بوفاة مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق هنري كسينجر الأربعاء عن عمر ناهز الـ100 عام، كُتب السطر الأخير في مسيرة رجل حرك اللعبة السياسية في العالم لعقود عدة.

وكيسنجر، مستشار الأمن القومي ووزير الخارجية في عهد الرئيسين الأمريكيين ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد، والمسؤول الأبرز عن السياسة الأمريكية في أوقات شديدة الحلكة في العالم، وكذلك في أوقات الحرب الباردة، وأوقات الصراع والحروب العربية الإسرائيلية.

وفاز كسينجر بجائزة نوبل للسلام، ولعب أدوارا محورية في السياسة الخارجية الأمريكية، ونجح في إخراج أميركا من حرب فيتنام، وفتح العلاقات الدبلوماسية مع الصين، وتقليل التوترات مع الاتحاد السوفياتي.

وتقاسم كسينجر جائزة نوبل للسلام عام 1973 مع نظيره الفيتنامي الشمالي لو دوك ثو لتوصلهما إلى اتفاق لإنهاء حرب فيتنام. وقالت نوبل، إن الاتفاق الذي وقع في 27 يناير 1973، «جلب موجة من الفرح والأمل بالسلام في العالم أجمع».

أوجه السلام والشر

مع اتفاق الجميع على أن كسينجر من أبرز السياسيين في العالم، وتأكيد الجميع على أدواره السياسية المثيرة، إلا كثيرين يرون فيه وجها آخر للشر، بمن فيهم كاتب سيرته الذاتية جريج جراندين الذي يقول عنه «يداه ملطختان بالدم»، حيث يرى أن كسينجر أسهم بإطالة أمد حرب فيتنام وتوسيع الصراع إلى كمبوديا المحايدة، وتسهيل عمليات الإبادة الجماعية في كمبوديا وتيمور الشرقية وبنجلاديش؛ وتسارع الحروب الأهلية في الجنوب الأفريقي؛ ودعم الانقلابات وفرق الموت في جميع أنحاء أمريكا اللاتينية«.

كما قال المدعي العام المخضرم في جرائم الحرب ريد برودي إن»هناك عددا قليلا من الأشخاص الذين كانت لهم يد في هذا القدر من الموت والدمار والمعاناة الإنسانية في عدد من الأماكن حول العالم مثل هنري كيسنجر«.

ثعلب عجوز

استحق كيسنجر لقب»الثعلب العجوز«الذي يطلق عليه مدحا وذما، فسجله حافل بما يثير الجدل، ففيما يصفه بعضهم بأنه عبقري الدبلوماسية حتى بعد تقاعده، ينتقده آخرون ويرونه مجرم حرب.

وبعد مغادرته منصبه، ظل على مدى العقود الأربعة الماضية حاضرا على الساحة حيث يقدم»استشارات جيوسياسية«لعشرات من الزعماء والقادة والحكومات في مختلف أنحاء العالم دون الكشف عن أسمائهم، وذلك من خلال شركته الاستشارية»كيسنجر أسوشيتس«، كما شارك في عامه المئة في توقيع خطاب يحذر من مخاطر الذكاء الاصطناعي على العالم، حيث وضع هذه الثورة التكنولوجية في نفس الخطر الذي تمثله الأسلحة النووية.

كما تسببت تصريحات أدلى بها خلال الحرب الروسية الأوكرانية بضجة بعد دعوته إلى السعي لتحقيق سلام تفاوضي.

سيد اللعبة

كانت لكيسنجر كثير من الحكايات من خلال تعامله مع القادة والسياسيين في الشرق الأوسط، وتعامله مع الظروف الحالكة والأحداث السياسية بالغة التعقيد في العالم العربي.

وفي كتاب »سيد اللعبة« الذي كتبه مارتن إنديك السفير الأمريكي السابق في إسرائيل، إضافة إلى مناصب أخرى عدة، نقرأ قصصا عدة عن مشاركة كيسنجر في دبلوماسية السلام في الشرق الأوسط، وتأثيره الكبير على علاقات إسرائيل مع العرب.

ويشير الكتاب إلى أن كيسنجر تعامل مع شخصيات عدة لوضع الأساس لمحادثات السلام في الشرق الأوسط.

لقاء مع الملك فيصل

في كتاب »سيد اللعبة« يتطرق الكاتب إلى محاولة كيسنجر إنهاء منظمة «أوبك» لسياسة تسعير النفط المرتفعة أثناء وبعد اندلاع حرب أكتوبر، والمراسلات بين الملك فيصل بن عبدالعزيز، رحمه الله، ووزير النفط الأسبق الدكتور أحمد زكي اليماني.

وكشفت مراسلات حرب أكتوبر بين الملك فيصل والرئيس الأمريكي نيكسون وكيسنجر، والتي لعب كسينجر دورا مهما في نقلها وتلقيها، أن الملك فيصل هدد واشنطن قبل أسبوعين من حظر النفط، وقال إن »البركان الخامد في الشرق الأوسط سينشط من جديد«

وبدا الموقف السعودي خلال تلك المحادثات صلبا للغاية دعما لمصر وسوريا اللتين كانتا تخوضان حرب أكتوبر ضد إسرائيل، وتضحية السعودية بمداخيل النفط للضغط على واشنطن.

وهدد الملك فيصل في رسالة أولى لنيكسون بقطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، وتعليق العلاقات الاقتصادية ووقف تصدير شحنات النفط للولايات المتحدة، وبعدم الحاجة لأن ترسل أمريكا سفيرها الجديد إلى المملكة.

وفي وقت ناشد في كيسنجر الملك فيصل التدخل وإقناع الرئيسين المصري أنور السادات والسوري حافظ الأسد بوقف القتال مع إسرائيل، رد الملك فيصل »إذا لم تتحرك الولايات المتحدة لردع إسرائيل، فإن البركان الخامد في الشرق الأوسط سينشط من جديد، وأن محرقته لن تقتصر على المنطقة فقط، بل ستتحول إلى حرب عالمية ثالثة شاملة«.

وأمام الحزم السعودي حاول كيسنجر الالتفاف للتهدئة، وأوصى الرئيس نيكسون بأن يرسل رسالة شخصية للملك فيصل لطمأنته وتوضيح الموقف الأمريكي الداعم لتسوية عربية – إسرائيلية، لكن الملك فيصل كان شديد الانتباه والتمسك بموقفه الحازم.

ودأب كيسنجر على مناشدة الملك فيصل لإنهاء مقاطعة النفط التي تضر بالاقتصاديات الصناعية للولايات المتحدة، والغرب إلى حد كبير، إلا أنه واجه شروطا قاسية منها إصرار الملك فيصل على إبرام اتفاق فك الارتباط بين مصر وإسرائيل، وبين سوريا وإسرائيل في الحرب.

وأدرك كيسنجر خلال محادثاته المتكررة مع الملك فيصل أنه إذا لم يرض الملك فيصل «فيمكنه دائماً العودة إلى فرض حظر النفط مرة أخرى».