خواطر الحرب «2»


خواطر الحرب «2»

بكري الجاك

حال معظمنا نحن السودانيون الآن كحال مرتادي شاطئ الغردقة وجمهور المتفرجين حينما التهم القرش النمر Tiger Shark الشاب الروسي (الهارب من الخدمة العسكرية في بلاده والذي كان في مقتبل العشرينات) قبل اسبوعين، وللذين شاهدوا ذلك المقطع المصور يمكنكم تخيل حجم الألم الذي اختلج دواخل المتفرجين وهم يرون بأم أعينهم كائن مفترس على بعد أمتار من الشاطئ يلتهم شاب ينادي على والده ليغيثه ولكم أن تتخيلوا شعور الأب وهو يسمع نداء ابنه بالاستغاثة ولا يستطيع فعل شيء، ويا للأسى! و هنالك عشرات القصص من هذه الشاكلة حين لم يكن بالإمكان فعل شيء لتغيير نتائج الكوارث.

فكرة أن ما يحدث أمام أعيننا في بيوتنا وفي مناطق عزيزة على قلوبنا ونحن نرى الموت والقتل والاغتصاب والإذلال ولسان حالنا الضعف وقلة الحيلة وهواننا على الناس يفوق قدرة أي بشر على الاستيعاب والفهم والتصور، ليس لدي أدنى شك أننا جميعنا في مناطق الحرب وفي المناطق الآمنة نسبياً في الداخل والخارج مصابون بحالة من الصدمة النفسية الجماعية.

الأسوأ هو الإحساس بالعجز فنحن مثل ذلك الأب الذي يسمع ابنه يستغيث ويطلب المساعدة وهو يلفظ أنفاسه بين أسنان القرش وليس بإمكان الأب فعل شيء، فهذا هو الموت ألف مرة وهو على قيد الحياة، الفرق في حالنا أننا نعتقد أنه بامكاننا فعل شيء ما يمكن أن يغير في الحال.

بالطبع بإمكاننا فعل الكثير من شاكلة مساعدة أهلنا في كل مكان في أماكن النزاع وفي الأماكن الآمنة نسبياً وكذلك الذين نزحوا إلى دول الجوار والعالقين في أنحاء العالم. يمكن أن نساعد بالمال وبسماع بعضنا بعض وبأن نكون أذن صاغية وأن نقلد ونبكي ونتعاطف ونسمح لبعضنا بالهترشة وأن نتعاطف مع زوائد الكلام ومع كل علامات التروما.

أما فكرة تناسل المبادرات كرد فعل أو كمحاولة للخروج من دائرة الإحساس بالعجز فهو أمر محمود ويعكس القدرة الجماعية للتفكير في أمور عامة تتطلب توافق كبير، ولكن هذا الفعل يمكن أن يصبح من المعيقات على الوصول إلى تفاهمات عريضة تجمع ولا تفرق خصوصا حينما يتخندق الناس خلف لافتات، فهنالك عشرات المجموعات التي تنادت وكتبت مقترحات واستغرقت وقتاً طويلاً في تطوير أفكارها وأطروحاتها وحينما تخلص إلى شيء ليس هنالك أدنى شك أن هناك مجموعات أخرى توصلت إلى نفس الخلاصات.

أما في شأن الحرب وبعيداً عن السرديات الكبرى والمآسي التي تتفاقم كل ساعة، وقود هذه الحرب (من المدنيين والجنود من كل الأطراف) هم سودانيون من أقارب وأهل ومعارف ولا أستبعد أنهم يحتسون الشاي عند نفس ست الشاي في لحظات الهدوء والسكينة حتى في ساعات الحرب، وهذا ما يجعل هذه الحرب عبثية وغير ذات معنى أو جدوى للذين يدفعون ثمنها أولاً حتى وإن كان لها دوافع موضوعية في إطار صراع السيطرة والنفوذ لقادتها وصانيعها. ورغم ذلك حملة السلاح هم أول القادرين على فعل شيء  في صناعة السلام حتى ولو في شكله السلبي بوقف الاقتتال.

عليه، المطلوب ليس أن يتداعى الناس للقيام بفعل يخرجهم من دائرة الإحساس بالعجز  بمنطق (القحة ولا صمة الخشم) بل المطلوب خلق منصة تسمح لهذه المقترحات والأطروحات بالعرض والتفاعل ومن ثم الوصول إلى توافق عريض يؤسس إلى خلق تصور مشترك للقوى المدنية في رسم مستقبل السودان أثناء الحرب وفي صناعة السلام وكيفية البناء والإعمار وعمليات تأسيس الجمهورية الثانية.

ولا يقل أهمية أن نسمح لأنفسنا بأن لا نشعر بالعجز لأننا غير قادرين على التأثير فيما يحدث، فنحن ليس بيدنا سلاح وليس لنا القدرة الكافية على إقناع حملة السلاح بالكف عن استخدامه، ولكن بإمكاننا التأثير في المشهد الذي يجرد السلاح من أي مشروعية آنية أو مستقبلية باستخدام العديد من الأدوات من بينها العمل الجماهيري والعمل الدبلوماسي والخطاب السياسي والإعلامي الناضج للسردية الرافضة للحرب.

22 يونيو 2023

تاريخ الخبر: 2023-06-22 15:23:54
المصدر: صحيفة التغيير - السودان
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 59%
الأهمية: 70%

آخر الأخبار حول العالم

“غلاء" أضاحي العيد يسائل الحكومة

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-29 12:26:39
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 56%

“غلاء" أضاحي العيد يسائل الحكومة

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-29 12:26:45
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 67%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية