“ما بعد الحرب؟”


عادة ما نسمع هذه العبارة “ماذا بعد أن تضع الحرب أوزارها؟” وعادة ما تكون الاجابات مرتبطة بسناريوهات تتعلق بإعادة الإعمار أو حفظ السلام في حال تحققه وغير ذلك من تدابير إنسانية أو سياسية، وفى حالة الحروب الأهلية ربما نجد اقتراحات لمسار يتعلق بالعدالة لانتقالية، وحتى الآن ليس لدينا إلا حالات قليلة تتعلق بمحاكمة مرتكبى جرائم الحرب أو الجرائم ضد الإنسانية، وخاصة عندما يكون مرتكبى هذه الجرائم من الدول الكبري التى تتحكم فى التوازنات الدولية. ومع ذلك ماذا لو طرحنا سؤال “ماذا بعد انتهاء الحرب الدائرة الآن في قطاع غزة؟” وهو سؤال افتراضي لأن الحرب قد لا تضع أوزارها بل قد تتواصل وتتسع. من المؤكد أن المختصين فى صياغة السيناريوهات ممن لديهن منهجيات ومعلومات ومعطيات هم المؤهلين لتقديم إجابة أفضل وخاصة إذا كانت مرتكزة على أدوات منهجية بعيد عن التحيز والمصلحة أو حتى التعاطف. ومع ذلك قد يكون للمتابعين، مثلنا، الحق فى التعبير عن الرأى فيما يتعلق بالإجابة عن هذا السؤال. وفي هذا السياق يمكن طرح النقاط التالية:

أولا: أن الحرب التى تشنها دولة إسرائيل على قطاع غزة لها خصوصيتها التى تجعلها مختلفة عن حروب أخرى مثل الحروب الأهلية كتلك التى حدثت فى رواندا سابقا والسودان الآن، أو حروب الهيمنة على مناطق جيوسياسية كما حدث فى أفغانستان والعراق وسوريا وحتى أوكرانيا. إن الحرب على قطاع غزة تبدو مختلفة من عدة جوانب: فمن ناحية أولى، هي بمثابة الشكل الأبشع لحرب ممتدة منذ عقود، فهى نتاج للاحتلال وقد تكون وسيلة لمزيد من للاحتلال، وهو ما يعنى، من ناحية ثانية، أنها حرب تشنها دولة احتلال توسعية، وبالتالى هى ضمن استراتيجية تتعلق بتشكيل حدود دولة اسرائيل وهى حدود مرنة، فإسرائيل ليس دولة “محتلة” وفقط ولكنها دولة “احتلال” بما يعنى التمدد الاستعماري، ومن ناحية ثالثة، إنها الحرب التى تُرتكب فيها أبشع الجرائم ومع ذلك فهى تتم تحت رعاية وتضامن الدول العظمي، وبالتالي، فإن تأثيرها وتداعياتها تتجاز جرائمها الآنية، ولكن إذا مرت بدون عقاب فهذا يعنى إضفاء شرعية على جرائم الحرب والإبادة والتطهير العرقي.

ثانيا: إن سيناريوهات “ما بعد الحرب” قد تأخذنا فى اتجاه الأسوأ، وقد تبقى المنطقة فى حالة توتر مستدام، ولكن ربما، وهذا الاحتمال الأضعف، تكون فرصة لإعادة النظر فى الاحتلال وحقوق الإنسان والشعوب. فى الواقع، أن الأسوأ لا يرتبط فقط بما يتعرض، أو سيتعرض، له الشعب الفلسطينى، ولكن المنطقة بأكملها فمن الواضح أن الحرب على غزة قد تكون بداية لمرحلة جديدة من الهيمنة ولاستعمار، قد تطول ولكن التضامن الأمريكى ولغربي يعطي مؤشرات على ذلك. أما السيناريو الثاني، فقد يكون وقف الحرب مع استمرارها بأساليب أخرى، وهذا السيناريو بالتأكيد أقل حدة وبشاعة من السيناريو الأول، ولكنه قد يعني استمرارية التوتر واحتمالية عودة السيناريو الأول إلى الواجهة فى أية لحظة. أما السيناريو الأخير، الأضعف، فهو أن تُعاد الروح لما يسمي “المجتمع الدولي” ويتم وضع حد لمثل هذه النمط من الاحتلال وحروب الإبادة والجرائم ضد الإنسانية، ويتم تفعيل دور “المحكمة الجنائية” المُجمد بسبب مصالح الدول العظمي واستثماراتها فى الحروب والجرائم ضد الإنسانية، وكذلك تضامن أنظمة تخشي العقاب بسبب انتهاكات حقوق الإنسان. وللأسف فلا توجد مؤشرات ذات ثقل بأن هذا السيناريو يمكن أن يتحقق، ولكنه لو تحقق سنكون بصدد نقطة تحول هائلة فى نظام العدالة وحقوق الإنسان على مستوى العالم.

ثالثا: وعلى الجانب الآخر، الفلسطيني، لن تكون الأمور منفصلة عن السناريوهات السابقة، فمن ناحية أولي ليس هناك صورة واضحة عن مستقبل ملايين الفلسطيين إذا استمر سيناريو الإبادة والتهجير القسرى، والأمر لا يتعلق فقط بقطاع غزة بل الضفة الغربية وربما عرب 48. كما أن هذا السيناريو يعني تغير التوازن الهش فى المنطقة وخاصة فيما يتعلق بدول الجوار وإيران واليمن. ومن ناحية ثانية، فإن السيناريو الثانى، أى وقف الحرب واستمرارها بوسائل أخري، قد يعطي ثقل ومشروعية أكبر لحركة المقاومة الإسلامية “حماس”، كما سيفضي إلى المزيد من إضعاف السلطة الفلسطينية الضعيفة أصلا. وأتصور أن السيناريو الأخير، الإيجابي والضعيف فى الوقت ذته، والذي يعنى وضع حد للاحتلال وجرائمه، قد يفضي كذلك إلى إضعاف وجود حركة المقاومة الإسلامية “حماس”، لأن البديل الموضوعي هو جود سلطة فلسطينية موحدة، وليس بالضرورة السلطة الموجودة الآن، كما قد يتطلب هذه السيناريو مرحلة انتقالية لحين الاستقرار على حل الدولتين.

قد يكون ما سبق مجرد أفكار لا ترقى لمستوى السناريوهات بالمعنى المنهجي للكلمة، ولكنها أفكار قد يكون لها ما يبررها، فالحرب الحالية، واللغة المستخدمة لتبريرها، تشير بقوة أنها تسير على خطى ما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر فى الولايات المتحدة الأمريكية، وهي الأحداث التى دشنت ما يسمي “الحرب على الإرهاب”، ولكنها، فى واقع الأمر، دمرت ما تم انجازه في مجال حقوق الإنسان على مدار عقود. فهل سيتم مواصلة الإطاحة بمبادئ وأدوات حقوق الإنسان؟ أم ستكون فرصة لعقلنة النظام الدولي ليس فقط بإنهاء الحرب ولكن، وهذا هو الأهم، بتطبيق قواعد العدالة على مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. فى الحقيقة، أن التمنى لا يتعلق فقط بإقرار الحقوق المشروعة لشعب يعاني من الاحتلال والإبادة، ولكن بإعادة الاعتبار للقانون الدولي لحقوق الإنسان، والذي بإنكساره، هذه المرة، ربما تعيش أجيال قادمةفى ظل نظام دولي يتعامل مع الجرائم ضد الإنسانية على أنها تدابير قابلة للتبرير وحتى الدعم.

تاريخ الخبر: 2023-11-20 09:24:16
المصدر: وطنى - مصر
التصنيف: غير مصنف
مستوى الصحة: 50%
الأهمية: 65%

آخر الأخبار حول العالم

بركة : مونديال 2030.. وضع خارطة طريق في مجال البنيات التحتية

المصدر: موقع الدار - المغرب التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-05-03 03:24:53
مستوى الصحة: 49% الأهمية: 64%

بوريطة يتباحث ببانجول مع نظيره المالي

المصدر: موقع الدار - المغرب التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-05-03 03:24:56
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 55%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية