الحرب والحضارة وموت العدالة


صنع مصطلح “المركزية الأوربية” مشهدا للعالم بوصفه مساحة يتوسطها الغرب كمركز حضاري محاط بمخاطر قوي أو “حضارات” أخري أدني تهدد هذا المركز ولكنها ضرورية لصنع هويته كمركز. وفى هذا الهامش تتشكل نزوعات وهويات بعضها يسعي للتمثل بالغرب ومحاولة اللحاق به كطريق للخلاص الحضاري، وبعضها سلك طرق متنوعة للرفض والمقاومة، بما في ذلك استبطان النهج الغربي والزعم بمركزيات حضارية أخري. إنه مشهد العصر الحديث المشحون بسياسات الهوية بين الشرق والغرب والشمال والجنوب، وفق التصنيف الثلاثي المحكوم بالمركزية الغربية: “الغرب والشرق” و”الشمال والجنوب” و”الإسلام والغرب”. فالغرب كان القطب الليبرالي فى مواجهة الشرق الاشتراكي، وهو الشمال الرأسمالي، فى مواجهة جنوب تابع ومهمش، وهو حاضنة الحداثة والتنوير فى مواجهة مجتمعات وثقافات أسيرة ماضيها وشعائرها وتحديدا “الإسلام”.

وقد وظف الغرب هذه الثنائيات الاستقطابية، بأساليب ودرجات متفاوتة، من أجل بناء هويته كمركز “للحضارة الإنسانية”، وبالمثل فقد أسهمت هذه الاستقطابات فى تشكيل هويات الأطراف الأخري بأشكال وطرق مختلفة. وبما أن “المركزية الأوروبية” تعبير عن هوية فإنها تحتاج، لكي تدوم، الإبقاء على هويات تهددها، فتمدها بطاقة اليقظة والتحفز والهجوم. ويمكن القول أن أفول نجم الأنظمة الاشتراكية بنهاية القرن الماضي، أخرج ثنائية الغرب الليبرالي والشرق الاشتراكي من الخدمة، ففقد الغرب المنتصر أحد محفزات الحفاظ علي هويته المركزية، فكان هناك ضرورة لتعويض هذا النقص، وذلك بالتركيز علي ثنائية “الإسلام والغرب”. وبشكل عام فإن ثنائية “الإسلام والغرب”، علي عكس ثنائية “الشمال والجنوب”، لها طبيعة خاصة، فالإسلام هنا ليس مجرد كتلة سياسية أو أيديولوجية كما كان الشرق الإشتراكي، ولا هو مجرد كيان تابع بالمعنى الاقتصادي كما هو الحال عندما نتحدث عن الجنوب مقابل الشمال، فالإسلام فى سياق ثنائية “لإسلام والغرب” يحمل دلالة مركبة، فهو أيديولوجيا وجغرافيا وعرق.

وبالتالي، مباشرة بعد خروج ثنائية “الغرب الرأسمالي والشرق الاشتراكي” من الخدمة ومع بداية الألفية الجديدة سرعان اشتغلت الآلة السياسيةوالعسكرية الغربية، على تعويض هذا النقص فى التهديد الحضاري، من خلال تعديل وتفعيل وتغذية ثنائية “الإسلام والغرب”، فكان “الإسلام” هو ذلك الخصم الذى ينبغي إعادة تشكيله سياسيا وأيديولوجيا. والمسألة لم تأت من فراغ ولا صدفة، فإن الخصومة الحضارية بين الغرب والشرق الإسلامي لهذا جذورها فى العصور الوسطي والعصر الحديث، لقد كانت المجتمعات الإسلامية بوصفها قوة عسكرية والأقرب جغرافيا، بالنسبة للغرب، مصدر قلق حضاري.وهكذا جاء الاستشراق ليثبت التفوق الحضاري الغربي، مركزا على الإسلام، كمجال نقيض حضاريا. وفى هذا السياق، لم يتم النظر إلى الإسلام بوصفه ديانة الأغلبية فى مجتمعات فائقة التنوع، ولكن بوصفه رمزا لجغرافيا حضارية نقيضة ومعادية، وبوصفه عرقا Homo Islamicus.

ومن الواضح أن علاقة الجغرافيا بالثقافة فى التخطيط الاستشراقي لها ذات طبيعة مركبة، فمن ناحية أولي: اتسمت النظرة الغربية القلقة والاختزالية والمتعالية “للعالم الإسلامي” بالطابع الاختزالي، حيث تم إخفاء التنوع الثقافي والعرقي والديني فى المجتمعات الموصوفة بأنها إسلامية، وذلك بالنظر إلى “العالم الإسلامي” كمساحة جغرافية تحوى كتلة بشرية متجانسة لا يظهر منها إلا الدين الإسلامي. ومن ناحية ثانية: مع بداية الألفية، وانقضاء عقدالتسعينيات الذي اتسم بمظاهر الاحتفال بسقوط الأيديولوجيا الاشتراكية، برفع رايات الديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمعات المدنية، حدث تطور مهم وهو: توطين حقوق الإنسان فى معظم بلدان العالم، وتدويل الإسلام لتصبح جغرافيته الأيديولوجية أوسع من حدوده الجغرافية كمجتمعات. وهكذا تم النظر إلى الانتماء للاسلام كنوع من التمدد العرقي فى الجغرافيا الغربية. وسواء تعلق الأمر بتوطين حقوق الإنسان أو عولمة الإسلام، فإن النتيجة هي تنشيط سياسات الهوية، محليا باسم مواجهة الغزو الثقافي الغربي حفاظا على القيم المحلية للمجتمعات “الإسلامية، وبالمقابل، فى الخطاب الغربي، مواجهة الغزو الأيديولوجي الإسلامي دفاعا عن الرسالة الحضارية للغرب فى نشر الديمقراطية والحداثة. وهكذا طفت علي السطح مصطلحات “الإرهاب” و “الإسلاموفوبيا”، وتم صياغة مصطلح “صراع الحضارات” كأيديولوجيا واستراتيجة سياسية للمواجهة الحضارية بين الغرب والإسلام.

لا شك أن حقوق الإنسان، التي زاد بريقها خلال عقد التسعينيات، قد خسرت ما تصورنا أنها ربحته في فترة زمنية وجيزة. ولعل أكثر ما تخسره حقوق الإنسان هو مشروعيتها ومصداقيتها المؤسساتية. فمن ناحية أولي، شكل النظر إلي حقوق الإنسان من منظور الغزو الثقافي أداة لهدم مبدأ عالمية هذه الحقوقومقاومة الاعتراف بها كإطار لحماية الكرامة الإنسانية. وعلى الجانب الغربي، فإن عسكرة المواجهة الحضارية مع “الإسلام” باسم الحرب على الإرهاب كان لها نتائج كارثية علي مقومات عالمية حقوق الإنسان، إن عملية عولمة الحرب والأمن بدت وكأنها تلاحق عولمة حقوق الإنسان وتنال منها. ومع الأسف فإن محاولات تجميل الصورة وتصدير مشهد تصالحي باسم “حوار الحضارات” وحماية “التنوع الثقافي”، لم تكن استراتيجية بريئة، فقد تم توظيفها لخدمة سياسات الهوية ونزع المشروعية عن مبدأ عالمية حقوق الإنسان. ومن ناحية ثانية، وفيما يخص العدالة، فإن هذا المسار المقوض لعالمية حقوق الإنسان، لم يتوقف عند حدود إضعاف مشروعية عالمية الحقوق من الناحية الثقافية، بل كان له تأثيرات خطيرة على أنظمة العدالة محليا ودوليا، بفعل التدابير السياسية والأمنية والقانونية التى أفرزتها أيديولوجيا الحرب على الإرهاب وبفعل تصدير مصطلح “الأمن” كقيمة عليا تعلو علي مبادئ حقوق الإنسان دوليا ومحليا.

وهكذا فإن نزع المشروعية عن مبدأ عالمية حقوق الإنسان جاء نتيجة إسهام جماعي من كل الأطراف فى الشمال والجنوب والشرق والغرب، ما بين رفضها كغزو ثقافي وأخلاقى، وما بين نشرها بالعسكرة العنصرية. وما يحدث الآن فى فى الحرب ضد الشعب الفلسطيني فى غزة، يكشف أوراق اللعبة، فالضعفاء يتوسلون حقوق الإنسان التي لا يؤمنون بعالميتها، والأقوياء يتنكرون لعالمية حقوق الإنسان التي طالما تاجروا بها كعلامة علي تميزهم الحضاري. ولعل ما يغيب عن الأنظار، هو أن فكرة حقوق الإنسان باتت مثل الكوكب الذي نعيش عليها، وهي أشياء لا بديل عن احترامها، لأن كلفة عدم الاحترام باهظة، نراها الآن فى الجرائم ضد الإنسانية كما في كوارث تغير المناخ.

تاريخ الخبر: 2024-02-12 09:21:59
المصدر: وطنى - مصر
التصنيف: غير مصنف
مستوى الصحة: 58%
الأهمية: 68%

آخر الأخبار حول العالم

“غلاء" أضاحي العيد يسائل الحكومة

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-29 12:26:45
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 67%

“غلاء" أضاحي العيد يسائل الحكومة

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-29 12:26:39
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 56%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية