أوروبا... ألمانيا محور الانعطاف الكبير


في عام 1909 كتب الاقتصادي البريطاني مايكل أنجل في كتابه "الوهم الكبير"، عن استحالة الحروب في أوروبا، بسبب قوة العلاقات الاقتصادية بين دولها وبخاصة بريطانيا وألمانيا. ولعلّه لم يصدر كتاباً أكثر ضلالاً وحسن نية، من هذا الكتاب. فسرعان ما انفجرت الحرب العالمية الثانية التي لم تنتهِ في عام 1945، إلاّ بمقتل 150 مليون إنسان بالأعمال القتالية، ليصبح الدرس أنّ الجيو- استراتيجية هي الجوهر الأعلى للعلاقات الدولية، وليس الاقتصاد. لكن بعض الساسة الأوروبيين لم يتعلّموا حتى من حرب كهذه.

ففي نهاية الحرب الباردة، اعتقد كثيرون في الغرب وبخاصة ألمانيا، أن لا أحد سيتمرّد على النظام الدولي الليبرالي. فقد خلق مترنيخ وبسمارك تقاليد عريقة في إدارة ديبلوماسية أوروبية، حصّنت أوروبا 99 عاماً، ضدّ الحروب، مسترشدين بمقولات "تهدئة العالم"، و "التغيير من خلال التغيير المتداخل"، ليصبح "العالم أكثر سلاما".

لكن القادة والجمهور الألمانيين فوجئا بانفجار حرب برّية في خاصرتهم الشرقية، وبعدما قاومت ألمانيا بشدّة محاولات إقناعها بمغزى التحرّكات الروسية الساعية لإعادة سيطرتها الإمبراطورية في أوروبا منذ 2008، اكتشفت من جديد أنّ الصفقات لا تغيّر سلوك الدول، وأنّ البلدان لا تصير ديموقراطية بمجرد العدوى الاقتصادية.

في 24 شباط (فبراير) 2022، وفي لحظة انعطافية، وصف المستشار الألماني أولاف شولتز الاستراتيجية الأمنية الألمانية الدارجة بـ"المبتذلة"، ومعلناً إعادة اختراعها. وبدأ التحوّل البطيء، ليصبح الدعم الألماني لأوكرانيا حازماً. بدءاً بفتح الأبواب للاجئين، ثم بالاقتصاد والمال، ثم بالدعم العسكري الاستراتيجي المباشر.

وإذ تراقب ألمانيا مخاطر وتذبذبات السياسة الأميركية، تخشى أن ينحرف انتباه أميركا في لحظة ما، لتترك ظهر أوروبا مكشوفاً. عندها، مَن غير ألمانيا سيكون قادراً؟ ومَن سواها له مصلحة في حمل العبء؟ ألمانيا، بما هي من اقتصاد وديموغرافيا وبنية أكاديمية وثقافية، ستكون محور تقاطع التاريخ والثقافة والاستراتيجية الأوروبية.

بالنسبة لألمانيا، الطريق محفوفة بالمطبّات. فبعد فصلين من تراجع الناتج القومي، تدخل ألمانيا رسمياً مرحلة انكماش اقتصادي. ورغم ذلك فإنّها تعطّش نفسها من غاز روسيا، وتسعى لرفع تدريجي للميزانية الدفاعية لتبلغ وسطياً 2%. بل هي تعيد هيكلة وتطوير وسائل الدفاع والردع الألمانيين. لكن بينما يتجّه الأمن الأوروبي ليصبح أكثر اعتماداً على الذات، ينكشف قصور واختلافات في السياسة الأوروبية. إذ تقع ألمانيا بين فكّي كماشة: باريس ووارسو.

وبينما تسعى فرنسا دائماً نحو الاستقلال الذاتي الاستراتيجي عن الولايات المتحدة، وبناء القدرة الأوروبية المستقلّة؛ تدرك ألمانيا أنّه حتى بالنسبة لحاملتي الطائرات الفرنسيتين اللتين تمثلان آية في التطور التقني وعماد البحرية الفرنسية، فإنّهما لا تستطيعان مغادرة موانئهما الأوروبية من دون أسطول بحري مرافق، لا تملكه فرنسا ولا أوروبا. لذلك تؤمّن البحرية الأميركية مرافقة هذه الحاملات. بالطبع لو طُوّرت البحريات الأوروبية فستنشئ البديل، ولكن في انتظار ذلك؟

في انتظار الوعد الأوروبي، تفضّل بولندا رسم خططها على الراهن. وإذ ترى بولندا الخطر الروسي الوشيك يقرع أبوابها، لا وقت للانتظار، بل تلتصق بالتحالف مع الولايات المتحدة.

في الوسط بين فرنسا وبولندا، تقع ألمانيا جغرافياً وسياسياً. ليس أمامها إلاّ أن تُفعّل سياسة التكامل والأمن والدفاع بخطوات أوروبية متقدّمة؛ وإلى أن يتمّ ذلك، سيترتب الاعتماد على الولايات المتحدة في كل شيء تقريباً، مادياً، بل وفكرياً وثقافياً واستراتيجياً.

لذلك، بدت ألمانيا متردّدة جداً في صياغة استراتيجيات أوروبية خاصة، قبل نضوج بنية تحتية صناعية وتنظيمية وعسكرية، وقبل كل شيء متردّدة في غياب سياسة أوروبية موحّدة يُعتد بها. لكن العبرة في الإرادة الألمانية تتجلّى في تصميمها على إعادة وتوجيه وهيكلة الصناعات الاستراتيجية والجيش. ليجري تعويض تراجع الصادرات الناجم عن الانكماش الاقتصادي العالمي، بالانتقال المتسارع نحو تطوير الصناعات العسكرية والتكنولوجية الفضائية والمعلومات والذكاء الاصطناعي، والفضاء، بما سيعيد هيكلة الاقتصاد، ليجعله أكثر استجابة لمتطلبات الردع في النصف الأول للقرن.

ومع تحرّك "فاغنر" نحو فجوة ساواكي في بيلاروسيا، ونقل الأسلحة النووية التكتيكية ونشاط جهاز الأمن البيلاروسي في بولندا، تصبح المخاوف فورية. وتستنفر أوروبا، إذ يقول الرئيس الألماني: "يجب علينا الاستماع أكثر للهواجس الأمنية لدى أوروبا الوسطى والشرقية ووارسو وواشنطن"، مشيراً بذلك، إلى ضرورة أخذ مخاوفها الآنية بالملموس، وإلاّ فلن يكون ثمة معنى لا للاتحاد الأوروبي ولا للأطلسي، في مواجهة روسيا الجامحة. في هذا السياق سيتطلّب التكامل الاستراتيجي جلب الجميع إلى الطاولة... والفرنسيين بالطبع.

لقد شهد الجمهور الألماني صدمة الحرب البرية في أوروبا، وتغيّرت عقول الكثيرين. كان الاعتقاد سابقاً أنّ كلاً من الصين وروسيا ستندمجان بسلاسة في نظام دولي قائم. لكن بدلاً من ذلك، فإنّهما تعملان لإنتاج نظام بديل وتغيير قواعد اللعبة.

لم يهمس فلاديمير بوتين في مؤتمر ميونيخ 2007 بنواياه، بل صرّح بوضوح بآرائه. وكذلك فعل هو جين تاو في 2009 بإعلانه النقاط التسع حول انفاذ القوة الصينية في بحر الصين الجنوبي. لكن أوروبا كانت تنام في العسل.

بعد الصحوة، لم تعد ثمة خيارات لألمانيا. إنّها تنتمي للغرب ولقيمه ولاقتصاده ومنظومته الدفاعية. وحساب قوتها لن يكون بالقوة العسكرية وحدها، بل ستفرض نفسها بقوة عقلها وثقافتها وإبداعها واقتصادها وصدقيتها وهيمنتها المالية. وكما يقول المثل الألماني "لو انّها (القوة) بالعضلات لسادت الغوريلا" (بدل الإنسان).

وإذ يمضي العالم نحو عالم متعدّد الأقطاب، تدرك ألمانيا أنّ أميركا التي تتأمل من وراء المحيطات، غير مبالية بنشوء عالم متعدّد الأقطاب، وهي تعرف أنّ العبء سيقع على ألمانيا، كقطب وشريك في عالم جديد. يبدو ذلك جلياً بصدور أول استراتيجية للأمن القومي لألمانيا. إذ لا يمنع تقدّم أميركا بفارق كبير على الصين من حيث القوة الوطنية الشاملة، من تعدّد الأقطاب، بل لعلّه يكون بطبيعته أكثر توازناً وسلمية.

لكن العالم سيبقى يعاني من دول مارقة رغم كونها منكفئة استراتيجياً واقتصادياً وحضارياً. انّها تحاول تعظيم قوتها بتقويض وإفساد النظام الدولي متعدّد الأقطاب. حيث يمكن لدول مثل روسيا وإيران أو كوريا الشمالية أن توظف قدراً طفيفاً من القوة، لتغيير ديناميات النظام الدولي. وفي حين تتساوى روسيا وإيران في المعايير اللاديموقراطية والاستبداد، فإنّهما تطالبان بنظام عالمي أكثر ديموقراطية، ليتاح لهما تعميم نموذجهما في عالم أقل ليبرالية.

هنا لا يمكن لألمانيا إلاّ أن تنحاز لقيمها. من خلال هذا الانحياز سيكون على ألمانيا أن تنخرط كقطب متحضّر وسلمي في عالم متعدّد الأقطاب، حافل بالمخاطر، بقدر ما يحمل من الفرص.

* نقلا عن "النهار"

مادة اعلانية
تاريخ الخبر: 2023-09-01 18:09:11
المصدر: العربية - السعودية
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 86%
الأهمية: 94%

آخر الأخبار حول العالم

لماذا يريد جيش الاحتلال إخلاء 1000 فلسطيني من رفح الفلسطينية

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-05-06 09:22:20
مستوى الصحة: 48% الأهمية: 69%

البنك المركزي الصيني يضخ ملياري يوان في النظام المصرفي

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-05-06 09:22:39
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 56%

جيش الاحتلال الإسرائيلي يدعو سكان شرق رفح إلى "الإخلاء الفور

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-05-06 09:22:14
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 55%

من أجل سلامتكم عليكم بالإخلاء.. ماذا طلبت إسرائيل من سكان رف

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-05-06 09:22:33
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 60%

الدوري الإسباني.. النصيري يواصل تألقه

المصدر: موقع الدار - المغرب التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-05-06 09:25:16
مستوى الصحة: 53% الأهمية: 61%

إسرائيل: استخدام منشورات ورسائل لتشجيع المواطنين على الإجلاء

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-05-06 09:22:25
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 57%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية