يقول ناشط طوعي شرق العاصمة لـ«التغيير»، إن مواطن الخرطوم بعد الصمود لعام كامل أصبح غير قادر على التحمل أكثر، فالحد الأدنى من مقومات المعيشة الذي يساعد على التشبث بالحياة تبدد
التغيير: منصور الصويم
الحياة في العاصمة الخرطوم على حافة الموت مع طرقات مليئة بالقمامة والأثاث المحطم أثناء عمليات النهب تركها اللصوص دون عناء انتشالها للانتقال لطالما يمكن نهب المزيد من المباني السكنية الخالية من قاطنيها في حي العمارات شرق الخرطوم.
يقول عادل وهو ناشط طوعي شرق العاصمة الخرطوم لـ«التغيير»، إن مواطن الخرطوم بعد الصمود لعام أصبح غير قادر على التحمل أكثر، فالحد الأدنى من مقومات المعيشة الذي يساعد على التشبث بالحياة تبدد، وبات خطر الجوع يهدد الجميع.
من أكثر الوقائع المؤلمة التي عايشها عادل واقعة نزوح معلم من الخرطوم في بداية الحرب ثم عاد بعد ذلك إلى بيته بعد اجتياح الدعم السريع لولاية الجزيرة التي نزح إليها.
قال عادل: “لم يلاحظ أحد من أبناء الحي عودته، كان مريضا بالسكري وأمراض أخرى مستعصية، دخل إلى بيته منهكا ومنهارا من أثر السفر الطويل. تمدد ونام على أقرب سرير وجده أمامه، وبقي هناك مستلقيا وميتا إلى أن اكتشف جثته أبناء الحي بعد أيام، حين جاء أحد أقاربه يبحث عنه”.
وأضاف محزونا: “قتله الجوع والمرض والقهر”.
قبور وسط الأحياء
في أحياء أمدرمان القديمة اضطرت عائلة قبطية في حي المسالمة إلى دفن بعض موتاها الذين فارقوا الحياة خلال الحرب قرب المنزل وجود المقبرتين بالمنزل لم تسمح بعودة بعض أفراد العائلة الذين نزحوا إلى خارج الخرطوم يقولون للأم التي تحثهم كل مرة على العودة “كيف نعود والمنزل تحول إلى مقبرة؟”.
شقيقة المتوفيتين، أطلقت قبل أيام مناشدة عبر منصة القوات المسلحة بتويتر، طالبت فيها الصليب الأحمر بمساعدتها لنقل الجثمانين إلى المقبرة، وأشارت إلى أن كثيرا من منازل أمدرمان القديمة تحوي قبورا لأموات توفوا نتيجة للجوع وانعدام الأدوية المنقذة للحياة.
ظلت مناطق أحياء أمدرمان القديمة، ومنها حي المسالمة، رهينة قوات الدعم السريع لنحو العام، واجه خلاله السكان أقسى ظروف الحرب وحصارها، منعوا خلاله من تشييع موتاهم ودفنهم أو اعلان الحداد عليهم.
مشرف المدافن الشهير بمقابر منطقة أمدرمان، عابدين درمة، شرع مع مجموعة من المتطوعين، في توسعة مدافن أمدرمان بعد أن امتلئت المقابر القديمة بالموتى، ولم يعد فيها موقع لاحتمال راحل جديد.
قال عابدين درمة – في تصريحات إعلامية- إنه تم تجهيز مساحة خالية في الجزء الشمالي من مقابر أحمد شرفي وموقع للصلاة ومصدر المياه بجانب المساحات الخالية بمقابر البكري.
عبدالرحمن سيدأحمد، أحد مواطني كرري، ويعمل بسوق أمدرمان، قال لـ «التغيير»، إنه أصيب بالصدمة حين حاول الوصول إلى السوق وتفقد دكانته بعد تحرير المنطقة من قوات الدعم السريع وسيطرة الجيش عليها. قال عبدالرحمن: “كنت أعي حجم الخراب الذي عم المكان، مثله مثل بقية الأمكنة في الخرطوم، لكن ما صدمني وأخافني حقا هو عدد الجثث التي صادفتني أثناء تجولي في أنحاء السوق والشوارع المحيطة”. وأضاف بعد لحظة صمت قصيرة: “شيء محزن، لقد متنا جميعا، عساكر ومواطنين وحتى القطط التي كان تسكن أزقة السوق”.
وكانت ولاية الخرطوم أعلنت استئناف دفن الموتى في مقابر أحمد شرفي والبكري في أعقاب عودة الأمن للمنطقة.
ندرة المياه
“أعادت الحرب سكان الخرطوم إلى القرن ما قبل الماضي”. هذا كان تعليق أمير خليفة، من منطقة شرق النيل، التي يواجه سكانها مشكلة معقدة مع المياه، بعدما خربت الحرب مصادر المياه المعروفة. إذ تحتم على مواطني هذه المنطقة العودة إلى “ورود” المياه من الآبار القديمة، في خطوة تبدو خطيرة صحيا على كل من يعتمد “مياه الآبار” في ظروف بيئية متردية جدا بسبب الحرب.
أمير قال لـ «التغيير»: هذا ليس كل شيء، نعم المياه هي أصعب ما نواجه الآن، لكن الحياة بصورة عامة أصبحت لا تطاق ويستحيل احتمالها. فالأوبئة مثل حمى الضنك، والكوليرا، وسوء التغذية، كلها تحاصرنا.. إنه وضع أليم وإن لم يقتلك عاجلا فحتما سيقضي عليك آجلا.
فشل كلوي
آلاف المرضى في العاصمة السودانية لا يعلمون مصيرهم في ظل انعدام الدواء وطوابير أمام الصيدليات، كما فقد مرضى غسيل الكلى الوحدات الصحية التي كانت تقوم بتوفير الغسيل أسبوعيا.
الطبيب دكتور عبد الباسط البشير، روى قصة مؤلمة جرت له مع طفلة من مصابي الفشل الكلوي. وقال البشير – في رسالة متداولة – أن سؤالا وجهته له هذه الطفلة أوجعه كثيرا حين قابلته في مستشفى البلك، بعدما كانت تتابع معه في السابق بمستشفى أمدرمان، إذ سألته مبتسمة رغم الألم: “انت قاعد لسه!!! ما سافرت خليتونا؟”.
أبكت كلمات الطفلة د. البشير، وقال: ” كم كانت وما زالت هذه الكلمات مؤلمة عندما تخرج من طفلة بريئة.. إنها أشد إيلاما من وخز السنان”.
إحصائيات سابقة لوزارة الصحة السودانية ذكرت أن مراكز غسيل الكلى والوحدات المتخصصة بالمستشفيات التي كانت تعمل خلال الثلاثة أشهر الأولى الحرب بعد كانت تقدر بـ(23) مركزا من مجموع 105 مركزا بالبلاد، علما بأن عدد المرضى في السودان يبلغ 8 آلاف مريض.
وبعد مرور عام على اندلاع الحرب يتوقع أن يكون عدد المراكز التي توقفت عن إسعاف المرضى قد بلغ أضعاف أضعاف الرقم المذكور في الفترة الأولى للحرب.
حمى الضنك
أعلنت غرفة طوارئ بحري عن رصد 470 إصابة بحمى الضنك، وسط وجنوب بحري، و(26) حالة اشتباه في الشعبية حي الصديق، و (10) حالات بحي الشعلة، و(4) حالات في حي الهدف و(3) حالات في جنوب بحري.
قال طبيب من مستشفى التميز الذي يشرف عليه الدعم السريع لسيطرتها على جنوب العاصمة السودانية لـ «التغيير» إن الأدوية غير منتظمة في الوصول إلى لأن الوضع الأمني متقلب ولا توجد ممرات آمنة لشحنات الأدوية حتى المنظمات لا تستطيع ايصال الأدوية دون حدوث نقاشات طويلة مع الجيش والدعم السريع وفي الغالب تستغرق عملية التنسيق وقتا طويلا بعض المرضى يفارقون الحياة قبل وصولها”.
كل شيء خارج الخدمة الآن في ولاية الخرطوم. توقفت مصانع الأدوية بنسبة تقارب المئة بالمئة. توقفت وتدمرت أغلب المستشفيات والمراكز الطبية. غابت الكهرباء وشحت المياه. قطعت الاتصالات وضن الإنترنت حتى بمراسلة الأحباب للاطمئنان.. كل شيء غاب وانتهى ولم يتبق إلا الكلاب المسعورة تنتشر في الشوارع وتنهش جثث القتلى المنسية.
