انتفاضة مارس– أبريل: ما أشبه الليلة بالبارحة «2»


انتفاضة مارس– أبريل: ما أشبه الليلة بالبارحة «2»

تاج السر عثمان بابو

ما هي دروس الانتفاضة؟

أشرنا في الحلقة السابقة إلى انتفاضة مارس– أبريل 1985 التي أدت لإسقاط النظام المايوي، لكن لم يتم تحقيق أهدافها في التصفية الكاملة لقوانينه القمعية واستدامة الديمقراطية، ويمكن تلخيص أهم دروس الانتفاضة في الآتي:

أولاً: بعد نجاح الانتفاضة والإضراب السياسي العام والعصيان المدني، قطع انقلاب القيادة العامة بقيادة المشير سوار الدهب الطريق أمام الانتفاضة وتحقيق أهدافها في تصفية النظام المايوي وقوانينه المقيدة للحريات، وأصدر عدداً من القرارات أهمها: إعلان حالة الطوارئ في كل أنحاء البلاد، إعفاء رئيس الجمهورية ونوابه والوزراء والمستشارين وحكام الأقاليم، وحل مجلس الشعب والمجالس الإقليمية، الاتحاد الاشتراكي، وكلف وكلاء الوزارات بتصريف مهام الوزارات، وقادة المناطق العسكرية لتولي سلطات حكام الأقاليم، ووجه العاملين في الدولة لإنهاء الإضراب. الخ.

لكن الجماهير تخوفت من عودة الحكم العسكري، ومن تغيير شكلي يعيد إنتاج النظام المايوي السابق، وطالبت في هتافاتها بالحكم المدني، و”جيش واحد شعب واحد”، “لن يحكمنا البنك الدولي”، “لن يحكمنا أمن الدولة”، “لن تحكمنا بقايا مايو”. إلخ، وتوجهت الجماهير لسجن كوبر وحررت المعتقلين السياسيين، وبعدها توجهت للقيادة العامة وضغطت حتى تمّ حل جهاز الأمن.

جاء تحرك القيادة العامة بعد ضغط صغار الضباط، مما أجبرها على الانحياز للانتفاضة، إضافة لخوف كبار الضباط من انقلاب يقوده صغار الضباط (للمزيد من التفاصيل: راجع حيدر طه، الإخوان والعسكر، القاهرة 1993)، إضافة لدعوات الأحزاب والتجمع النقابي لمواصلة الانتفاضة والإضراب العام حتى تسليم السلطة لممثلي الشعب، لكن ذلك لم يتم.

ثانياً: كان من عوامل ضعف الانتفاضة غياب الدور القيادي للطبقة العاملة المتحالفة مع المزارعين، إضافة لتشتت الحركة الجماهيرية السياسية التي لم تتوحد إلا في اللحظات الأخيرة، حيث تم اجتماع صباح السبت 6 أبريل تمّ فيه التوقيع على ميثاق التجمع الوطني لإنقاذ الوطن من أحزاب: الأمة، الاتحادي الديمقراطي، الشيوعي، ونقابات الأطباء، المهندسين، أساتذة جامعة الخرطوم، المحامين، موظفي المصارف، الهيئة العامة لموظفي التأمينات. وكان الهدف توحيد المعارضة السياسية والنقابية في مركز موحد.

ثالثاً: لم يتم تنفيذ ميثاق التجمع الوطني الذي تضمن النقاط التالية:

– فترة انتقالية لمدة ثلاث سنوات، مهامها تنظيم العمل السياسي بموجب دستور 1956 المعدل 1964.

– كفالة الحقوق والحريات الأساسية.

– الحل السلمي الديمقراطي لقضية الجنوب في إطار الحكم الذاتي الموحد.

– التحرر من التبعية الاقتصادية والإصلاح الاقتصادي بخلق بنية اقتصادية تحقق العدل والكفاءة، ومواجهة المجاعة وشح المواد التموينية والغلاء.

– السيادة الوطنية والتحرر من التبعية للقوى الخارجية وقيام علاقات خارجية متوازنة.

– تصفية آثار مايو وقوانيتها القمعية، والطبقة الطفيلية المايوية.

– إصلاح الخدمة العامة، وتصفية المؤسسات المايوية الخربة.

– تأكيد مبدأ الحكم اللامركزي، وحكم البلاد بعد الفترة الانتقالية بواسطة دستور يقره برلمان منتخب ديمقراطياً.

رابعاً: تراجع قيادة التجمع عن مواصلة الانتفاضة حتى تحقيق أهدافها، فبعد التخوف من بيان القيادة العامة، تواصلت اجتماعات التجمع الوطني للأحزاب والتجمع النقابي الذي كان مندوبه أمين مكي مدني مع القيادة العامة التي كان مندوبها اللواء عثمان عبد الله والعميد حقوقي أحمد محمود. لكن الخلافات بين الأحزاب قوى مركز القيادة العامة والسلطة، مما أدى للتعامل مع التجمع بصلف واستعلاء، حتى أنها هددت بأنها سوف تستخدم قانون الطوارئ بحزم لوقف المظاهرات!!!.

مع ضعف وخلافات التجمع وتحالف الجبهة القومية الإسلامية مع القيادة العامة (قابل سوار الدهب د. الترابي في 10/ 4 وتفاهم معه حول الوضع السياسي في البلاد).

كان خطأ التجمع أن أعلن إنهاء الإضراب العام صباح الثلاثاء 9/ 4.

زاد من ضعف قوى الانتفاضة إصدار الحركة الشعبية بيانها الذي قللت فيه من الانتفاضة ووصفت انحياز الجيش بأنه مايو 2.

كل تلك العوامل قوت موقف المجلس العسكري الذي كون مجلسا عسكرياً انتقالياً من 15 عضواً من قيادات الوحدات العسكرية في الخرطوم، واستحوذ على سلطات السيادة والتشريع خلال الفترة الانتقالية، رغم احتجاج التجمع على ذلك، إلا أنه لم يستطع أن يوقف ذلك لضعفه وعدم استعداده المبكر.

خامساً: الدور التخريبي الذي قامت به الجبهة الإسلامية للانتفاضة والتهاون معها، فبعد استقبال سوار الدهب للترابي ظهرت الجبهة الإسلامية كقوة سياسية واقتصادية ومالية بعد البنوك الإسلامية والشركات التي عملتها في فترة المصالحة مع نظام مايو، وكسرت طوق عزلتها باعتبارها من سدنة مايو بعد مشاركتها نظام في مايو لمدة ثماني سنوات بعد المصالحة الوطنية 1977، وشاركت في مؤسساتها التشريعية والتنفيذية وفي الاتحاد الاشتراكي، وكان د. الترابي نائباً عاماً ومستشارا للرئيس نميري. بالتالي عملت على شق الصفوف، وأصبح المجلس العسكري يتعامل مع أكثر من جهة، ووجد حليفاً قوياً في الجبهة الإسلامية، وزاد الطين بلة دعوة المجلس العسكري لمناديب من الجبهة الإسلامية لاجتماع ممثلي القيادة مع التجمع الوطني التي استنكرها التجمع، هذا فضلاً عن خط الجبهة الإسلامية الدعائي الذي يقول بأن العسكر هم الجهة الوحيدة المنظمة والقادرة على قيادة البلاد واستخفافها بالتجمع الوطني.

سادساً: تهاون التجمع في الموافقة على طلب المجلس العسكري الانتقالي تقديم ترشيحات لشخصيات مستقلة لمجلس الوزراء، وكان خطأ التجمع الموافقة على تكوين المجلس العسكري بهذه الصلاحية، وأسس تكوين مجلس الوزراء، الذي جاء برئاسة د. الجزولي دفع المعروف بانتمائه للإخوان المسلمين منذ أن كان طالباً في الجامعة، إضافة إلى أن المشير سوار الدهب كان إسلاموياً سابقاً، وضم مجلس الوزراء مجموعة من التكنوقراط، وبعض النقابيين الذين لعبوا دوراً في الانتفاضة، مما قطع الطريق أمام وصول الانتفاضة لتحقيق أهدافها. وهذا راجع لضعف التجمع وعدم اتفاقه على هياكل مؤسسات الفترة الانتقالية منذ فترة مبكرة.

سابعاً: لم تتم المواجهة بحزم من التجمع والحركة الجماهيرية لمصادر الخطر على الديمقراطية والتي تتلخص في الآتي:

أ– التخلي عن شعارات الانتفاضة بعدم تصفية آثار مايو.

ب– الابقاء على القوانين المقيدة للحريات (قوانين سبتمبر 1983)، قوانين النقابات وغيرها من القوانين.

ج– عدم الجدية منذ بداية الانتفاضة في الحل السلمي لمشكلة الجنوب.

د– تقارب الحزبين الكبيرين (الأمة والاتحادي الديمقراطي) مع الجبهة الإسلامية رغم موقفها المعادى للديمقراطية، حتى انقلبت على الديمقراطية وعضت اليد التي أحسنت إليها.

فقد تحددت القوى السياسية والطبقية المصطرعة التي تكونت من المجلس العسكري المسيطر على السلطة الفعلية والمتحالف مع الجبهة القومية الإسلامية، والمرتبطة بدوائر خارجية عالمية وإقليمية لها مصلحة في إجهاض الانتفاضة وعدم تحول ديمقراطي عميق يكون له تأثيره في المنطقة، والتجمع الوطني للقوى السياسية والنقابية الذي انسحب منه الاتحادي الديمقراطي لاحقاً، والحركة الشعبية بموقفها المعروف من المجلس العسكري.

ثامناً: حتى بعد تقليص الفترة الانتقالية من ثلاث سنوات لمدة سنة لم يتم تنفيذ مهام الفترة الانتقالية مثل: تصفية آثار مايو ومؤسساتها وقوانينها القمعية، وتحسين الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، ووقف الحرب وتحقيق السلام، بل ما تم تحقيقه هو إجراء انتخابات عامة بعد عام واحد لانتخاب جمعية تأسيسية وتسليم السلطة لممثلي الشعب.

كما التراجع عن ميثاق الانتفاضة، فبدلاً من العمل بدستور 1956 المعدل في أكتوبر 1964، جاء الدستور الانتقالي لعام 1985، رغم أنه أكد على النظام الديمقراطي والتعدد السياسي، والحقوق والحريات الأساسية، كما رفضت الجماهير وأحزاب التجمع محاولة النائب العام عمر عبد العاطي للتغول على نشاط الأحزاب عن طريق مشروع لتنظيم الأحزاب، مما أدى لتراجعه.

تاسعاً: لم يتم لجم سيطرة الطفيليين الإسلامويين على السوق مع الطفيلية المايوية، الذين خلقوا أزمات اقتصادية ومعيشية مع ضعف الحكومة في اتخاذ إجراءات حاسمة لتحسين الوضع المعيشي، أدت لزعزعة وفشل الفترة الانتقالية ولتذمر العاملين الذين قاموا بإضرابات كثيرة.

عاشراً: تمّ التوقيع على ميثاق الدفاع عن الديمقراطية في نوفمبر 1985 الذي أكد على الديمقراطية باعتبارها الخيار الوحيد، والدفاع عنها بكل الوسائل بما فيها الإضراب العام إذا وقع انقلاب عسكري، وقع عليه 18 حزب واتحاد، إضافة لممثلي القوات المسلحة، وخاطب الاحتفال بعض زعماء الأحزاب، وتمّ إيداع الميثاق لمنظمة الوحدة الأفريقية والجامعة العربية والأمم المتحدة ليشهد العالم على تمسك شعب السودان بالديمقراطية.

الجدير بالذكر أن الجبهة القومية الإسلامية بقيادة الترابي لم توقع على ميثاق الدفاع عن الديمقراطية، وظهرت أنيابها السامة التي غرستها في عنق الديمقراطية بانقلاب 30 يونيو 1989، مما دمر البلاد والعباد.

إضافة لتفاقم حرب الجنوب التي كانت تكلف 3 ملايين من الجنيهات يومياً، إضافة للخسائر في الأرواح والمعدات والمجاعات وتوقف التنمية في الجنوب، وبذلت محاولات كثيرة من قيادات الأحزاب والتجمع والنقابات والشخصيات الوطنية في شكل مبادرات وندوات حتى كللت هذه المحاولات بتوقيع اتفاقية (الميرغني– قرنق) التي أجهضها انقلاب 30 يونيو 1989.

كما قاومت الجماهير مشروع قانون الترابي الهزيل الذي يفضي للدولة الدينية، وتمّ إسقاطه.

وأخيراً: في ديسمبر 1988 حدث الإضراب السياسي العام ضد زيادة الأسعار، وبعد الإضراب ومذكرة القوات المسلحة التي خلقت جواً انقلابياً، تم تكوين حكومة واسعة التمثيل، وبعد تكوين الحكومة الموسعة ونجاح مبادرة (الميرغني– قرنق) لحل مشكلة الجنوب انعزلت الجبهة الإسلامية والتي رفضت التوقيع على ميثاق الدفاع عن الديمقراطية وكانت تسعى للحل العسكري والانقلاب على الديمقراطية، ولعب إعلامها وصحفها دوراً كبيراً في تخريب الديمقراطية، ونشر الأكاذيب، وبعد تكوين الحكومة الموسعة، كانت مواكب الجبهة الإسلامية تجوب الشوارع من أجل حكم الشريعة، وقبل ذلك كانت مواكب الجبهة الإسلامية حول أمان السودان وتحت ستار دعم القوات المسلحة، وكان د . حسن الترابي في لقاءاته الجماهيرية يدعوا علناً لقلب نظام الحكم، وتواترت المعلومات لقيادات الأحزاب والحكومة عن تخطيط الجبهة الإسلامية لانقلاب عسكري، وبسبب الغفلة والتهاون وقع انقلاب الجبهة الإسلامية في 30 يونيو 1989.

تلك باختصار أهم دروس تجربة انتفاضة مارس- أبريل التي يجب الاستفادة منها من أجل نجاح ثورة ديسمبر التي مازالت جذوتها متقدة، والسير بها حتى تحقيق أهدافها ومهام الفترة الانتقالية.

alsirbabo@yahoo.co.uk

انتفاضة مارس- أبريل: ما أشبه الليلة بالبارحة

تاريخ الخبر: 2023-03-20 06:24:09
المصدر: صحيفة التغيير - السودان
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 46%
الأهمية: 61%

آخر الأخبار حول العالم

هذه أبرز نقاط الخلاف التي تحول دون التوصل لاتفاق هدنة في غزة

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-02 12:25:24
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 66%

دورة مدريد لكرة المضرب: الروسي روبليف ي قصي ألكاراس حامل اللقب

المصدر: موقع الدار - المغرب التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-05-02 12:24:39
مستوى الصحة: 56% الأهمية: 51%

هذه أبرز نقاط الخلاف التي تحول دون التوصل لاتفاق هدنة في غزة

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-02 12:25:18
مستوى الصحة: 48% الأهمية: 70%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية