أبو الطيب المتنبي

عودة للموسوعة

أبوالطيّب المتنبي (303هـ - 354هـ) (915م - 965م) هوأحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد الجعفي أبوالطيب الكندي الكوفي المولد، نسب إلى قبيلة كندة نتيجة لولادته بحي تلك القبيلة في الكوفة لا لأنه منهم. عاش أفضل أيام حياته وأكثرها عطاء في بلاط سيف الدولة الحمداني في حلب وكان من أعظم شعراء العربية، وأكثرهم تمكناً من اللغة العربية وأفهمهم بقواعدها ومفرداتها، وله مكانة سامية لم تُتح مثلها لغيره من شعراء العربية. فيوصف بأنه نادرة زمانه، وأعجوبة عصره، وظل شعره إلى اليوم مصدر إلهام ووحي للشعراء والأدباء. وهوشاعر حكيم، وأحد مفاخر الأدب العربي. وتدور معظم قصائده حول مدح الملوك. ولقد نطق الشعر صبياً، فنظم أول أشعاره وعمرهتسعة سنوات، واشتُهِرَ بحدة الذكاء واجتهاده وظهرت موهبته الشعرية مبكراً.

وكان المتنبي صاحب كبرياء وشجاعة وطموح ومحب للمغامرات، وكان في شعره يعتز بعروبته، ويفتخر بنفسه، وأفضل شعره في الحكمة وفلسفة الحياة ووصف المعارك، إذ اتى بصياغة قوية محكمة. وكان شاعرا مبنادى عملاقا غزير الإنتاج يعد بحق مفخرة للأدب العربي، فهوصاحب الأمثال السائرة والحكم البالغة والمعاني المبتكرة. عثر الطريق أمامه أثناء تنقله مهيئاً لموهبته الشعرية الفائقة لدى الأمراء والحكام، إذا تدور معظم قصائده حول مدحهم. لكن شعره لا يقوم على التكلف والصنعة، لتفجر أحاسيسه وامتلاكه ناصية اللغة والبيان، مما أضفى عليه لوناً من الجمال والعذوبة. هجر تراثاً عظيماً من الشعر القوي الواضح، يضم 326 قصيدة، تمثل عنواناً لسيرة حياته، صور فيها الحياة في القرن الرابع الهجري أوضح تصوير، ويستدل منها كيف من الممكن أن جرت الحكمة على لسانه، لاسيما في قصائده الأخيرة التي بدا فيها وكأنه يودع الدنيا عندما نطق: أبلى الهوى بدني.

شهدت الفترة التي نشأ فيها أبوالطيب تفكك الدولة العباسية وتناثر الدويلات الإسلامية التي قامت على أنقاضها. فقد كانت فترة نضج حضاري وتصدع سياسي وتوتر وصراع عاشها العرب والمسلمون. فالخلافة في بغداد انحسرت هيبتها والسلطان العملي في أيدي الوزراء وقادة الجيش ومعظمهم من غير العرب. ثم ظهرت الدويلات والإمارات المتصارعة في بلاد الشام، وتعرضت الحدود لغزوات الروم والصراع المستمر على الثغور الإسلامية، ثم ظهرت الحركات الدموية في العراق كحركة القرامطة وهجماتهم على الكوفة. لقد كان لكل وزير ولكل أمير في الكيانات السياسية المتنافسة مجلس يجمع فيه الشعراء والفهماء يتخذ منهم وسيلة نادىية وتفاخر ووسيلة صلة بينه وبين الحكام والمجتمع، فمن انتظم في هذا المجلس أوذاك من الشعراء أوالفهماء يعني اتفق وإياهم على إكبار هذا الأمير الذي يدير هذا المجلس وذاك الوزير الذي يشرف على ذاك. والشاعر الذي يختلف مع الوزير في بغداد مثلاً يرتحل إلى غيره فإذا كان شاعراً معروفاً استقبله المقصود الجديد، وأكبره لينافس به خصمه أوليفخر بصوته. في هذا العالم المضطرب كانت نشأة أبي الطيب، وعى بذكائه الفطري وطاقته المتفتحة حقيقة ما يجري حوله، فأخذ بأسباب الثقافة مستغلاً شغفه في القراءة والحفظ، فكان له شأن في مستقبل الأيام أثمر عن عبقرية في الشعر العربي. كان في هذه الفترة يبحث عن شيء يلح عليه في ذهنه، أعرب عنه في شعره تلميحاً وتصريحاً حتى أشفق عليه بعض أصدقائه وحذره من مغبة أمره، حذره أبوعبد الله معاذ بن إسماعيل في دهوك فلم يستمع له وإنما أجابه ً: أبا عبد الإله معاذ أني. إلى حتى انتهى به الأمر إلى السجن.

المتنبي وسيف الدولة الحمداني

تمثال المتنبي الأول ويقع أمام دار الخط

ظل باحثاً عن أرضه وفارسه غير مستقر عند أمير ولا في مدينة حتى حط رحاله في أنطاكية حيث أبوالعشائر ابن عم سيف الدولة سنة 336 هـ، واتصل بسيف الدولة ابن حمدان، أمير وصاحب حلب، سنة 337 هـ وكانا في سن متقاربة، فوفد عليه المتنبي وعرض عليه حتى يمدحه بشعره على ألا يقف بين يديه لينشد قصيدته كما كان يعمل الشعراء فأجاز له سيف الدولة حتى يعمل هذا وأصبح المتنبي من شعراء بلاط سيف الدولة في حلب، وأجازه سيف الدولة على قصائده بالجوائز الكثيرة وقربه إليه فكان من أخلص خلصائه وكان بينهما مودة واحترام، وخاض معه المعارك ضد الروم، وتعد سيفياته أصفى شعره. غير حتى المتنبي حافظ على عادته في إفراد الجزء الأكبر من قصيدته لنفسه وتقديمه إياها على ممدوحه، فكان حتى حدثت بينه وبين سيف الدولة فجوة وسعها كارهوه وكانوا كثراً في بلاط سيف الدولة.

ازداد أبوالطيب اندفاعاً وكبرياء واستطاع في حضرة سيف الدولة في حلب حتى يلتقط أنفاسه، وظن أنه وصل إلى شاطئه الأخضر، وعاش مكرماً مميزاً عن غيره من الشعراء في حلب. وهولا يرى إلا أنه نال بعض حقه، ومن حوله يظنون أنه حصل على أكثر من حقه. وظل يحس بالظمأ إلى الحياة، إلى المجد الذي لا يستطيع هونفسه حتى يتصور حدوده، إلا أنه مطمئن إلى إمارة حلب العربية الذي يعيش في ظلها وإلى أمير عربي يشاركه طموحه وإحساسه. وسيف الدولة يحس بطموحه العظيم، وقد ألف هذا الطموح وهذا الكبرياء منذ حتى طلب منه حتى يلقي شعره قاعداً وكان الشعراء يلقون أشعارهم واقفين بين يدي الأمير، واحتمل أيضاً هذا التمجيد لنفسه ووضعها أحياناً بصف الممدوح إذا لم يحملها عليه. ولربما احتمل على مضض تصرفاته العفوية، إذ لم يكن يحسن مداراة مجالس الملوك والأمراء، فكانت طبيعته على سجيتها في كثير من الأحيان.

وفي المواقف القليلة التي كان المتنبي مضطرا لمراعاة الجوالمحيط به، فقد كان يتطرق إلى مدح آباء سيف الدولة في عدد من القصائد، ومنها السالفة الذكر، لكن ذلك لم يكن إعجابا بالأيام الخوالي وإنما وسيلة للوصول إلى ممدوحه، إذ لا يمكن فصل الفروع عن جذع الشجرة وأصولها كقوله:


