يونان النبي
يونان النبي
ألقي يونان في البحر, وأعد الرب حوتا عظيما فابتلع يونان. يايونان, صعب عليك أن ترفس مناخس. إن شئت فبقدميك تصل إلي نينوي. وإن لم تشأ فستصل بالبحر والموجة والحوت. بالأمر, إن لم يكن بالقلب.
وفي جوف الحوت وجد يونان خلوة روحية هادئة, ففكر في حاله. إنه في وضع لاهو حياة, ولا هو موت. وعليه أن يتفاهم مع الله, فبدأ يصلي. إنه لا يريد أن يعترف بخطيته ويعتذر عنها, وفي نفس الوقت لا يريد أن يبقي في هذا الوضع, فاتخذ موقف العتاب, وقال: دعوت من ضيقي الرب, فاستجابني… لأنك طرحتني في العمق… طردت من أمام عينيك.
من الواضح أن الله لم يضع يونان في الضيق, ولم يطرحه في العمق, ولم يطرده ولكن خطيئة يونان هي السبب.
هو الذي أوقع نفسه في الضيقة ثم شكا منها, ونسب تعبه إلي الله.. ولكن النقطة البيضاء هي أنه رجع إلي إيمانه في بطن الحوت فآمن أن صلاته ستستجاب, وقال للرب أعود أنظر إلي هيكل قدسك آمن أنه حتي لو كان في جوف الحوت, فلابد سيخرج منه ويري هيكل الرب.
أتت هذه الضيقة الكبري بمفعولها. ونجح الحوت في مهمته. والظاهر أن يونان نذر نذرا أنه إن خرج من جوف الحوت, سيذهب إلي نينوي لأنه قال للرب وهو في جوف الحوت أمام أنا فبصوت الحمد أذبح لك, وأوفي بما نذرته (2:9). أي نذر تراه غير هذا؟! ثم أنه لما قذفه الحوت إلي البر, وصدر إليه أمر الرب ثانية, نفذ نذره, وذهب إلي نينوي…
ولكن الظاهر أنه ذهب بقدميه مضطرا, وليس بقلبه راضيا. ذهب من أجل الطاعة, وليس عن اقتناع.
بلغ الرسالة إلي الناس. ونجحت الرسالة روحيا.. وتاب أهل نينوي وتذللوا أمام الرب, وصاموا, وصلوا. وقبل الرب توبتهم, ولم يهلك المدينة. ورأي النبي أن كلمته قد سقطت, ولم يهلك المدينة فاغتاظ.
وكان غيظ يونان دليلا علي الذاتية التي لم يتخلص منها.
ما كان يجوز إطلاقا أن يغتاظ النبي لخلاص أكثر من 120000 نسمة, قد رجعوا إلي الله بالتوبة وقلب منسحق, لأن الكتاب يقول يكون هناك فرح في السماء بخاطئ واحد يتوب. لا شك إذن أنه قد كان هناك فرح عظيم جدا في السماء بخلاص أهل نينوي. ولكن يونان لم يشارك في هذا الفرح من أجل ذاتيته. كما أن الابن الأكبر لم يشارك في الفرح برجوع أخيه الصغير وفي الحفل الذي أقيم له لأجل ذاتيته أيضا (لو15).
في كل هذا لم تكن مشيئة يونان موافقة لمشيئة الله.
ولم يكتف يونان بهذا, بل عاتب الله, وبرز ذاته, وظن أن الحق في جانبه. فصلي إلي الله وقال آه يارب, أليس هذا كلامي إذ كنت بعد في أرضي. لذلك بادرت بالهرب إلي ترشيش, لأني علمت أنك إله رؤوف ورحيم (4:2).
كيف صلي, وهو في تلك الحالة القلبية الخاطئة المغتاظة! وكيف تكلم كما لو كان مجنيا عليه وقال آه يارب؟ وكيف ظن الحق في جانبه قائلا أليس هذا كلامي وكيف برر هروبه قائلا لذلك بادرت بالهرب…. لم يقل ذلك في شعور الندم أو الانسحاق, بل شعور من له حق, وقد رضي بالتعب صابر!
عجيب هو الإنسان حينما يجامل نفسه علي حساب الحق! ويرفض الاعتراف بالخطأ مهما كانت أخطاؤه واضحة!!
علي أن الله استخدم في علاجه أربعة أمثلة من مخلوقاته غير العاقلة التي كلفت بمهام صعبة, وأدتها علي أكمل وجه, دون نقاش: الأمواج التي لطمت السفينة حتي كادت تغرق, الحوت الذي بلع يونان, الشمس التي ضربت رأسه فذبل, الدودة التي أكلت اليقطينة…
أما يونان فجلس شرقي المدينة ليري ماذا يحدث فيها. كما لو كان ينتظر أن يعود الله فيهلك الشعب كله إرضاء لكرامة يونان؟!!
وأعطاه الله درسا من كل تلك الكائنات غير العاقلة التي كانت أكثر تنفيذا لمشيئته من هذا النبي العظيم, الذي لم يتركه الرب بل هداه إلي طريقه, بركة صلواته فلتكن مع جميعنا.
إن قصة يونان النبي وتوبة أهل نينوي, إنما تقدم لنا تأملات كثيرة…
لقد دخل شعب نينوي في التاريخ, ولم تكن لهم مظاهر عظمة تدعو إلي ذلك علي الإطلاق…
كانوا شعبا أمميا لا يعرف الله. وكانوا في حالة من الجهل لا يعرفون يمينهم من شمالهم (يون 4:11). وكانوا أيضا خطاة تلزمهم التوبة…
ولكن الذي سجل اسمهم, وخلد قصتهم في الكتاب المقدس, هو أنهم تابوا…
وقال عنهم السيد المسيح أنهم سيقومون في يوم الدين ويدينون هذا الجيل, لأنهم تابوا بمناداة يونان (متي 12:41).. ومما أعطي لتوبة أهل نينوي أهمية في التاريخ, إنها كانت توبة جادة وسريعة وقوية. كما أنها شملت الشعب كله من الملك إلي عامة الناس. واستطاعت هذه التوبة أن تكسب رضا الله, بل ودفاعه عن هؤلاء التائبين.
كثيرون سجل التاريخ أسماءهم بسبب أعمال عظيمة قاموا بها, أو بسبب نبوغ أو ذكاء خاص, أو ارتفاع في حياة الروح, أو قدرة علي إتيان المعجزات, أو ما منحهم الله إياه من مواهب…
أما نينوي فنالت شهرتها بالتوبة…
وكلما نذكر نينوي, نذكر هذه التوبة, لكيما نقتدي بها في حياتنا…
هناك نوعيات من التوبة لا يستطيع التاريخ أن يتجاهلها, وبخاصة إذا كانت تلك التوبة نقطة تحول في الحياة, ولا رجعة فيها. وما بعدها يختلف تماما عن حياة الخطية الأولي…