القهوة و المتصوفين .. صراع التحريم والاعتياد


من بين كلّ عشّاق القهوة، كان للصوفيين غرامهم المختلف عن غيرهم، وحبّهمٌ لذلك المشروب يصل إلى درجة الهيام، كونهم يعتمدون على روايات ثلاث في نشأتها، جميعها تؤكد أن مكتشفها كان أحد شيوخ الطريقة الشاذلية، وهم: محمد بن سعيد الذبحاني، وعلي بن عمر الشاذلي، وأبو بكر بن عبد الله الشاذلي المعروف بالعيدروس أو العيدروسي.
ويستدلّ محمد الأرناؤوط في كتابه ( من التاريخ الثقافي للقهوة والمقاهي) على عمق الصلة بين الصوفية والقهوة، بأن الجزائريين يطلقون على القهوة اسم “شاذلية” نسبة إلى الشاذلي. وفي دمشق مطلع القرن العشرين، كان صاحب البيت في أحد الضواحي إذا أخذ إبريق القهوة من على النّار يسكب الفنجان الأول على الأرض، “لأنه حصّة الشاذلي”، بحسب رواية الأرناؤوط.
واستدلّ الأرناؤوط على هيام أبناء الطريقة الشاذلية بالقهوة، بما كتبه الشاعر السعودي محمد الشبيتي، في مطلع قصيدته “تغريبة القوافل والمطر”:
“وزِدنا من الشاذلية حتى تفيء السحابةُ … واسكبْ على قلل القوم قهوتَك المرّة المُستطابة”.
وفي كتابه “سفر القهوة” الذي صدر للمرة الأولى في أبريل 2022، كتب الرحالة الكويتي عبد الكريم الشطي -كما يُحب أن يعرّف عن نفسه- أن أول استخدامٍ تاريخي للفظ “القهوة” بدأ في العام 1400. وقد كانت الكلمة تُطلق على المشروبات الساخنة بشكلٍ عام. قبل ذلك التاريخ، حيث لم تكن الناس تتناول المشروبات الساخنة إلا للعلاج ومع الدواء فقط.
وبعد عام 1400 انتقلت هذه العادة إلى العالم العربي، وتحديداً إلى بلاد الشام واليمن الذين صاروا يطلقون على المشروبات الساخنة اسم “القهوة”، حتى أن هناك بعض المراجع التي تُشير إلى قهوة القات (نبتة القات)، إذ كانوا يغلون أوراق النبتة ويشربونها.
وهناك رأي آخر يقول انه أطلق على القهوة هذا الاسم، نسبة إلى أن الناس ظنوا أنها من المسكرات، فالقهوة لغويًا ترادف معني الخمر.

اما في مصر فقد عرفت القهوة في القرن السادس عشر الميلادي، حسب ما ذكره جمال الغيطاني في كتابه القاهرة في ألف عام، وكان أول من اهتدى إليها هو أبو بكر بن عبدالله المعروف بالعيدروس، عندما وجد في سياحته شجر البن مهملاً متروكاً بالرغم من كثرته، فوجد فيه تجفيفاً للدماغ واجتلاباً للسهر، وتنشيطا للعبادة، فاتخذه طعاما، وشراباً وأرشد أتباعه إليه.

– القهوة .. شراب أهل الله:

استخدمت الجماعات الصوفية في اليمن القهوة مُنبِّهاً يساعد المريدين على السهر في حلقات الذكر التي كانت تستمر طوال الليل تقريباً، حتى أصبحت جزءاً من طقوس التعبد الصوفي. فقد رأى المتصوفة في القهوة بديلاً حلالاً للخمر، وأصبغوا عليها كل الدلالات التي سبق أن مُنِحَت للخمر، فتغنّوا بها شعراً ونثراً، وارتقوا بها إلى مقام الرمز.
والحقيقة أن لفقهاء القرن التاسع وأوائل القرن العاشر الفضل الأكبر في البحث عن تاريخ القهوة. فقد أسهب الكثيرون منهم ضمن مجموعة فتاوى، أو رسائل، في مدح هذا المشروب، جُمعت كلها في كتاب “عمدة الصفوة في حل القهوة” للشيخ العراقي عبد القادر بن محمد الجزيري. حيث قال يرتبط الشرب الجماعي للقهوة بتاريخ “الطريقة الشاذلية” التي أسّسها الشيخ أبو الحسن الشاذلي (1196 – 1258). ومن المتعارف عليه في الأوساط الصوفية أن الشاذلي هو من أدخل احتساء القهوة في طقوس العبادة آنذاك.
يُقال إن هذا المشروب كان يُعينه على السهر وينشّطه للصلاة وتلاوة القرآن والأوراد الخاصة بطريقته.
وهناك نصّ يُنسب لأبي الحسن الشاذلي، يروي فيه كيف دلّ مريده ووريثه في اليمن، علي بن عمر القرشي الشاذلي، خلال لحظات سكرات الموت، على المكان الذي وجد فيه القهوة وحثّه على لزوم شربها أو لوكها (مضغها).
ويقول الشاذلي: “عند موته أعطى أبو الحسن لمريده كويرة من الخشب وأمره أن يسافر ولا يتوقّف إلّا في الموضع الذي لا تتحرّك فيه الكويرة (والكويرة هي خلية نحل داخل علبة خشبية)، سافر المريد حتى بلغ مدينة مخا، الميناء اليمني، وبرح بها”.
جدير بالذكر انه يُنسب للشاذلي أنه أول من روّج لمشروب القهوة، وكانت البداية من مدينة المخا، الذي يُعتبر الشاذلي مؤسّسها الروحي. حينها، كانت المخا مدينةً مهملة، لكن علي بن عمر الشاذلي انتقل للعيش فيها وطلب من الناس زراعة البن. غير أن سلطان المدينة أمر بنفيه إلى الجبال، حيث عاش مع ثلّةٍ من أصحابه على ثمر شجرة القهوة وتحضير المشروب بحبّتها، كما ورد عن الشيخ علي بن عمر الشاذلي، أنه قال: إن شرب القهوة كشرب ماء زمزم، حيث إن شربها يؤدي لنفس المتعة التي تحدث عن شرب زمزم.
وحين بلغ الناسَ خبر قدرة المشروب على مداواة بعض الأمراض، توافدوا عليه. حينها عفا السلطان عن علي بن عمر، الذي نزل من جديد إلى مدينة مخا بالقهوة، التي كانت سبب شهرة المنطقة إلى يومنا هذا.
ارتبطت القهوة إذاً بالثقافة الصوفية وصارت مرادفاً لها، وكانت جزءاً من جلسات الذكر. وبالصدفةِ والتصادف كانت طقوس شرب القهوة تشبه إلى حدٍّ كبير طقوس شرب الخمر، لأنها كانت تشربُ جماعياً. وهو ما تسبّب أحياناً في تحريمها لدى بعض الفقهاء.
إذ كان يوضع قِدرٌ كبير من القهوة في منتصف الجلسة، بداخله مِغرَافَةٌ وتحته النار، وتُشرب مُيَامَنَةً (من اليمين). يغرف الأول ويشرب، ثم يعطي الدور لمن يجلس إلى يمينه، فيغرف هو الآخر ويشرب قبل أن يأتي دور من يجلس إلى يمينه، وهكذا دواليك.

_ بين صراع التحريم والاعتياد:

أصبحت القهوة مشروبًا شهيرًا وصارت هناك أماكن خاصة لتقديمها، وصارت تقدم أيضًا في الملاهي الراقصة، وفي جلسات الغناء والسمر، إلى أن رأى المتعصبون أنها سبب في زيارة الناس لهذه الأماكن، فصاروا ينادون بتحريمها، وكان خاير بك، مدير الشرطة وقتها في الجزيرة العربية، في عهد قنصوة الغوري، قد أصدر مرسومًا بعد طلب هؤلاء المتعصبين منه، بتحريم شرب القهوة، و اعتمد على أراء بعض الفقهاء الذين جمعهم، وشهادات من أدمنوها بأنها مسكرة، وتسبب الإعياء.

وفي القاهرة، أصدر قنصوة الغوري مرسومًا بمنعها فقط في المجالس التي يعصى فيها الله، لكن لم يحرمها على الإطلاق، فقط قيد أماكن شربها، وفي عام 1544 أصدر السلطان العثماني بيانًا، منع فيه شرب القهوة أثناء الحج، وأيضًا العالم الأزهري الكبير أحمد عبد الخالق السنباطي، حرم شربها عام 1532، وهاجم شارب القهوة على منبر الأزهر الشريف، وبسبب خطبة قامت الناس على أماكن تقديم القهوة وحطموها.

وبعد أن أبيحت القهوة في السنين التالية، عادت السلطات إلى تحريمها، في عهد السلطان العثماني مراد الثالث، والسلطان مراد الرابع، الذي أمر بتحطيم المقاهي، وسجن من يشربها، وظلت هكذا إلى أن عرفتها أوروبا، وصارت القهوة في القرن السابع عشر سلعة عالمية.

تاريخ الخبر: 2023-11-08 12:21:28
المصدر: وطنى - مصر
التصنيف: غير مصنف
مستوى الصحة: 47%
الأهمية: 53%

آخر الأخبار حول العالم

وفد من حماس إلى القاهرة لبحث مقترح الهدنة في قطاع غزة

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-04 12:25:52
مستوى الصحة: 54% الأهمية: 58%

وفد من حماس إلى القاهرة لبحث مقترح الهدنة في قطاع غزة

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-04 12:25:45
مستوى الصحة: 49% الأهمية: 54%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية