الصحافة والجنازات حب من طرف واحد.. هل يجب أن نلغى تصوير الصحافة جنازات المشاهير؟

بعد وفاة الفنان الشاب مصطفى درويش منذ أيام انتشرت صورة غير مهنية أثناء انهيار شقيقه وفى الخلفية اثنتان قيل إنهما تنتميان لإحدى الصحف ترفعان الموبايلات تجاه الأخ المنهار وهما تضحكان بغير مبالاة.
كالعادة كانت الصورة الخبيثة مناسبة جيدة لهواة المزايدة والسفسطة الكذابة، الذين كان يمكن أن يظهروا امتعاضهم من تصرف الفتاتين أو قل الصحفيتين والمطالبة بحسابهما وتعليمهما أصول الذوق- وليس المهنة- باحترام مشاعر الحزن المحيطة أثناء تأدية عملهما.. لكن هؤلاء لا يصح أن يكتفوا بذلك، ولكنهم كالعادة فتحوا نيرانهم المستعرة ضد المهنة كلها وذهب البعض بأبعد ما يتصور خياله وهو المطالبة بعدم تصوير الجنازات أصلًا.. وهؤلاء حتى وإن كان ينتمى بعضم إلى مهنتنا فلا بد أن يكونوا غير واعين ولا مدركين أهمية الدور الحقيقى الذى تلعبه الصحف لتغطية الجنازات التى تخص مشاهير وشخصيات عامة.. إذا أصر هؤلاء المسفسطون المزايدون- وبعضهم ينتمى للمهنة- على موقفهم فنرجوهم أن يكملوا جميلهم الأخلاقى بإمدادنا بـ«أستيكة» متينة لمحو تاريخ طويل من العرق والجهد الذى بذله أعاظم المصورين الصحفيين فى مصر؛ لكى يوثقوا بعدساتهم البسيطة صورًا إنسانية غاية فى الروعة والجمال.. لتنقش صورهم على جدران التاريخ وتوثق اللحظات الأخيرة لرموز تلك الدولة بالغة الثراء.. ولولاهم لما عرفنا نحن- الأجيال الجديدة- المبتلون بالمزايدات من كل صوب وحدب، أن جنازة نجيب الريحانى كانت بتلك العظمة وما لمسنا حب تلاميذه وأحبابه الظاهر على وجوههم بعد صدمة رحيل الأستاذ والمعلم.. كما أننا لم نكن بالتأكيد لنرى بحر البشر الذى أغلق ميادين مصر بعد وفاة عبدالناصر الكارثة القومية الأفجع بداية السبعينيات.
أما جنازة أم كلثوم وعبدالحليم كان لا بد أن يتم حبس كل المصورين حينها حتى لا يجرحوا مشاعر أسرتى الفقيدين وحينها سوف يرتاح ضمير المزايدين ويؤرق ضمير المهنة على ضياع كنز التوثيق لهذين الحدثين الجللين فى تاريخ مصر.

جنازة نجيب الريحانى.. منجم صحفى فى نهاية الأربعينيات

صباح يوم ٨ يونيو ١٩٤٩ بدأ خبر حزين يتسلل عبر أسلاك التليفونات بين دائرة ضيقة من الفنانين، ثم سرعان ما وجد الخبر طريقه إلى أثير الإذاعة المصرية؛ لتتسع دائرة المفجوعين بالخبر.

نجيب الريحانى.. مات. 

خبر من النوع الذى يقابل بلحظة صمت طويلة من فرط الفاجعة، وكأنه يقف على حافة الأذن ويرفض العقل تمريره إلى الإدراك العام.

هذا ما حدث تقريبًا فى العقل الجمعى المصرى بعد سريان الخبر عبر الوسائل السريعة قبل أن تحبسه أحبار مطابع الأهرام والمصرى والمصور والكواكب وغيرها فى دفتر التاريخ.

وحدها الصحافة المطبوعة بطبيعة متأنية مدققة وثقت تلك الحالة العامة من الوجوم والحزن القومى على رجل من النوع الذى يقال عليه «استثنائى».

بالطبع جنازة الريحانى الحاشدة نالت النصيب الأكبر من التوثيق على صفحات الجرائد الصادرة حينها.. صنفت الجنازة أنها أضخم جنازة بعد جنازة زعيم الأمة سعد زغلول.

الكل شارك.. الجميع بكى بحرقة على رحيل الرجل.. ووثقت كاميرات مصورى دار الهلال والأهرام وأخبار اليوم تلك اللحظات الإنسانية النادرة بالتأكيد، ولعل صورة زوجته السابقة بديعة مصابنى وهى تستند بخدها على التابوت الذى يحمل جثمان نجيب تعتبر «ماستر سين»، لما جاء بعدها من صور لجنازات المشاهير، ولصاحب الصورة عند نشرها فى الأربعينيات تعليق يجب أن يكتب كما هو احترامًا وتبجيلًا لكاتبه الذى لا نعرفه.. التعليق يقول: «لو أن فنانًا أراد أن يرسم الحسرة والفجيعة لما وجد خيرًا من صورة بديعة مصابنى، وهى تجهش بالبكاء أمام نعش نجيب الريحانى، وقد وضعت خدها على النعش، كأنما تودع صاحبه الوداع الأخير». 

لو أن أحد المزايدين المتحذلقين الحاليين قد حاول وضع تعليق على تلك الصورة البديعة، كان سيقول: كيف لهذا المصور المتطفل أن يقتحم تلك اللحظة الإنسانية الخاصة جدًا من بديعة مصابنى لوداع رفيق عمرها نجيب الريحانى.. ولو كانت السوشيال ميديا لها وجود فى الأربعينيات، كان أصبح الترند حينها لا بد من محاكمة مصور الأهرام المتطفل.. الذى وُجد توقيعه فى آخر التعليق. 

وإذا أردت أن تعرف مَن هو هذا المصور.. أقول لك «أرشاك مصرف»، هو مصور أرمينى مصرى، وكان من أهم مصورى تلك الحقبة من الأربعينيات والخمسينيات، وهو أول رئيس لقسم التصوير فى الأهرام، وبقى أرشاك وزملاؤه من الأرمن واليونانيين مسيطرين على مهنة التصوير الصحفى حتى سفره إلى فرنسا دون عودة فى بداية الستينيات، ليبدأ عصر تمصير التصوير الصحفى.. وبرز حينها مصورون مثل محمد يوسف وحسن دياب وعبده خليل وتونى فارس قبل أن ندخل فى حقبة فاروق إبراهيم وزملائه.

أما باقى صور الجنازة فكانت لا تقل روعة عن صورة بديعة البديعة.. زملاء وأحباب نجيب الريحانى فى أصدق لحظاتهم الإنسانية، وهم يبكون عمرهم برحيل الأستاذ والمعلم والصديق، وقد نشرت مجلة الكواكب فى عددها الصادر فى يوليو ١٩٤٩ صور بديعة مصابنى والأختين ميمى وزوز شكيب وكاميليا وحسن إبراهيم وهم فى حالة انهيار.. والصور كانت منشورة بمصاحبة مقال عن الريحانى كتبه محمود عباس العقاد، كان عنوانه «رجل خُلق للمسرح». 

هل خاصمت آخر ساعة الإنسانية بتصوير تابوت أنور وجدى على عربة نصف نقل؟

تحت عنوان «الدقيقة الأخيرة لأنور وجدى» نشرت «آخر ساعة» بتاريخ ٢٥ مايو ١٩٥٥ تحقيقًا فريدًا من نوعه حينها، حيث بدأت التحقيق بنبرة افتخار بهذا الانفراد، حيث قال المحرر: «كانت آخر ساعة وراء أنور وجدى دقيقة بدقيقة فى القاهرة وفى ستوكهولم، وفى غرفة التحنيط بعد أن أصبح جثة بلا روح، وهذه أول صور تنشر فى العالم لدقائق أنور وجدى الأخيرة».

ونشرت فى بداية التحقيق صورة كبيرة بحجم صفحة كاملة لنعش أنور مفتوحًا، تظهر منه الجثة ملفوفة بالشاش الأبيض، وهو مركون فى زاوية من المقبرة انتظارًا لدفنه.. وكان تعليق الصورة بالنص يقول: «هنا يرقد أنور وجدى: الشاب الذى ملأ الدنيا شبابًا وحيوية وظهرت الشعلة وخبت جذوتها فى هذا الصندوق الخشبى، وهذه أول صورة تنشر فى العالم لجثة أنور وجدى بعد تحنيطها.. لقد التفت حول الجسد الهامد اللفائف البيضاء، وكانت آخر صورة لأنور فى هذه الدنيا».

وصورة أخرى للنعش المفتوح بالجثة المحنطة محمولة على عربة نصف نقل، وقد وضع تعليق طويل يقول: «نهاية الطريق الطويل الذى سار فيه أنور وجدى على الشوك لكى يأخذ المجد.. وقدم أنور صحته وشبابه وسعادته من أجل الوصول إلى القمة.. ووصل الشاب المكافح، ولكنه وقف على القمة بلا صحة ولا شباب ولا سعادة.. وهوى النجم واستقر فى تابوت خشبى بعيدًا عن وطنه».

التحقيق يحمل صورًا نادرة فعلًا، وصحفيًا هى انفراد صريح لم نر حينها أحدًا يزايد على «آخر ساعة» لنشرها تلك الصور، بل إن الأكيد أنها كانت مثار غيرة مهنية من باقى المجلات والجرائد التى كانت بالتأكيد لن تتوانى عن نشرها إذا توافر لها انفراد «آخر ساعة».

ستجد مثلًا صورة ليلى فوزى وهى تنزل من الطائرة وحيدة بعد عودتها من ستوكهولم فى الساعة الواحدة صباحًا، وكان مقعد أنور خاليًا، لأن نعشه موجود فى باطن الطائرة.. هل تم اعتبار تلك الصورة الإنسانية لليلى فوزى انتهاكًا للخصوصية، وعدم مراعاة للحظات الخاصة بأهل الميت؟.. بالطبع لا.

تحقيق «آخر ساعة» لم يكتف بالصور بل سرد وقائع خاصة جدًا من الغرف المغلقة لآخر أيام أنور وجدى فى الدنيا.. من بينها المقلب الحزين الذى دبره أنور فى أهله، حيث جمعهم «أمه وشقيقاته الثلاث وأزواجهن وليلى فوزى» فى حجرته فى دار الشفاء بالقاهرة قبل سفره الأخير إلى ستوكهولم وقال لهم: «افرضوا إنى توفيت منذ يومين.. إيه كان يخص كل واحد فيكم من التركة؟».

وكانت مفاجأة حينما أخذ كل واحد يتناقش مع الآخر فى القيمة المالية الحقيقية للأموال والعمارة والأفلام وعلا صوتهم.. هنا ضحك أنور وجدى، وهو يقول لهم: «بس أنا كده اطمنت دلوقتى إن كل واحد عارف حقه».. ثم دمعت عيناه وطلب من صديق عمره، واسمه محمود شافعى، أن يأخذ باله من ليلى فوزى.

وأنهت «آخر ساعة» انفرادها العالمى بحصر ثروة أنور وجدى بالمليم. 

■ عمارة بجوار دار الإذاعة المصرية، وتكلفت حوالى ٢٢٠ ألف جنيه وإيجار الشقة المكونة من غرفتين فيها بخمسة عشر جنيهًا فى الشهر ودخلها الشهرى لا يقل عن ١٥٠٠ جنيه.

■ ١٤ فيلمًا أهمها «ليلى بنت الفقراء» و«ليلى بنت الأغنياء» و«غزل البنات» و«ياسمين» و«فيروز هانم» وكلها قيمتها ١٥٠ ألف جنيه.

■ معاملات خارجية وأملاك خاصة تقدر بحوالى ٥٠ ألف جنيه.

■ رصيد فى البنوك لا يقل عن ١٢٠ ألف جنيه.

■ معامل للأفلام قيمتها حوالى ٤٠ ألف جنيه.

مصور «أخبار اليوم» فتح تابوت خليل مطران بأمر من هيكل

واقعة أخرى يسردها د. محمد الباز فى كتابه «هيكل المذكرات المخفية» تفتح الباب للنقاش عن علاقة الصحافة بالموت.. وهل تنتصر أدوات الصحفى ومغريات الانفرادات على الاعتبارات الإنسانية؟.. يروى الكتاب أن هيكل كان مسئولًا عن جورنال «أخبار اليوم» حينها، وفى الصحافة قد يكون المسئول عن صحيفة فى موقف صعب، عندما يواجه مسألة مهمة، وهى إيجاد صورة الصفحة الأولى.. يومها كان خليل مطران قد مات، واقترح هيكل أن تكون صورة الأسبوع فى الصفحة الأولى صورة لوجه خليل مطران وحوله الزهور وهو فى الكنيسة.

ويكمل هيكل سرد الحكاية: قلت لمحمد يوسف إنه يمكنه أن يصور خليل مطران فى بيته قبل نقل الجثمان من البيت إلى الكنيسة، وإنه يمكنه أن يأخذ معه الورد بصورة احتياطية، اتجه محمد يوسف إلى بيت خليل مطران، ومن هناك اتصل بى تليفونيًا، وقال لى إن الجثمان نُقل إلى الكنيسة فى النعش الخشبى وإنه لا يستطيع أن يتصرف.. قابلته عند الكنيسة فى الفجالة، كانت هناك صلاة، وفى اليوم التالى كان من المفروض أن يُقام القداس، كان خليل مطران فى التابوت، وكان التابوت فى داخل الكنيسة، كان هناك رجل اسمه فرج يعمل فى الكنيسة، كان معنا الورد، دخلنا الكنيسة وفك فرج مسامير الصندوق، ورفع غطاء التابوت عن وجه خليل مطران، ووضع الورد حول وجهه. 

شعرت برعشة من رهبة الموقف، وشعرت بتنميل فى أطرافى، وصعد محمد يوسف والتقط الصورة، وأعاد فرج مسمرة غطاء التابوت مرة أخرى كما كان من قبل. 

كان ما فى خاطرى يومها هو تكريم الشاعر بصورة وداع تبقى فى ذاكرة الناس.

عدت يومها إلى «أخبار اليوم»، وكاد على أمين أن يطير فى الجو من الصورة التى كانت أكثر من مذهلة، ولكن كان قد عرف وشاع كيف التقطت الصورة، وأصبحت مشكلة داخل الجريدة.

تاريخ الخبر: 2023-05-04 21:21:15
المصدر: موقع الدستور - مصر
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 54%
الأهمية: 66%

آخر الأخبار حول العالم

الصين تعتزم جمع عينات الجانب المظلم من القمر

المصدر: تيل كيل عربي - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-02 12:10:26
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 67%

زلزال بقوة 5.1 درجة يضرب تايوان

المصدر: الأيام 24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-02 12:09:27
مستوى الصحة: 70% الأهمية: 83%

وزير التشغيل يكشف تفاصيل جديدة بشأن قانون الإضراب

المصدر: تيل كيل عربي - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-02 12:10:22
مستوى الصحة: 46% الأهمية: 60%

"الكاف" أمام امتحان جديد قبل كأس إفريقيا 2025 بالمغرب

المصدر: تيل كيل عربي - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-02 12:10:24
مستوى الصحة: 48% الأهمية: 56%

الحرارة.. توقعات أحوال الطقس اليوم الخميس

المصدر: تيل كيل عربي - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-02 12:10:27
مستوى الصحة: 53% الأهمية: 70%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية