شخابيط فكرية


الحياة أحداث وشخصيات وتأثير، كل يوم نجتاز في مواقف متنوعة ومتباينة لها علاقة بأشخاص من دوائر حياتنا المختلفة، والتفاعل التلقائي بين الأحداث والأشخاص يترك فينا آثارًا وتأثيرًا سواء كان جيدًا أو سيئًا. ولا يمكن أن تخلو الحياة من ذكريات سيئة مريرة تفجر معها مشاعر دفينة مرتبطة بها، وعلى الجانب الآخر فهناك ذكريات طيبة عند استدعائها تفرض علينا بوعي نظرة إيجابية مختلفة لنفس الواقع المادي الأليم. فحقًا قال أحدهم: “يرحلُ الزمن وتمضي السنين، وتبقى الذكريات الجميلة مُعلقةٌ على جدران القلوب، بل إن كنا محقين فهي محفورة في القلب بأدق تفاصيلها”.
إن قيمة الزمن لا يقاس بمرور الأيام والأحداث بل بتفاصيله التي تترك فينا بصمات يضعها من نحب في قلوبنا، أو نضعها نحن في قلوب أحبائنا، وبمرور الزمن نسترجع ذكراها، فنشتاق لأصحابها، ونفخر بالعيش بينهم، ولا نتوقف عند هذا الحد، بل نستمد من هذه الذكريات قوة إيجابية وطاقة هائلة للمُضي قدمًا نحو إحياء الحاضر واستشراق المستقبل بمضمون مميز مليء ليس فقط بالأحداث العابرة التقليدية الروتينية بل بجودة العلاقة وصدق المشاعر وروعة العطاء، فتصبح الحياة أكثر حيوية وسعادة وقيمة ومعنى.
لقد تعلمت مع مرور الأيام قيمة تدريب الإختلاء والانفراد للتأمل الصادق مع النفس والتفكير العميق في أحداث الحياة، وفحصها وتحليلها حتى يمكننا التعلُّم من الأخطاء قبل الصواب لكي استجمع قواي من جديد لاستكمال الرحلة. تكمن أهمية هذا التدريب في التقاط المشاعر البسيطة للتعرف عليها والتعامل معها. تارة كنت اكتشف مشاعر الغضب والقلق والمرارة والكراهية والاشمئزاز وعلى الفور اتعامل معها وأصارعها لكي أتحرر من قبضتها المميتة وأتخلص من تأثيراتها المؤذية، وتارة أخرى كنت أجد كنوزًا من مشاعر الفرح والسعادة والامتنان والحب لأشخاص تركوا رصيدًا هائلًا من ذكريات وأحداث لن تُمحى في خضم أحداث الحياة فكنت أُسرع إلى تخزينها في مكان آمن في أعماقي الداخلية، واكتشفت أن هذه الذكريات هي وقود الحياة الحقيقي لضمان الاستمرارية بقوة وفاعليّة.
يصف د. أوسم وصفي في كتابه “مهارات الحياة” العلاقة بين الجسد والعقل والنفس في تعريفه عن ما هي المشاعر (ص 60) فيذكر أن أجسادنا تتعامل مع الواقع المادي بمختلف خبراته، وعقولنا تستقبل الواقع المعنوي من أحداث ومواقف وعلاقات وتفاعلات مع الأشخاص وينتج عن ذلك أحاسيس نفسية متباينة، هذه الأحاسيس النفسية (أي المشاعر) هي التي تساعدنا أن نحافظ على كياننا المعنوي ونسقنا القيمي مثل الشعور بالكرامة والأمان والحب والقبول والقيمة والتواصل المريح مع أنفسنا ومع الآخرين، وفي نفس الوقت تعطي لنا تفاعلًا مع القيم الروحية المطلقة مثل الحب والحق والرحمة والخير والأخلاق.
بالصدق والاختبار الحياتي أقول أننا لا يمكننا بأي شكل أن ننفصل عن ارتباطنا الوثيق بمشاعرنا الداخلية بكل ما فيها، والناتجة عن تاريخ من الأحداث المرتبط بالأشخاص. ولكننا نستطيع بالتعلُّم والتدريب المستمر التعامل مع هذه المشاعر بشكل واعي، فنعبر عنها ونقودها وهذا ما يسمى بالذكاء الوجداني Emotional Intelligence. ويمكننا تعريفه ببساطة بأنه المسئول عن التعامل الصحي مع المشاعر والوعي بها، وإدارة الطاقة الشعورية بطريقة تحقق فائدة للإنسان على المدى البعيد، وتجعله أكثر استقرارًا من الناحية النفسيّة، وأكثر نجاحًا في الحياة والعلاقات.
لذا كلما زادت مساحة الوعي بالمشاعر الإيجابية بارتباطها بأحداث وأشخاص صنعوا لنا ذكريات طيبة عطرة، كلما استطعنا أن نعمل على تخزين هذه الطاقة الشعورية الهائلة، لتبقى في حالة تفاعل داخلي مستمر يساعدنا على ملاحظة سلوكنا والتعلُّم من الأخطاء، ومن ثم يقودنا إلى حياة النمو والنضوج فنكون أكثر قدرة على التعامل مع متغيرات الحياة والتحكم في إنفعالاتنا، وفي نفس الوقت نكون أكثر اتصالًا بالناس بطريقة صحيّة صحيحة فنعي مشاعرهم ونحترم ونقدر رؤيتهم للأحداث وصراعاتهم وسلوكياتهم الخارجية.
إن صناعة الذكريات أمر مكلف لأنه يحتاج إلى الكثير من التركيز والاستعداد والتفكير والعلاقات الحيّة فنصبح قادرين على الاستقبال والتخزين والاسترجاع؛ لكي نفهم ذلك علينا أن نتعرف على مما تتكون الذاكرة؟. فالذاكرة من جزأين مختلفين داخل العقل: الذاكرة طويلة الأمد، والذاكرة العاملة. الذاكرة طويلة الأمد هي الذاكرة التي نُخزن فيها كل خبراتنا السابقة ومشاعرنا وأحاسيسنا وذكرياتنا، أما الذاكرة العاملة فهي ما يحدث لنا الآن.
لصنع الذكريات فإن الأمور التي تحدث لنا في الوقت الحالي تترابط مع ما نعرفه وتُودع بعيداً في المنطقة ذات الصلة (التجارب المشابهة) في الذاكرة طويلة الأمد. ولفهم شيء جديد نستدعي ما نعرفه بالفعل ونسحب المعلومات والمشاعر من الذاكرة طويلة الأمد إلى الذاكرة العاملة في عملية أشبه بشحن البطارية.
ويوضح الكاتب الشهير “جيمس بورج” أن الذاكرة مكونة من ثلاثة أقسام:
1. ترميز (استقبال).
2. التخزين (الاحتفاظ).
3. الاسترجاع (استدعاء).
ويؤكد “بورج” إن أسباب أغلب حالات قصور الذاكرة تحدث خلال مرحلة الترميز؛ لأننا لا نعطي الاهتمام الكافي للأشياء والأحداث نظرًا لرتم الحياة المتسارع والذي لا يمنحنا الفرصة لألتقاط الأنفاس أو إقامة العلاقات الحيّة المباشرة، وتم إستبدالها بعلاقات سطحيّة تستطيع أن تتواصل معهم من خلال الشاشات الزرقاء، فأصبحت مشاعرنا مجرد رسائل كلاميّة أو رموز شكليّة. وفي نفس الوقت تشتتنا بسبب انقسام التركيز بين العديد من الأنشطة التي نريد أن نحققها في ذات الوقت، مثل: تصفح موقع على الإنترنت، وإرسال رسالة نصية، ومشاهدة مباراة كرة قدم بينما تقوم بالتحدث مع شخص في المحمول. إذن لن يكون لديك أي شيء لتخزينه، وبالتالي لن ينتقل إلى الذاكرة طويلة الأمد.
وقد يكون لعدم تخزين أي شيء في بنك ذاكرتنا أثر طويل الآمد؛ فالذكريات التي نكونها يمكن أن تفيد مستقبلنا بالكامل من خلال العودة بذاكرتنا لنجسد بعض اللحظات من الماضي. فالخلاصة أنه إذا انقسم الانتباه، فلن يتم ترميز المعلومات، ولن يكون هناك شيء لتذكره.
أود أن أختم هذه المقالة بالحديث التليفزيوني الذي تم إجراه مع مدير الكرة السابق بالنادي الأهلي سيد عبد الحفيظ متحدثًا عن المدير الفني الأسبق البرتغالي مانويل جوزيه:
“… مرهف الحس ورقيق الطباع إلي حد كبير ولا ترتبط تصرفاته تجاه اللاعبين بمدي أهميتهم في الفريق بين أساسي وإحتياطي.قبل أيام من إعتزالي رزقني الله بمولودي الأول فاضطررت للغياب عن المران الصباحي للبقاء طوال الليل بحانب زوجتي. في السابعة والنصف من صباح اليوم التالي فوجئت به أمامي في المستشفي وحاملا في يده كيس.. أخرج منه بلوفر صغير جدا من الصوف باللونين الأبيض والاسود وقال:
“مبروك… أبلغني اللاعبون بأنك رزقت بمولودك الأول، وعندما أبلغت زوجتي بالخبر السار قررت أن تسهر طوال الليل لإعداد هذا البلوفر ليكون لنا ذكري طيبة معك”. أعطاني البلوفر واحتضنني في لفتة إنسانية لها مفعول سحر، وكان أول هدية لإبني يوسف ولا زلت محتفظا به إلي الآن.”
أنها شخابيط فكرية تبدو للوهلة الأولى “منعكشة وغير مرتبة” وقد يكون هذا هو المقصود لكي يتفاعل القارئ العزيز بالتفكير والبحث عن روابط بين الأفكار المطروحة، فيصنع منها لوحة فريدة بريشته المميزة. وتحفزنا على الحوار الإيجابي الذي يتخطى الكلمات والعبارات إلى عالم المعاني والقيم السامية، فنتعلم امتلاك أدوات التحليل والنقد البناءّ الذي يدفعنا إلى المشاركة الفاعلة وليس الاستقبال السلبي.

تاريخ الخبر: 2023-10-02 12:21:35
المصدر: وطنى - مصر
التصنيف: غير مصنف
مستوى الصحة: 46%
الأهمية: 65%

آخر الأخبار حول العالم

مهمة غير مسبوقة.. الصين تغزو الجانب البعيد من القمر

المصدر: المصريون - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-05-04 09:21:54
مستوى الصحة: 53% الأهمية: 53%

أول تعليق من نيشان بعد إعلان ياسمين عز حصولها على حكم ضده

المصدر: المصريون - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-05-04 09:21:57
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 58%

سعر صرف الدولار مقابل الجنيه اليوم

المصدر: المصريون - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-05-04 09:21:52
مستوى الصحة: 48% الأهمية: 52%

غادة عبد الرازق: ندمانة ولو رجع بيا الزمن مكنتش هخش التمثيل

المصدر: المصريون - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-05-04 09:21:59
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 67%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية