الدار/ افتتاحية
تصريحات الدبلوماسيين الجزائريين أشبه بكلام الليل الذي يمحوه ضوء الصباح. يمسحه سطوع شمس الحقيقة ليكشف أن التصريحات الرنانة والأقاويل المجامِلة لا اعتبار لها ما دامت الأفعال تكذّب الأقوال. وآخر هذه الأقوال تصريح أدلى به وزير الشؤون الخارجية الجزائري أحمد عطاف الذي حلّ ضيفا على الصحافية الجزائرية خديجة بن قنة على منصة “أثير” التابعة لقناة الجزيرة. في هذه الحلقة لم يخجل المسؤول الجزائري من التصريح بأن “الجزائر هي الأكثر ميولا إلى الإسراع في إيجاد حل مع المغرب”، مضيفا “أن حلم بناء المغرب العربي لا يمكن أن يُقضى عليه، وأنا أنتظر اليوم الذي نعيد فيه بناءه، ودورنا ومسؤوليتنا لتهييئ أرضيته”.
هذا الكلام المعسول صدر عن المسؤول الجزائري في سياق يتميز بدينامية دبلوماسية خاصة، كان من أهم تطوراتها زيارة نائب مساعد وزير الخارجية الأميركي جوشوا هاريس إلى الجزائر والمغرب مؤخرا، وتعزيز المبادرة الأميركية الهادفة إلى حلحلة ملف الصحراء المغربية بصفة نهائية وتجاوز تداعيات هذا النزاع المفتعل على المنطقة من الناحية الأمنية والسياسية. إذا ربطنا التصريح اللاحق بالحدث السابق فقد يدفعنا التفاؤل إلى أن نستنتج أنه استجابة دبلوماسية للدعوات الأميركية. لكننا قد نكون مبالغين في التفاؤل إذا جزمنا أن ما ورد على لسان أحمد عطاف يمثل فعلا تحوّلا جوهريا إيجابيا في موقف الجزائر وقيادتها. الخضوع للضغوط الأميركية ليس مستغربا من نظام الكابرانات الذي عبر في مناسبات عدّة عن رغبته في تطوير العلاقات مع واشنطن والانفتاح الكامل على اختياراتها، لكنّ التشبث بمعاداة المغرب ووحدته الترابية ما يزال قضية وجود واستمرار بالنسبة إلى عصابة العسكر.
لكن الانتقال من صلب الخلاف الأساسي الذي تمثّله قضية الصحراء المغربية المفتعلة إلى تركيز المشكلة حول مشروع حلم بناء اتحاد المغرب العربي. هذه المناورة هي مجرد تهرّب من مواجهة موطن الخلاف الحقيقي الذي يجب على المسؤولين الجزائريين الانكباب عليه فعلا ألا وهو التوقف تماما عن معاكسة الوحدة الترابية للمغرب والتخلص من حلم إنشاء الدويلة الوهمية في الصحراء المغربية. هذه هي الحقيقة التي يُنتظر من المسؤولين الجزائريين وعلى رأسهم وزير الخارجية الاعتراف بها والمبادرة فعلا إلى اتخاذها للإعراب عن حسن نية حقيقي يمكن التعويل عليه والبناء على أسسه في المستقبل القريب والمتوسط. المجاملات وحدها لا تكفي في إدارة العلاقات الدولية.
لماذا لم يوضح أحمد عطاف خلال حديثه طبيعة الحلّ الذي تسعى بلاده إلى إيجاده فيما يخص العلاقات مع المغرب؟ إذا كان المقصود بهذا الحلّ هو تبادل بعض رسائل الود والانفتاح مع الاستمرار في ترديد أسطوانة تقرير المصير وادعاء تبني خيار السلم في التعامل مع المغرب، فلن تخرج تصريحات وزير الخارجية عن نطاق البروباغندا العقيمة التي اعتدنا عليها منذ عقود طويلة من الزمن. عندما تشتد الأزمة الداخلية وتعيش الدبلوماسية الجزائرية عزلة دولية فإنها تميل إلى التعبير عن مواقف مشابهة دون توضيح حقيقي لمضامينها بإجراءات ومبادرات فعلية يمكن أن تزرع بذور الأمل وتؤسس تدابير الثقة.
لذا لن ننتظر من عطاف أو رؤسائه الكابرانات أيّ جديد فيما يخص تطبيع العلاقات مع المغرب، ما لم يتحوّل الخطاب الإعلامي المستهلك والمنمّق إلى قرارات سياسية شجاعة لإنهاء حالة الجفاء ودفن العداء الأزلي الذي يسكن قلوب المسؤولين الجزائريين ضد المغرب. ما الذي يمنع هذا النظام من اتخاذ إجراءات فورية تثبت حسن النية وصدق العزيمة المعلنة؟ لسنا دعاة تشاؤم أو يأس، لكن الواقع لا يرتفع، والخبرة التاريخية التي راكمتها بلادنا شعبا وحكومة في التعامل مع عقلية النظام الجزائري تدفعنا دون تردّد إلى تجاهل هذه الأقاويل، بل والتشكيك التام في خلفياتها التي لا تعْدو أن تكون مجرد رسائل إرضاء غير مكتملة للطرف الأميركي والمنتظم الدولي.
