لمقاومي راحة قلب الله
لمقاومي راحة قلب الله
أزاحت زيارة قداسة البابا تواضروس الثاني للفاتيكان خلال الأسبوع الماضي, حجبا كثيفة عن حقائق غائبة عن كثيرين رغم حضورها عبر التاريخ, هذه الحقائق تتعلق بتاريخ الحوار بين الكنيستين القبطية الأرثوذكسية والكاثوليكية وعن ادعاءات بأنه ابن لسنوات حبرية قداسة البابا تواضروس الثاني فقط. حاولت البحث للوصول لتاريخ التقارب والحوار, وبدأت رحلة البحث بإنجيل يوحنا حيث الأصحاح السابع عشر وصلاة السيد المسيح فوق بستان جثسيماني التي قال فيها: وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني, ليكونوا واحدا كما أننا نحن واحد. أنا فيهم وأنت في ليكونوا مكملين إلي واحد, وليعلم العالم أنك أرسلتني, وأحببتهم كما أحببتني. إذا هذه هي إرادة الله فينا أن نكون واحدا, وهذا ما يريح قلب الله, فلماذا يقاوم البعض راحة قلبه؟ لماذا يغل البعض يد المحبة؟ متلاعبا بمفهوم الوحدة الذي لم أجد تفسيرا عميقا له مثلما وجدت في تفسير القمص تادرس يعقوب ملطي الوارد في سلسلة من تفسير وتأملات الآباء الأولين حينما شرح نص الآية الكتابية السابقة قائلا: (هي ليست بالوحدة الظاهرية كتجمع القيادات الكنسية معا, لكنها وحدة عمل الروح القدس الذي يضم الكل بالروح بالقوة الإلهية لغاية مقدسة كاملة وليس علي مستوي سياسيات كنسية, ومركز هذه الوحدة أن يصير الكل واحدا في الآب والابن كما هما واحد. فمن يقبل السيد المسيح الطريق يسير به إلي حضن الآب متحدا معه, كما يسير به إلي قلوب المؤمنين ليختبر وحدة الإخوة).
هذه هي الوحدة التي تريح قلب الله: لكن عدو الخير لم لن يدعها تأتي بسهولة, سيظل يضلل المستعدين للتضليل لمقاومة راحة الله, ولن يردعه سوي الحب, لذلك توجب استمرار التقارب الروحي والإنساني والحوار العقلي واللاهوتي, لأن الشراكة الإنسانية هي مصيرنا, أما الحوارأما فإنه السبيل للفهم حيث يعتمد علي التدرج من المسلمات إلي الحقائق التي ترفع اللبس, للوصول إلي الوفاق.
فلا يوجد في الحوار منتصر ومهزوم, ورفض فكرة الحوار أو شيطنتها لا يتفق مع روح الإيمان المسيحي, التي تقوم علي الحب, وليس علي المغالبة, فلماذا يقاوم البعض المحبة والحوار؟ الإجابة ليست عندي ولا حتي عند التاريخ الذي حدثت خلاله انشقاقات في ظاهرها عقائدية, بينما يقطن باطنها النفوذ السياسي في القرون الوسطي, عززته الفوارق اللغوية فأنشأته لبسا غير عقائدي ارتقي حينها للخلاف العقائدي, لكن في نفس كل واحد ضمير للإفاقة, يوقظ عقله فيري ذاتية الانقسام والشتات, ويوقظ وجدانه فيدرك بركة التقارب والوحدة بلا ذوبان ولا تفريط في الإيمان الصحيح.
إن الحوار الرسمي بين الكنيسة الكاثوليكية والكنيسة القبطية الأرثوذكسية, ليس حديث العهد, وإنما يعود لسبعينيات القرن الماضي, وذلك وفقا لعدة مصادر أهمها الموقع الإلكتروني لمثلث الرحمات الأنبا بيشوي مطران دمياط والبراري آنذاك, ووقع كنيسة الأقباط الكاثوليك بالإسكندرية, إذ نجد أن الحوار جاء نتيجة أول زيارة قام بها مثلث الرحمات قداسة البابا شنودة الثالث إلي روما من 4 حتي 10 مايو 1973 في ضيافة قداسة البابا بولس السادس وهي الأولي منذ مجمع خلقيدونية 451م ووقع رئيسا الكنيستين بيانا مشتركا تم فيه الاتفاق علي تشكيل لجنة مشتركة, مهمتها كما جاء في نص الاتفاق المنشور هي: توجيه دراسات مشتركة في ميادين: التقليد الكنسي, وعلم آباء الكنيسة, الليتورجيات, واللاهوت, والتاريخ, والمشاكل العلمية, حتي أنه يمكننا بالتعاون أن نسعي معا لحل الخلافات القائمة بين كنيستنا, بروح الاحترام المتبادل, بل ونستطيع أن نعلن رسائل الإنجيل التي تتطابق مع رسالة الرب الأصلية ومع احتياجات عالم اليوم وآماله.
وجاء الاتفاق: نؤمن كلنا أن ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح الكلمة (اللوغوس) المتجسد هو كامل في لاهوته وكامل في ناسوته. وأنه جعل ناسوته واحدا مع لاهوته بغير اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير, وإن لاهوته لم ينفصل عن ناسوته حتي إلي لحظة أو طرفة عين وفي نفس الوقت نحرم كل من تعاليم نسطور وأوطاخي وسمي بالاتفاق الكريستولوجي أي الخاص بالطبيعة الألوهية للسيد المسيح.
بدأت مداولات للجنة المشتركة, وكانت كالتالي, في القاهرة في 26 مارس 1974, و27 أكتوبر 1975, واستمرت الدراسات اللاهوتية المشتركة, وأعلنت اللجنة أن طريقة العمل لتحقيق الاتحاد هو أن تعود كنيستانا الرسوليتان, بطريقة متساوية وبروح الاحترام المتبادل إلي الشركة الكاملة علي أساس الإيمان والتقاليد والحياة الكنسية لكنيسة القرون الأربعة والنصف الأولي غير المنقسمة أي أن الكنيسة الجامعة الرسولية سوف تتحد.
ثم جاءت عدة مدلولات للجنة المشتركة كانت في فيينا في 26 أغسطس 1976, والقاهرة في 13 مارس 1978, وفي 23 يونيو 1979 تم تحضير المبادئ والبروتوكول الذي يخطط منهاجا علي أن يتم رفعه للإكليروس والعلمانيين من كلا الكنيستين بالمبادئ التي تقررت والإجراءات التدريجية التي يمكن أن تتخذ في سبيل تحقيقها لكن فجأة توقف الحوار حيث وضع قداسة البابا شنودة تحت التحفظ في دير الأنبا بيشوي بالبرية من 5 سبتمبر 1981 حتي 5 يناير .1985 وحينما استطاع العودة إلي مزاولة مهامه بالكامل, عادة خطوات من كلا الجانبين لمواصلة الحوار بين الكنيستين وتم إعداد نص بيان مشترك بغرض تنقية الذاكرة التي تتضمن رفع الحرومات, علي غرار ما عمل بين البابا بولس السادس وقداسة البطريرك أثيناغورس الأول في عام .1965 وتم تقديم هذا المشروع لقداسة البابا شنودة, وقرر المجمع المقدس في عام 1986 أن أي اتفاقية سابقة تأخذ وضعها النهائي والرسمي إذا وافق عليها المجمع المقدس, وإن رفع الحرومات يتطلب الوصول إلي حلول للخلافات في المفاهيم اللاهوتية التي تخص الإيمان في كنيستنا. مع مراعاة عدة نقاط يأتي في مقدمتها الكريستولوجية أي طبيعة السيد المسيح, وأمور أخري لا يتسع المجال لذكرها, لكن ظل الاتفاق العقائدي غير مختلف عليه وهو جوهر الإيمان المسيحي طبيعةالمسيح الذي تم حوله توقيع اتفاق رسمي, بين الكنيستين.
وحينها نشرت مجلة سكرتارية تعزيز الوحدة المسيحية ـ مدينة الفاتيكان ـ خدمة المعلومات رقم 67 عام 1988 صفحة 75: تمت الآن استعادة العلاقات الطيبة, وتشكلت اللجان المشتركة المحلية, حيث جاء الأنبا بيشوي أسقف دمياط والسكرتير العام للمجمع المقدس للكنيسة القبطية إلي روما مع الأنبا بولا مساعده. واستمرت المداولات ففي أبريل 1990 كانت المداولة السادسة, أما السابعة فكانت في أبريل 1991, والثامنة في فبراير 1992 في دير الأنبا بيشوي بمصر, لم تصل اللجنة لاتفاق أبعد من الكريستولوجي حتي تمت الموافقة علي الاتفاقية الكريستولوجية بواسطة المجمع المقدس للكنيسة القبطية الأرثوذكسية في لقاء 12 فبراير 1998 في دير الأنبا بيشوي بمصر, لكن الجانب الكاثوليكي طلب تعديلا معينا نصه أننا نحرم عقيدة نسطور وأوطاخي بدلا من أننا نحرم نسطور وأوطاخي وعقيدتهما. ولأن التعبيرين يقودان إلي نفس النتيجة, وقبل الجانب القبطي الأرثوذكسي هذا التعديل ووافق عليه.
فماذا حدث حتي يخرج علينا البعض مهاجما التقارب؟ إنه تراجع نتيجة الفكر المغلوط عن الوحدة تحتاج إلي دفعات والتجمد الحالي عند نقطة في التاريخ لها ظروفها وخصوصيتها من المحبة الصادقة الواعية التي تبحث وتنقب عن الحقيقة والفهم العميق للأمور بعيدا عن التشبث بأفكار تجافي الحقائق, وتلوي ذراع الصدق, وتنشئ بانتصارات التنظير الخالي من روح الإيمان والحب, فالحب هو صمام الأمان الوحيد لاستمرار التقارب وعدم التفريط في الإيمان في آن واحد.
هكذا أدركت ماهية العبارة التي قالها البابا تواضروس الثاني خلال خطابه في الفاتيكان قبل أيام: اخترنا المحبة حتي لو كنا نسير عكس تيار العالم الطامع والذاتي, وهكذا بدأنا الحوار ومستمرون فالحوار طريق طويل لكنه آمن, تحميه ضفتان من المحبة, ضفة محبة المسيح لنا وضفة محبتنا لبعضنا, لذلك مهما واجهنا من تحديات فإن المحبة تحمينا, لنكمل مسيرتنا ونستمر من أجل الفهم المتبادل.
إذا فإن الأمر ليس تفريطا في الإيمان المستقيم وإنما تقاربا وتكاملا وتصحيحا للبس اخترقته عوامل تاريخية مضي عليها 15 قرن من الزمان, تصويبا بدأه مثلث الرحمات العظيم البابا شنودة, يستكمله قداسة البابا تواضروس الثاني, فلا تقاوموا الحب, لا تقاوموا السلام, لا تقاوموا الفهم, لا تقاوموا راحة الله.