وصفه الإعلام بـ"اليوم الأسود" في جنوبي تركيا والشمال السوري، نظراً إلى حجم الكارثة الإنسانية التي خلّفها الزلزال المدمر، لكن بالنسبة إلى سكان المنطقة الذين قاوموا الصدمة الأولى، كان يوماً مليئاً بالعمل لتقليل حجم هذه الكارثة الإنسانية الفاجعة.

تقول الأسطورة الرومانية إن الأرض تستند إلى دعامات ثلاث: ‏الإيمان والأمل والإحسان، وعندما تفتقر الأرض إلى إحدى هذه الدعامات يختل توازنها ويحدث الزلزال. ولكن مشهد أمس لا يعكس صحة تلك الأسطورة، فقد كانت الدعامات صلبة وقوية في المناطق التي أصابها الزلزال المدمر، عندما كان المشهد يختلط بين صراخ الأطفال وسعي الشباب لتخفيف وقع الكارثة قدر الإمكان.

بعد ثوان معدودة من وقوع الزلزال الذي بلغت قوته 7.7 درجة فجر يوم السادس من فبراير/شباط الجاري في الجنوب التركي، وتسبب في قتل 3419 إنساناً، وجرح 20 ألفاً آخرين وهدم 5775 مبنىً، خرج سكان مدينة غازي عنتاب التركية كلهم في الشوارع، خوفاً من انهيار الأبنية فوق رؤوسهم كما حدث في عدة أحياء من المدينة فضلاً عن البنايات التاريخية التي تمتد لآلاف السنين مثل قلعة عنتاب والسوق القديمة.

نزل السكان إلى الشوارع بلا تحضير مسبق، حفاة بثياب خفيفة لا تستطيع صد هذا الشتاء القارس عن أجسادهم. صراخ وذعر وأبنية منهارة وطرق مشققة، وأمطار وأرض تراكمت عليها الثلوج في درجة حرارة تقترب من الصفر، هكذا اكتملت قسوة المشهد.

خيام بالمناطق الآمنة في مدينة غازي عنتاب (TRT Arabi)

جدير بالذكر أنه بعد الزلزال المذكور، الذي كان مركزه قهرمان مرعش وضرب 10 مدن في جنوبيّ تركيا، وقعت ثلاثة زلازل أخرى بعدها بدقائق، بقوة 6.4 و6.6 و6.5، مركزها غازي عنتاب، لتتوالى بعد ذلك الاهتزازات الارتدادية في منطقة الجنوب ليصل عددها إلى 285، واحدة منهم قاربت قوتها الهزة الأولى مسجّلة 7.6 درجة.

ومن المحتمَل أن تستمرّ تلك الهزات لمدة عام، وستتراوح درجات بعضها بين 6 و6.7 ريختر، حسب البروفيسور أورهان تتار مدير عامّ هيئة مخاطر الزلازل التابعة لإدارة الكوارث في تركيا (AFAD).

بعد هذا النوع من الصدمات تكون ردود الأفعال مختلفة حسب الطبيعة النفسية، فتحدث إما حالة إنكار تمنع الإنسان من التعامل مع الصدمات، وإما حالة استيعاب بدرجات متفاوتة تدفع الإنسان إلى محاولة الخروج من الأزمة.

كان استيعاب عمر للصدمة سريعاً، وأخذ زمام المبادرة الأولى، نازعاً معطفه في هذا الجوّ القاسي ملبساً إياه طفلاً يكاد يفقد وعيه من شدة الخوف والبرد. كان عمر بمثابة خيط نور كشف عن ظلام الواقع الحالي للحظة القاسية التي تلف المكان، وبعد دقائق معدودة تلاه آخرون ليقدموا الدعم رغم ما يعيشونه هم أيضاً.

جمع الشبان بعض الأخشاب وأوقدوا النار للسكان المتجمهرين تحت مظلات المحالّ التجارية المتبقية، أملاً في الاحتماء من الأمطار، وفي بعض الدفء في هذا المشهد البارد. دقائق أخرى جازف فيها البعض بالصعود إلى المنازل المحتمَل أن تنهار في أي لحظة، وأحضروا الأغطية وبعض الملابس والأحذية. وكما لم يميّز الزلزال المدمر بين ضحاياه، لم يميز الشبان بين من قدّموا له الدعم الإنساني، تركيّاً وسوريّاً وغيرهما، فهذا هو وقت انصهار الأعراق والاتحاد إنسانياً.

بعد ساعات قليلة يجلس عمر على الأرض وقد أنهكه العمل والبرد، مشيراً إلى ما استطاع أن يقدّمه برفقة آخرين من خدمات إنسانية. يقول لـTRT عربي إن الأزمات وإن كانت مأساوية، فإن لها وجهاً إنسانيّاً آخَر، فعند حدوثها تتلاشى الحدود الفاصلة بين جنسية وأخرى أو دين وآخر، ويضيف عمر: "صوت الإنسانية هو الأعلى حين وقوع الأزمات".

تتوالى الاهتزازات وارتداداتها بلا توقف، ما جعل عودة الناس إلى منازلها أمراً مستحيلاً. وحددت إدارة بلدية عنتاب بعض الأماكن الآمنة كي يلجأ إليها الناس للاحتماء، مشددين على أهمية عدم دخول المنازل لأي سبب. فضلاً عن هذه الأماكن كانت المساجد ملاذاً آمناً أيضاً منح الناس بعض الشعور بالأمان، ومنحتني قليلاً من الوقت والدفء لأكتب على هاتفي المحمول تلك المادة الصحفية التي تقرؤونها الآن.

تضافُر الجهود لم يتوقف عند الساعات القليلة التي تلت الزلزال الأول، بل امتدت إلى دور الإيواء لمحاولة تأمين الغذاء وتوزيعه في ظل إغلاق شبه تامّ للمطاعم ومحلات البقالة ومراكز التسوق.

ومن داخل دور الإيواء ترصد TRT عربي كيف يتكاتف الجميع رغم عموم الأزمة، فبينما يجهّز محمود شطائر الخبز بالجبن ويوزّعها على من تقع عليه عينه، ينشغل صديقه أبو الوليد بتحضير شطائر اللحم الخفيف المصنَّع ليوزّعها على آخرين. يقول محمود إن "الطعام الذي يكفي شخصاً يمكن أن يكفي اثنين، ويجب أن يأكل الجميع بعد هذا اليوم المرهق".

مواطنو غازي عنتاب يحتمون من الأمطار بعد الزلزال (TRT Arabi)

على الجانب الآخر احتشدت أعداد كبيرة أمام مراكز التبرع بالدم، تلبية للنداءات المتكررة لحاجة المشافي إلى كميات كبيرة منه. وقد أنشأ طلاب الجامعة مجموعات على تطبيق واتساب لهذا الغرض، لنشر نقاط التبرع بالدم وتوجيه المتبرعين إلى النقاط الأقلّ اكتظاظاً.

ويقول عبد الحميد الذي أنشأ إحدى تلك المجموعات إن فجاعة الحدث جعلته يشعر أن جزءاً من حيوات الناس يقع على عاتقه، ويجب أن يفعل شيئاً حيال ذلك، مشيراً إلى أنه يحاول الوصول إلى أكبر عدد من الطلبة الجامعيين لتوجيههم إلى المراكز الأقرب والأقل ازدحاماً من أجل التبرع بالدم.

"لماذا لا أؤدّي هذا العمل؟ إن العمل الجماعي لا سيما في حالات الكوارث يمنح الآخرين الحياة، أو على الأقلّ يمنحهم الأمل، فيما ليس الانغماس في الذات سبيلاً للنجاة، ويدمر الشعور الإنساني مثله مثل الزلازل"، هكذا أجاب عبد الحميد عن سؤال TRT عربي حول الأسباب التي تدفعه إلى القيام بهذا العمل.


TRT عربي