بعد عاصفة الزلازل التي ضربت ولايات جنوب تركيا يوم السادس من فبراير/شباط الجاري، وأثناء مناقشة التقنيات الهندسية الحديثة المقاومة للزلازل، ومن أبرزها العوازل المرنة التي توضع بين أساسات وأعمدة المباني، استذكر كثير من الخبراء التقنيات المشابهة التي استخدمها المعماري العثماني الشهير "معمار سنان" في مساجده وصروحه منذ قرون عدة.

وعلى مر التاريخ، تعرضت تركيا بشكل عام وإسطنبول بشكل خاص، للعديد من الزلازل العظيمة. ومع ذلك، فإن الصروح التي صممها وشيدها معمار سنان نجت من هذه الزلازل دون أي ضرر تقريباً. المساجد مثل مسجد السليمية ومسجد السليمانية ومسجد شهزاده، بالإضافة إلى الجسور والحمامات وغيرها الكثير ليست سوى عدد قليل من تراث معمار سنان.

ولما يقرب من 5 قرون، تمكنت صروح سنان، التي تجمع بين الجمال المعماري والبراعة الهندسية، من البقاء في وضع مستقيم بفضل العبقرية الهندسية لمصممها، فضلاً عن درايته الواسعة بطريقة عمل الأجزاء الهندسية ومواد البناء أثناء الزلازل، ما مكنه من استخدام أساليب وتقنيات سابقة لعصره وزمانه.

ما السر الذي جعل أعمال معمار سنان مقاوِمة للزلازل؟

قبل الخوض بالتفاصيل، اختيار الموقع الصحيح وتصميم الأساسات المناسبة هما العنصران الأكثر أهمية في وصفة سنان المعمارية المقاومة للزلازل.

وإذا ما تفحصنا مسجد السليمية (مدرج ضمن قائمة اليونسكو للتراث العالمي) الذي بُني في أدرنة عام 1574، والذي وصفه معمار سنان بأنه تحفة فنية، نجده مقاوماً للزلازل بشدة ولم يتضرر من الزلازل في الماضي. من الواضح أن معمار سنان اهتم بتفاصيل صغيرة جداً ولكنها مهمة أثناء تنفيذ هذا العمل.

ووجد الخبراء الذين درسوا الأرض والمسجد أن أرض مسجد السليمية كانت تربة رخوة، وعليه قرروا أن أفضل حل هندسي لإنشاء مسجد ومنارات طويلة فوق هذا الموقع هو تثبيت أساسات المآذن بالمشابك المعدنية حتى لا تتلف أو تدمر. لكن الغريب ما وجدوه خلال استكمال الدراسات على المسجد، حيث اكتشفوا أن معمار سنان كان قد طبق الحل نفسه باستخدام التكنولوجيا ذاتها منذ سنوات طويلة.

مسجد السليمانية (AA)

وعد بإنشاء مسجد يبقى قائماً "حتى يوم القيامة"

في العمارة الحديثة، يتراوح عمر المباني بشكل عام بين 100 و150 سنة، وبعد هذه الفترة لا يمكن ضمان المتانة. لكن المهندس العثماني معمار سنان وعد السلطان سليمان القانوني في القرن السادس عشر أن يبني له مسجداً يبقى قائماً حتى يوم القيامة. التحدي الأكبر لسنان هو أنه بنى مسجد السليمانية في مدينة إسطنبول التي تشتهر بزلازلها القوية والعنيفة.

تأكد سنان عند بناء مسجد السليمانية من توفير شرطيه الأساسيين: نوعية الأرض والأساسات المناسبة. ولأكثر من 5 قرون، نجا المسجد، رغم أبعاده الهائلة، من 89 زلزالاً، 15 منها تجاوزت قوتها 5.5 درجة على مقياس ريختر، دون وقوع أي أضرار تذكر. وجرى ترميمه منذ بنائه 4 مرات فقط.

كأول خطوة، حفر معمار سنان حفرة أساس مساحتها 150 متراً في 70 متراً وعمقها 6 أمتار، حيث أزال التربة الرملية بسمك 5-6 أمتار حتى وصل إلى الطبقة الصخرية القريبة من السطح. بعد ذلك، غرز 30 ألف ركيزة في التربة ووضع فوقها أطناناً من الكتل الحجرية، وانتظر لأكثر من عامين. ونتيجة لذلك، ضمن أن الأرض أصبحت مضغوطة بشكل أفضل وقادرة على حمل الأوزان.

أعطى هذا الأساس المتدرج للمبنى القدرة على التصرف بشكل متين في حالة الاهتزاز (Others)

بعد ذلك، غطّى الأرضية بطبقة من الملاط بسُمك 20 سم ووضع عليها حواجز خشبية (وهي الطبقة المرنة التي عملت كالمساند المطاطية المقاومة للزلازل اليوم).

علاوة على ذلك، بنى جداراً أرضياً من الحجارة المقطوعة والصخور، وضيّق تدريجياً عرض الأساس صانعاً شكل الهرم. أعطى هذا الأساس المتدرج للمبنى القدرة على التصرف بشكل متين في حالة الاهتزاز.

كما حافظ معمار سنان على جفاف الأساس من خلال قنوات التصريف التي قامت بدورها بعزل أساسات المبنى عن المياه الجوفية.

تقنيات سنان المقاومة للزلازل

1. ملاط خراسان: في العمارة الكلاسيكية السلجوقية والعثمانية، كانت مادة الحشو الأساسية بين الحجارة في المباني هي ملاط ​​خراسان. وهو عبارة عن خليط جرى استخدامه منذ عهد الأهرامات المصرية، حيث يتصلب تحت الضغط وينثني عند اهتزازه. لكن معمار سنان استخدم الملاط بعد تغيير قليل في محتواه ما جعله أكثر مرونة ومناسباً في حالات الزلازل.

ملاط خراسان. (Others)

2. حلقات رصاصية: من أجل الحفاظ على مرونة الحجارة وعدم سقوطها جراء الاهتزازات التي تسببها الزلازل، أخذ معمار سنان الأعمال الحجرية الكلاسيكية في المآذن خطوة أخرى إلى الأمام، حيث حفر ثقوباً في الحجارة وشَبَكها معاً من خلال حلقات رصاصية. بمعنى آخر، جرى استخدام تقنية المفاصل المرنة المستخدمة في اليابان اليوم في السليمانية قبل 500 عام.

حلقات رصاصية (Others)

وتتميز مآذن السليمانية بمرونة لا يمكن رؤيتها في أي مبنى آخر. وبفضل مفاصلها المتحركة التي تمتص صدمة الهزات، يمكن للمبنى أن يتحمل حتى زلزال بقوة 8 درجات. بعبارة أخرى، تنافس مآذن مسجد السليمانية ناطحات السحاب اليوم.

3. "ميزان الزلازل": يشتهر مسجد مرادية الذي شُيد عام 1585، وهو العمل الوحيد لمعمار سنان في مانيسا ومنطقة بحر إيجة، بأحجاره الأسطوانية الدوارة التي تقع على طرفي المحراب. والتي يظهر دورانها عند تحريكها باليد أن هيكل المبنى سليم ولم يتعرض لأضرار سببت ضغوط عليها بالشكل الذي يمنعها من الدوران.

ما زالت موازين الزلازل تدور في مسجد مرادية منذ 438 عاماً، ما يُظهر بوضوح متانة المسجد ومقاومته للزلازل طوال هذه المدة الطويلة.

من ناحية أخرى، اشتهرت المساجد العثمانية قبل عصر معمار سنان بوجود هذه الموازين الموضوعة في زوايا المساجد، حيث توجد موازين زلزالية في مسجد هاطاي محرمية الذي يقدر بناؤه بين عامي 1400 و1500، ومسجد بورصه الأخضر الذي جرى بناؤه عام 1424.


TRT عربي