تشكيل حكومة مدنية بصلاحيات محددة ربما يكون هو الطريق الصحيح


تشكيل حكومة مدنية بصلاحيات محددة ربما يكون هو الطريق الصحيح

بكري الجاك

الوقائع على الأرض

بعد اندلاع الحرب بخمسة أيام كتبت مقالا أشرت فيه إلى أن هذه الحرب بما فيها من وبال فهي أيضا فرصة لمراجعة الذات الوطنية واغتنام الفرص التي اتاحتها الحرب، وجادلت أيضا أن هذه الحرب ستنتهي بأحد ثلاثة سيناريوهات وهما إما هزيمة طرف ما للآخر (سيناريو أول وثاني) أو أن ينتهي الأمر إلى وضعية غير ليس فيها منتصر وذلك لصعوبة تحديد مفهوم النصر الحاسم ورجحت هذا السيناريو وقدمت حججاً تتعلق بطبيعة الحرب وهو ما يتطلب فرض رؤية سياسية ليس لإنهاء الحرب بل لبناء الجمهورية الثانية.

ظللت أيضا أكتب وأتحدث في منابر شتى عن أن الضامن الوحيد لوحدة البلاد وعدم اتساع دائرة الحرب وانزلاقها في حرب أهلية هو وجود مجتمع مدني قوي ومتماسك وراسخ، وأنه من المؤسف انتشار لخطاب تشفٍ عبثي يسوّق إلى أن فكرة الحرب الشاملة هي صيغة للعدل من خلال التساوي في المآسي، هذا خطاب عجز وفقر خيال وجدل عقيم ويجب أن يتوقف فليس هناك عدل في “موت الجماعة عرس” كما ليس هناك عدل في التساوي في البؤس.

فها نحن بعد مضي ستين يوما نشهد الخراب والدمار والموت والقتل والفجيعة ولا يبدو أن هنالك أمل في نهاية واضحة للحرب تؤسس لشروط تمنع قيامها مرة أخرى، كما لم تكتسب هذه الحرب أي مشروعية أخلاقية عند السودانيين رغم الأبواق الإعلامية الدعائية التي حاولت أن تحشد لها بسردية “دحر الفلول وتأسيس نظام ديمقراطي” من قبل الدعم السريع أو أنها “حرب كرامة لدحر قوة متمردة حاولت تنفيذ انقلاب” من قبل الجيش ومن يقف خلفه.

الواضح أن وعي الناس كان متقدما وموقفهم من الحرب بشكل عام هو رفضها وعدم إعطاء شرعية لأطرافها أو التسليم بسردياتهما وهذا ما هزم الحرب ومشروعية خوضها لكن هذا ليس كافيا لوقف آلة القتل والانتهاكات والاغتصابات والتهجير وليس كافيا لوقف جرائم الحرب التي أصبحت موثقة بالفيديوهات كما هي موثقة في الذاكرة الشعبية.

المخاوف هي أن هنالك حالة تطبيع وتعايش مع الظروف التي أنتجتها الحرب إلى حد كبير في محيط وجودها وفي ما أفرزته وهذا أمر مقلق.

الفرص المتاحة

في تقديري أن الأسباب الموضوعية المباشرة للحرب سواء كان الخلل البنيوي في تعدد الجيوش وعدم وحدة القيادة أو في التنافس على السلطة لتوظيف جهاز الدولة لحماية مصالح اقتصادية لمجموعات متنفذة هي في حد ذاتها تجليات كبري لفشل الدول السودانية في التعبير عن جلّ مكوناتها مما جعل الدولة السودانية في حالة دفاع عن مشروعيتها من قبل اعلان الاستقلال والى يوم الناس هذا، وفي فشل النخب السياسية في طرح مشروع وطني يلبي تطلعات غالبية السودانيين، جوهريا هذه هي الأسباب التي أدت إلى قيام الصراع المسلح في الأطراف وأدت إلى ضعف الدولة وانهيار مؤسساتها الرسمية مما ادي الي قيام بنيات خارج جهاز الدولة تقوم بوظائفها في محاولة لاحتكار العنف وتنظيم المجتمع وإنفاذ التعاقد. الآن هنالك فرصة لتأسيس هذه الدولة من القواعد بطريقة تسمح بتخليق مشروع وطني قاعدي يعطي فرصة لكل مناطق السودان للمشاركة في البناء الوطني وفق حاجتها وطبيعتها ونشاطها الاقتصادي والثقافي.

كما هنالك فرصة لاستعدال التفكير التنموي المركزي الذي حول الخرطوم إلى مركز لكل الخدمات بل احالها الي عقل وقلب لهذه الدولة. هناك فرصة تخطيط تنموي لا مكزي وقاعدي وهنالك فرصة لاعادة بناء الجيش وفق عقيدة تنطلق من مشروع وطني ينتجه السودانيون وليس محضر ورثة استعمارية وهنالك فرصة لإخراج البنيات العسكرية خارج المدن وإعادة تخطيط هذه المدن بشكل علمي في ما يتعلق بإنشاء بنيات تحتية صلبة من طرق وشبكات صرف صحي وخلافه. هذه رؤوس مواضيع لعصف ذهني واسع في شتي المجالات حينما نبدأ في عملية الاعمار وإعادة البناء.

كيف يمكن اغتنام الفرص؟

البديهي هو العمل على وقف الحرب وهزيمتها كما ظللت أقول وكما قال غيري منذ بدء الحرب، وأن المدخل الصحيح هو تمكين القوى المدنية ومساعدتها في تقدم الصفوف وعدم منح شرعية لأطراف الحرب في تشكيل مستقبل البلاد، ودارت الأيام والآن كل المبادرات الإقليمية والدولية تتحدث عن ضرورة مشاركة فعالة للمدنيين في عمليات التفاوض لتشكيل الفضاء السياسي لسودان ما بعد الحرب، في تقديري أن هذا كان صحيحا قبل 50 يوما إلا أنه أتى متأخرا.

أعتقد الآن يتوجب علينا العمل على توحيد المبادرات الاقليمية والمحلية في منبر واحد وتجنيب البلاد شبح التنافس والتجاذب الإقليمي لتفادي توظيف هذه المنابر والمبادرات لتوسيع قاعدة التأثير الإقليمي (إثيوبيا عبر الإيغاد ومصر عبر الجامعة العربية).

كما علينا البدء في تشكيل حكومة مدنية تبدأ من القواعد في المناطق التي تشهد استقرارا نسبيا لتشكيل حكومات ولايات تبدأ من القرى والمحليات إلى أن تصل إلى مستوى المجالس المحلية والبرلمانات الولائية لتقوم بتعيين حكومة تسيير أعمال من كفاءات محلية موثوق بها في هذه الولايات، وبالتزامن يتكامل هذا الجهد بتشكيل حكومة مركزية بالتشاور بين القوى المدنية الفاعلة في الداخل والخارج، هذه الصيغة ستعالج إشكالات الهيمنة والتهميش التي ظلت لازمة لأي عمل سياسي سوداني طوال القرون الماضية. في تقديري تتمثل مهام هذه الحكومة في:-

اولا تسيير شؤون الحياة بتفعيل دور مؤسسات الدولة مع حشد الجهد والخطط لعملية الاعمار واعادة البناء ومعالجة آثار الحرب مع الحفاظ على علاقات متوازنة مع الجوار العربي والأفريقي لتجنيب البلاد التدخلات وهي في أضعف حالاتها

ثانيا، التشاور والإشراف على إعداد دستور دائم للبلاد

ثالثا اعداد البلاد إلى انتخابات عامة وهذا يشمل التعداد السكاني وعودة النازحين وخلافه، يجب أن نوطن فكرة أن الانتخابات هي الوسيلة السلمية للتنافس على السلطة بدلا من القوة والسلاح، بل أن المؤسسات العسكرية في الولايات يمكن أن تكون نواة لتشكيل الجيش القومي عبر عملية مدروسة ومحسوبة ومتزامنة مع تخليق المشروع الوطني قاعديا لتكون بنية هذا المشروع هو العقيدة الوظيفية للجيش القومي المنشود.

مدة صلاحيات الحكومة المركزية يمكن التشاور حولها ويجب أن تكون هذه حكومة كفاءات دون لجلجة أو جدال وغير خاضعة للتنافس السياسي.

تشكيل هذه الحكومة هو أمر ملح وهو واجب اللحظة وليس هناك شك في أنه يحتاج إلى توافق عريض ودعم إقليمي ودولي لنجاحه، ولكن هو قمة التتويج لهزيمة الحرب بالكامل وتجريد أطرافها من اي شرعية مدعاة أو مكتسبة بقوة السلاح.

فعل هذا يتطلب العمل على توحيد الجهود والمبادرات الشعبية والمدنية لعزل الحرب وفرض شروط نهايتها وهو أمر لابد منه لخلق توافق عريض لاتخاذ قرارات عامة نيابة عن الناس بدون مؤسسات وآليات، الحشد الشعبي والإقليمي والدولي هو الآلية وتشكيل حكومات ولائية وحكومة مركزية هو المؤسسات التي ستمثل الناس.

علينا أيضا التحرك على مستوى الاقليم والعالم لحشد الدعم لهذه الحكومة وتوظيف خطاب دبلوماسي ذكي يغلب مصلحة البلاد ويناور بحالة الضعف التي تشوب الدولة  كمصدر قوة وليس كمصدر ضعف.

خلاصة القول إن فكرة مشاركة المدنيين بشكل فعال مازالت مهمة وضرورة في تشكيل المشهد السياسي لكن يجب أن نربط هذه المشاركة بمشروع ورؤية حتى لا نقع في الخطأ القديم المتكرر الذي ينتهي بتحويل القوى المدنية لمجرد حشوة في سندوتش بين قوتين عسكريتين تتنافسان على السلطة وتوظف التلاعب بالمدنيين لاكتساب شرعية فعل وممارسة، هذا هو المدخل التاريخي لتجفيف النهر السياسي لأي حكم عسكري وهو الطريق لعملية إعادة بناء الجمهورية الثانية بمشروع وطني مفتوح يسمح للجميع بالمشاركة والمساهمة بل والاحتجاج والتقويم السلمي وليس بالتشكيك في مشروعية الدولة.

14 يونيو 2023

تاريخ الخبر: 2023-06-14 21:23:31
المصدر: صحيفة التغيير - السودان
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 60%
الأهمية: 51%

آخر الأخبار حول العالم

سعيد بنكراد.. يكتب "تَـمَغْربيتْ"

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-06 00:26:00
مستوى الصحة: 59% الأهمية: 69%

سعيد بنكراد.. يكتب "تَـمَغْربيتْ"

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-06 00:25:52
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 52%

النقابة الوطنية للعدل تدعو إلى إضراب وطني بالمحاكم لثلاثة أيام

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-06 00:26:17
مستوى الصحة: 50% الأهمية: 51%

النقابة الوطنية للعدل تدعو إلى إضراب وطني بالمحاكم لثلاثة أيام

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-06 00:26:11
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 68%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية