شخابيط فكرية.. رجاء من قلب الأزمة


في إحدى الأطروحات لفلسفة الإنسان في الحياة كتب الأستاذ جميل ناصر: “الإنسان يتمسك بفلسلفة “حرية تحقيق الذات”. هذه الفلسفة لها ثلاث احتمالات للتبلور: أولًا، تقليد الاخرين: وهذا نمط فاشل لانه بالحقيقة عبودية. ثانيًا، ابتكار شيئ جديد: لكن هذا الامر فيه مجازفة وأحيانًا جنون. ثالثًا، ترك الأمور للظروف: وهذه حالة من الضياع!”

ويأتي السؤال: أين الحل لهذه المعضلة؟ أين جودة الحياة وسط كل الأزمات والصراعات والآلام التي يجتازها كل إنسان في هذا الوجود؟ هل توجد في هذه الحياة رجاء حقيقي أم أنها مجرد وعود واهية تُخدر عقول البشر ومشاعرهم انتظارًا للمجهول؟ هل نستسلم لاحتمالات العبودية والجنون والضياع أم هناك بابًا جديدًا يستطيع أن يعبر بالبشرية إلى حالة آمنة مستقرة بالرغم من ألغاز وحيرة الواقع المعاش؟

الواقع المعاش يؤكد حقيقة أن حياتنا سلسلة من الأحداث قد سُطرت في كتاب، نكتبه نحن ويقرأه الآخرون، كتاب قُسمت فصوله إلى عدة أقسام تعبر عن مراحل مختلفة نجتازها في الرحلة هنا على هذه الحياة، فكل مرحلة في حياتنا هي فصل هام في هذا الكتاب، ولكن العامل المشترك الموجود في كل هذه الفصول هو “الألم والمعاناة”، ربما هو الذي يشكل وجداننا وشخصاياتنا ويكشف جوانب خفية فينا قد لا نكتشفها دونه. قال مارتن لوثر: “الألم والمعاناة أفضل كتابٍ في مكتبتي”.

وقديمًا استخدم الفلاسفة الألم لقياس وتحليل الشخصيات الموجودة حولهم، وربما شخصياتهم هم أيضًا، فهو مقياس جيد لما أنت عليه. الفيلسوف “فريدرك نيتشه” عانى نوبات طويلة من الألم والمرض في حياته، وكتب كثيرًا عن معنى الألم من حيث صلته بمعنى الحياة بشكل عام، ومن مقولاته الشهيرة: “هل سبق أن قلتم نعم للذة ؟ أوه أصدقائي، بعدها قلتم نعم للألم أيضاً . كل الأشياء مترابطة، متشابكة، في حب بعضها البعض … ما لا يقتلني يجعلني أقوى”.

قال مايكل هورنر في مقدمة مقاله بعنوان “إذا كان الله صالح، لماذا يوجد الشر والمعاناة”: “لا شك أنَّ العالم مليء بالشر والمعاناة. نحن بالطبع نتأثر بتلك الحقيقة كل يوم على جميع المستويات: العاطفية، والفكرية، والعملية. على هذا النحو، فإنه ليس من المستغرب أن الناس يجدون صعوبة بالغة في التوفيق بين هذا الواقع القاسي مع فكرة وجود الله، كلى الخير و كلى القدرة.”

الحقيقة الأكيدة التي اكتشفتها على مر السنين، أنَّ تحمُّل الألم ومواجهة الشر طريق صعب وثقيل، يحتاج إلى كفاح طويل ومرير، والنصر ليس بديهيًا أو سهلًا. الآلام تحطم النفس البشرية، وتفقدها الرغبة في الحياة، وقد عبّر عن ذلك الكثير من شخصيات حقيقية من الكتاب المقدس أو الواقع المعاش، مثل: النبي إيليا، الرسول بولس، أنت، وأنا. وفي وسط حيرتنا لا توجد لدينا إجابات شافية أو كاملة عن لماذا الألم؟ ولماذا أنا؟، ولكننا واثقون بأنّنا للحياة والفرح، ونحن واثقون بغلبة المسيح يسوع على الألم والخطية والموت، ونحن شهود على القيامة. وإذا جردتنا الآلام من كل شيء، فنحن نعلم أننّا نستمد حياتنا من الله – كلِّيّ الصلاح والمحبة والقدرة والحكمة – وهكذا تعبر بنا الآلام إلى اختبار حرّية متجددة، هي حريّة القلب الذي يسكن في الله، ويسكن الله فيه.

أتذكر هنا ما قاله اللاهوتي الألماني يورجان مولتمان: “… مهمة الإيمان واللاهوت الحقيقية أن تساعدنا على التعايش، تجعل أسرار الحياة ممكنًا لنا مع هذا الجرح المفتوح. الشخص الذي يؤمن لن يرضى بأي أجوبة بارعة تشرح سؤال: لماذا الألم؟. وسيقاوم أيضًا أي محاولة لتخفيف السؤال. كلما إزداد إيمان الشخص، كلما إزداد اختباره للألم على عالم يعاني، وكلما سأل بشغف عن الله وخليقته الجديدة”.

ويبقى السؤال أين السبيل للخروج من رحم الألم والمعاناة إلى رحب الحياة الأصيلة الحقيقية؟
وبالرغم من أنه لا توجد وصفة ثابتة أو روشتة واحدة لمواجهة الألم، ولكن سأضع بعض الأنوار التي تضيء طريق رحلتنا حتى نقدر أن نستكشف ملامح الطريق ونحدد وجهتنا الصحيحة:

1. تعلّم التعبير عن الألم، والتحرر من المرارة والعدوانية على نفسك أو الآخرين أو الظروف أو الله. ولك درسٌ هام من حادثة موت لعازر، وقدرة الأختين مريم ومرثا على التعبير الصادق عن ألمهما، وفي نفس الوقت يجدّدان إيمانهما بيسوع في وسط الموت وبالرغم من الألم. وأعظم درس تعلمته شخصيًا من هذه الحادثة، أنَّه ربما لا تتغير الظروف الخارجية الصعبة، ولكن القلب يتغير دائمًا بنعمة الله وتنفتح داخله آفاق صبر وتحمّل وأمل، لمن يضعون ثقتهم بالرب.

2. الصلاة الواعية المسئولة، التي يكمن قوتها في الانفتاح على المستقبل وانتظار نعمة الله التي تنتصر على الموت، ولكنّها لا تُعفينا من المرور به. تذكّر صلاة المسيح في بستان جثسيماني، بالرغم من إدراكه لصعوبة الصليب وطلبه من أبيه إبعاد هذا الكأس عنه، إلّا أنّه عبّر عن ثقته العميقة بالله وعن تسليم حياته ومصيره بين يدي الآب الصالح الحكيم.

3. تذكّر تعاملات الله الأمينة معك في الماضي، فالعودة بالذاكرة إلى الماضي تعطينا رجاء ينير ما نعيشه اليوم ونواجهه من أحداث تبدو أنها بلا معنى، ويمنحنا فهمًا يُوضح لنا ردود أفعالنا وكيفيّة مواجهتنا للظروف المؤلمة. أنَّ اكتشافنا ذواتنا وطريقة حياتنا وتفاعلنا مع الناس والأحداث من خلال خبرة الألم يساعدنا في رحلة النمو والنضوج والإيمان.

4. خبرة القيامة، وما أروعها من إعلان عظيم في شخص المسيح المقام من الأموات، الذي ظهر لتلاميذه فآراهم جروحه التي لم تختَفِ، لكنّها صارت علامة الانتصار على الألم والموت، وأصبحت إعلان عن الفرح الذي يهبه القائم من الأموات.

5. تعظيم مفهومنا الحقيقي والأصيل عن الرجاء. فالكلمة تتضمن معاني “التوقع في ثقة” وتشير إلى الثقة في شيء ما سيحدث مع أنه لم يحدث بعد. الرجاء هو يقين راسخ بشأن الأمور غير الواضحة وغير المعروفة. انه حالة “توقّع باستمتاع”. فالأشخاص الذين يمتلكون أو يمتلكهم هذا الرجاء الواثق في الله، لديهم ثقة في حماية الله ومعونته وليس لديهم خوف أو قلق بالرغم من الواقع المنظور. أي أعيش مستمتعًا في حالة توقع لحدوث أمر إيجابي ومفرح. إنها حالة فيها القلب فرحان والنفس متيقنة ان الله سيصنع غدًا شيئًا أفضل في حياتي. هذا هو معنى الرجاء الحقيقي – لاننا كنا سابقًا نعيش في حالة ضياع، وأما اليوم: حالة فرح الرجاء بأن كل ما يأتي ويحدث هو مرتب من الله لكي يحقق الهدف في حياته. وهنا يصبح سعي الإنسان بتحقيق ذاته مرتبط ارتباطًا وثيقًا بخطة الله الأصيلة لحياتنا، وهذا يجعلنا في حالة فرح دائم لأن الرجاء هنا لا يُخزي. إن الرجاء الذي لا يتحقق يجعل الإنسان يخجل ويضعف ويدخل في دوامة اليأس والإحباط وفقدان الرغبة في الحياة، ولكن الرجاء المؤسس على وعد الله لا يُخزي ولا يخذل صاحبه لأن من المؤكد تحقيقه عاجلًا أو آجلًا. يا للروعة والجمال والإبداع الإلهي، فأنا أعيش حياتي في كل لحظة – أيًا كانت – فرحًا بالرجاء بأن الله كل يوم سيشكل فيّ شيئًا جديدًا لكي أكون مهيئًا تمامًا ومتأهبًا لتكميل الهدف من حياتي ووجودي.

وإن كانت أفكارنا شخابيط بخطوط عشوائية، إلا أنني أثق بأن الفنان الأعظم خالق الكون والوجود قادر أن يحولها إلى لوحة فكرية تبعث في وجداننا رسالة من الاطمئنان والأمان ونحن في قلب الأزمة.

تاريخ الخبر: 2023-09-18 09:21:24
المصدر: وطنى - مصر
التصنيف: غير مصنف
مستوى الصحة: 51%
الأهمية: 69%

آخر الأخبار حول العالم

فرحة عارمة لابن الطبيب التازي بعد الإعلان عن مغادرة والده للسجن

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-04 03:26:00
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 62%

هكذا كانت ردة فعل عائلة الدكتور التازي بعد النطق بالحكم

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-04 03:26:03
مستوى الصحة: 48% الأهمية: 68%

فرحة عارمة لابن الطبيب التازي بعد الإعلان عن مغادرة والده للسجن

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-04 03:25:52
مستوى الصحة: 54% الأهمية: 61%

هكذا كانت ردة فعل عائلة الدكتور التازي بعد النطق بالحكم

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-04 03:26:08
مستوى الصحة: 50% الأهمية: 57%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية