة لابتياع الهدوء والنقاء.
وحتي سلة الغذاء الريفي التي كان يقتات منها الريفيون والفقراء مثل الدواجن والبيض ومنتجات الألبان باتت هي الأخري مطمعا لأهل المدن, وأصبح لفظ بلدي المصاحب للبيض والسمن والطيور واللحوم والأسماء يحمل في ذاته القيمة الأرقي والفائدة الأعظم.
المثير للدهشة في هذا السياق أن لفظ بلدي الذي كثيرا ما جاء علي ألسنة النبلاء وجمهور الطبقة الراقية كما عهدناه في سينما الأبيض والأسود كان يشير إلي الجودة الأقل وانعدام الرفاهية, بل أحيانا خلو الموصوف من القيمة, ولكن تأتي الأيام لتجعل هذا المسمي البلدي يعتلي كل عناصر الجودة والرقي.
شهدت مصر منذ بداية السبعينيات تحولا غريبا في نمط التوزيع السكاني غير المرشد, وهو ما يعرفه علماء الاجتماع بتمدن الريف وتريف المدن, وهي الطفرة التي أتت بها الهجرة من الريف إلي المدن من ناحية, ومن ناحية أخري تحويل الامتداد العمراني في المدن من المعمار الرأسي أي العمارات الشاهقة إلي المعمار الأفقي وهو المتمثل في الزحف الأفقي بارتفاح طابق أو طابقين كما نشاهده في المنتجعات المغلقة.
قد يظن البعض أنه لا ضرر من هذا التحول في النمط السكاني, وهو مبادلة التريف بالتمدن, ولكن الحسابات العلمية في مجال الاقتصاد تنذر بخطورة انحسار الإنتاج الريفي وتقلص سلة الغذاء الأخضر والحيواني والداجني جراء التهام المعمار الأسمنتي في الريف الرقعة الزراعية الخضراء من ناحية, وتقلص الفلاحة والأداء الريفي في الزراعة وتربية الحيوانات من ناحية أخري, وهو الأمر الذي جاء بالتعاسة علي أهل الريف وأهل المدن علي حد سواء لأن سلة الغذاء هي الوعاء القومي لكل المصريين, كل هذا بعيدا عن التحول السلوكي وتبعات تمدن الريف بعد إضافة أجهزة تكييف الهواء للبيوت بما يستحيل معه تربية الطيور والاحتفاظ بفرن المخبوزات في نفس المسكن.
نظرة عابرة لوصف الريف ومفهوم الفلاحة وقواعد الحياة المدنية وتوزيع النمط السكاني في إنجلترا أو الولايات المتحدة الأمريكية, تضعك أمام الحسابات الصحية لإدارة الحياة ورفاهية السكان في القطاع الريفي والمدن فيهما أو في بقية البلاد الأوروبية التي احترمت معادلة البقاء بسهولة, ويسر الحصول علي كل الخدمات في الريف مثل خدمات التعليم والثقافة وأنشطة الوزارات والسفارات, وتحقق هذا الأمر بما نعرفه اليوم بالحكمة الإلكترونية وهي طفرة تقنية تتيح لقاطني الريف الاستمتاع بكل الخدمات التي يحظي بها سكان المدن حتي وإن كانت حفلات الأوبرا.
إن لم نتدارك الأمر مبكرا, فسوف تنطلق الثورات القادمة من قصور الأثرياء لنهب أكواخ الفقراء.