من تغلب الغالبين الناس منصبه ومن عدّي أعادي الجبن والبخل


خيبة الأمل وجرح الكبرياء

أحس بأن صديقه بدأ يتغير عليه، وكانت الهمسات تنقل إليه عن سيف الدولة بأنه غير راض عنه، وتنقل إلى سيف الدولة بأشياء لا ترضي الأمير. وبدأت المسافة تتسع بين الشاعر والأمير، ولربما كان هذا الاتساع مصطنعاً إلا أنه اتخذ صورة في ذهن جميع منهما. وظهرت منه مواقف حادة مع حاشية الأمير، وأخذت الشكوى تصل إلى سيف الدولة منه حتى بدأ يشعر بأن فردوسه الذي لاح لهُ بريقه عند سيف الدولة لم يحقق السعادة التي نشدها. وأصابته خيبة الأمل لاعتداء ابن خالويه عليه بحضور سيف الدولة حيث رمى دواة الحبر على المتنبي في بلاط سيف الدولة، فلم ينتصف له سيف الدولة، ولم يثأر له الأمير، وأحس بجرح لكرامته، لم يستطع حتى يحتمل، فعزم على مغادرته، ولم يستطع حتى يجرح كبرياءه بتراجعه، وإنما أراد حتى يمضي بعزمه. فكانت مواقف العتاب الصريح والفراق، وكان آخر ما أنشده إياه ميميته في سنة 345 هـ ومنها : (لا تطلبن كريماً بعد رؤيته). بعد تسع سنوات ونصف في بلاط سيف الدولة جفاه الأمير وزادت جفوته له بفضل كارهي المتنبي ولأسباب غير معروفة نطق البعض أنها تتعلق بحب المتنبي المزعوم لخولة شقيقة سيف الدولة التي رثاها المتنبي في قصيدة ذكر فيها حسن مبسمها، وكان هذا مما لا يليق عند رثاء بنات الملوك، وانكسرت العلاقة الوثيقة التي كانت تربط سيف الدولة بالمتنبي.

فارق أبوالطيب سيف الدولة وهوغير كاره له، وإنما كره الجوالذي ملأه حساده ومنافسوه من حاشية الأمير. فأوغروا قلب الأمير، فجعل الشاعر يحس بأن هوة بينه وبين صديقه يملؤها الحسد والكيد، وجعله يشعر بأنه لوأقام هنا فلربما تعرض للموت أوتعرضت كبرياؤه للضيم، فغادر حلب، وهويكن لأميرها الحب، لذا كان قد عاتبه وبقي يذكره بالعتاب، ولم يقف منه موقف الساخط المعادي، وبقيت الصلة بينهما بالرسائل التي تبادلاها حين عاد أبوالطيب إلى الكوفة وبعد ترحاله في بلاد عديدة بقي سيف الدولة في خاطر ووجدان المتنبي.

ثم مدح كافوراً الإخشيدي وأبا شجاع، وأقام في مصر ردحاً من الزمن يرقب الفرصة من كافور فيصعد المجد على كاهله، فمما نطق فيه:

أباالمِسْكِ هل في الكأسِ فَضْلٌ أنالُه فإنّي أُغَنّي منذُ حينٍ وَتَشرَبُ
وَهَـبْتَ على مِـقدارِ كَـفّيْ زَمَانِنَا وَنَفسِي على مِقدارِ كَفّيكَ تطلُبُ
إذا لم تَنُـطْ بي ضَـيْعَةً أوْ وِلايَةً فَجُودُكَ يَكسُوني وَشُغلُكَ يسلبُ
يُـضاحِـكُ في ذا العِيدِ كُلٌّ حَبيبَهُ حِذائي وَأبكي مَنْ أُحِبّ وَأنْدُبُ
أحِنُّ إلـى أهْـلي وَأهْوَى لِـقَاءَهُمْ وَأينَ مِنَ المُشْتَاقِ عَنقاءُ مُغرِبُ
فإنْ لم يكُنْ إلاّ أبُوالمِسكِ أوْ هُمُ فإنّكَ أحلى في فُؤادي وَأعْذَبُ
وكلُّ امـرىءٍ يـولي الجَميلَ مُحَبَّبٌ وَكُلُّ مَكانٍ يُنْبِتُ العِزَّ طَيّبُ
يُريـدُ بـكَ الحُـسّـادُ ما الله دافِعٌ وَسُمْرُ العَوَالي وَالحَديدُ المُذرَّبُ
وَدونَ الذي يَبْغُونَ ما لوْ تخَلّصُوا إلى المَوْتِ منه عشتَ وَالطّفلُ أشيبُ
إذا طَلَبوا جَدواكَ أُعطوا وَحُكِّموا وَإن طلَبوا الفضْلَ الذي فيك خُيِّبوا
وَلَوْ جازَ حتى يحوُوا عُـلاكَ وَهَبْتَهَا وَلكِنْ منَ الأمورِ ما ليسَ يوهَبُ
وَأظلَمُ أهلِ الظّلمِ مَن باتَ حاسِداً لمَنْ بَاتَ في نَعْمائِهِ يَتَقَلّبُ
وَأنتَ الذي رَبّيْتَ ذا المُلْكِ مُرْضَعاً وَلَيسَ لَهُ أُمٌّ سِواكَ وَلا أبُ
وَكنتَ لَهُ لَيْـثَ العَـرِينِ لشِـبْلِـهِ وَمَا لكَ إلاّ الهِنْدُوَانيّ مِخْلَبُ
لَقِيـتَ القَنَا عَـنْهُ بنَفْسٍ كريمَـةٍ إلى الموْتِ في الهَيجا من العارِ تهرُبُ
وَقد يترُكُ النّفـسَ التي لا تَهابُهُ وَيَخْتَرِمُ النّفسَ التي تَتَهَيّبُ
وَمَا عَـدِمَ اللاقُـوكَ بَأسـاً وَشِـدّةً وَلَكِنّ مَنْ لاقَوْا أشَدُّ وَأنجَبُ
ثنَأهم وَبَرْقُ البِيضِ في البَيض صَادقٌ عليهم وَبَرْقُ البَيض في البِيض خُلَّبُ
سَلَـلْـتَ سُيـوفاً عَلّمـتْ كلَّ خاطِـبٍ على كلّ عُودٍ كيفَ يدعووَيخطُبُ

ونطق:


وهل نافعي حتى تحمل الحجب بيننا ودون الذي أملت منك حجاب
وفي النفس حاجات وفيك فطانة سكوتي بيان عندها وجواب

حتى أوجس كافور منه خيفة، لتعاليه في شعرهِ وطموحهِ إلى الملك، فزوى عنه وجهه، فهجاه وقصد بغداد، وكان خروجه من مصر في يوم عيد، ونطق يومها قصيدته الشهيرة التي ضمنها ما بنفسه من مرارة على كافور وحاشيته، والتي كان مطلعها:


عيد بأية حال عدت يا عيد بما مضى أم لأمر فيك تجديد
أما الأحبة فالبيداء دونهم فليت دونك بيدا دونها بيد

وفي القصيدة هجوم شرس على كافور وأهل مصر بما عثر منهم من إهانة لهُ وحط منزلته وطعن في شخصيته، ثم إنه بعد مغادرته لمصر نطق قصيدةً يصف بها المنازل التي في طريقه وكيف أنه أقام ببتر القفار والأودية المهجورة التي لم يسلكها أحد، وفي مطلعها يصف ناقته:


ألا جميع ماشية الخيزلى فدى جميع ماشية الهيذبى
وكل نجاة بجاوية خنوف وما بي حسن السار
ضربت بها التيه ضرب القما فإما لهذا وإما لذا
إذا فزعت قدمتها الجياد وبيض السيوف وسمر القنا

وفيها يصف المنازل في طريقه:

وجابت بُسيطة جوب الرَّداء بين النَّعَام وبين المها
إلى عُقدة الجوف حتى شَفَت بماء الجُرَاوِيّ بعض الصدا
ولاحَ لها صورٌ والصَّبَاح ولاحَ الشَّغور لها والضَّحَا

وهي قصيدة يميل فيها المتنبي إلى حد ما إلى الغرابة في الألفاظ ولعله يرمي بها إلى مساواتها بطريقه. وذكر في قصائده بعض المدن والمواضع الواقعة ضمن الحدود الإدارية لدُومة الجندل، والتي منها:


حَتّامَ نحنُ نُساري النّجمَ في الظُّلَمِ ومَا سُرَاهُ على خُفٍّ وَلا قَدَمِ
وَلا يُحِسّ بأجْفانٍ يُحِسّ بهَا فقْدَ الرّقادِ غَريبٌ باتَ لم يَنَمِ
تُسَوِّدُ الشّمسُ منّا بيضَ أوْجُهِنَا ولا تُسَوِّدُ بِيضَ العُذرِ وَاللِّمَمِ
وَكانَ حالهُمَا في الحُكْمِ وَاحِدَةً لوِ احتَكَمْنَا منَ الدّنْيا إلى حكَمِ
وَنَترُكُ المَاءَ لا يَنْفَكّ من سَفَرٍ ما سارَ في الغَيمِ منهُ سارَ في الأدَمِ
لا أُبْغِضُ العِيسَ لكِني وَقَيْتُ بهَا قلبي من الحزْنِ أوْ جسمي من السّقمِ
طَرَدتُ من مصرَ أيديهَا بأرْجُلِهَا حتى مَرَقْنَ بهَا من جَوْشَ وَالعَلَمِ
تَبرِي لَهُنّ نَعَامُ الدّوّ مُسْرَجَةً تعارِضُ الجُدُلَ المُرْخاةَ باللُّجُمِ


ولمّا وصل إلى بسيطة، رأى بعض غلمانه ثورًا فنطق : هذه منارة الجامع ورأى آخر نعامة برية فنطق: هذه نخلة، فضحك أبوالطيب ونطق:


بُسيطة مهلاً سُقيت القطارا هجرت عيون عبيدي حيارا
فظنوا النعام عليك النخيل وظنوا الصوار عليك المنارا
فأمسك صحبي بأكوارهم وقد قصد الضحك فيهم وجارا

ومما نطقه في مصر ولم ينشدها الأسود ولم يذكره فيها، وفيها يشكومعاناته من الزمن:


صَحِبَ النّاسُ قبلَنا ذا الزمانا وعَناهُم من شأنِه ما عنانـا
وتولّوا بغصّةٍ كلّهم منْه وإن سـرّ بعضـَهم أحيــانـا
رُبما تُحسِنُ الصّنيع لَيَالِيـ ـهِ ولكِن تكدّرُ الإحْسَانا
وكأنّا لم يرض فينا بريب الـ دّهر حتى اعانَه من اعانـا
كلّما انبتَ الزمان قناةً ركّبَ المرءُ في القناةِ سِنَانـا
ومرادُ النفوسِ اصغر من أن نتـعـادى فيه وأن نتـفـانـى
غيرَ أنّ الفتى يلاقي المنــــايـــا كالـــحاتٍ ولا يـلاقي الهوانا
ولوأنّ الحياةَ تظل لحي لــعددنا أضـّـلّـنا الشجــعانــا
وإذا لم يكن من المــوتِ بدٌّ فمن العجزِ حتى تكون جبانا
كل مالم يكن من الصعب في الأنـــ ــفس سهل فيها إذا هوكانا

لم يكن سيف الدولة وكافور هما من اللذان مدحهما المتنبي فقط، فقد قصد أمراء بلاد الشام والعراق وفارس. وبعد عودته إلى الكوفة، زار بلاد فارس، فمر بأرجان، ومدح فيها ابن العميد، وكانت لهُ معه مساجلات، ومدح عضد الدولة ابن بويه الديلمي في شيراز وذلك بعد فراره من مصر إلى الكوفة ليلة عيد النحر سنة 350هـ.

شعره وخصائصه الفنية

شعر المتنبي كان صورة صادقة لعصره، وحياته، فهويحدث عما كان في عصره من ثورات واضطرابات، ويدل على ما كان به من مذاهب وآراء، ونضج الفهم والفلسفة. كما يمثل شعره حياته المضطربة: فذكر فيه طموحه وفهمه، وعقله وشجاعته، وسخطه ورضاه، وحرصه على المال، كما تجلت القوة في معانيه وأخيلته، وألفاظه وعباراته. وقد تميز خياله بالقوة والخصابة فكانت ألفاظه جزلة، وعباراته رصينة تلائم قوة روحه، وقوة معانيه، وخصب أخيلته، وهوينطلق في عباراته انطلاقاً ولا يعنى فيها كثيراً بالمحسنات والصناعة. ويقول الشاعر العراقي فالح الحجية في كتابه في الأدب والفن حتى المتنبي يعتبر وبحق شاعر العرب الأكبر عبر العصور.

أغراضه الشعرية

المدح الإخشيدي، وقصائده في سيف الدولة تبلغ ثلث شعره أوأكثر، وقد استكبر عن مدح كثير من الولاة والقادة حتى في حداثته. ومن قصائده في مدح سيف الدولة:


وقفت وما في الموت شكٌّ لواقف كأنك في جفن الرَّدى وهونائم
تمر بك الأبطال كَلْمَى هزيمـةً ووجهك وضاحٌ، وثغرُكَ باسم
تجاوزت مقدار الشجاعة والنهى إلى قول قومٍ أنت بالغيب عالم

وكان مطلع القصيدة:


عَـلَى قَـدرِ أَهـلِ العَـزمِ تَأتِي العَزائِمُ وتَــأتِي عَـلَى قَـدرِ الكِـرامِ المَكـارِم
وتَعظُـم فـي عَيـنِ الصّغِـيرِ صِغارُها وتَصغُـر فـي عَيـنِ العَظِيـمِ العَظـائِمُ

الوصف

أجاد المتنبي وصف المعارك والحروب البارزة التي دارت في عصره وخاصة في حضرة وبلاط سيف الدولة، فكان شعره يعتبر سجلاً تاريخياً. كما أنه وصف الطبيعة وأخلاق الناس ونوازعهم النفسية، كما صور نفسه وطموحه. وقد نطق يصف شِعب بوَّان، وهومنتزه بالقرب من شيراز :


مَغَاني الشِّعْبِ طِيباً في المَغَاني بمَنْزِلَةِ الرّبيعِ منَ الزّمَانِ
وَلَكِنّ الفَتى العَرَبيّ فِيهَا غَرِيبُ الوَجْهِ وَاليَدِ وَاللّسَانِ
مَلاعِبُ جِنّةٍ لَوْ سَارَ فِيهَا سُلَيْمَانٌ لَسَارَ بتَرْجُمَانِ
طَبَتْ فُرْسَانَنَا وَالخَيلَ حتى خَشِيتُ وَإنْ كَرُمنَ من الحِرَانِ
غَدَوْنَا تَنْفُضُ الأغْصَانُ فيهَا على أعْرافِهَا مِثْلَ الجُمَانِ
فسِرْتُ وَقَدْ حَجَبنَ الحَرّ عني وَجِئْنَ منَ الضّيَاءِ بمَا كَفَاني
وَألْقَى الشّرْقُ مِنْهَا في ثِيَابي دَنَانِيراً تَفِرّ مِنَ البَنَانِ
لها ثمر تشـير إليك منـه بأَشربـةٍ وقفن بـلا أوان
وأمواهٌ يصِلُّ بها حصاهـا صليل الحَلى في أيدي الغواني
إذا غنى الحمام الوُرْقُ فيها أجابتـه أغـانيُّ القيـان

ونطق يعاتب سيف الدولة ويفخر بنفسه وشعره:


أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت حدثاتي من به صمم
أنام ملء جفوني عن شواردها ويسهر الخلق جراها ويختصم
وجاهل مده في جهله ضحكي حتى أتته يد فراسة وفم
إذا رأيت نيوب الليث بارزة فلا تظنن حتى الليث يبتسم
ومهجة مهجتي من هم صاحبها أدركته بجواد ظهره حرم
رجلاه في الركض رجل واليدان يد وعمله ماتريد الكف والقدم
ومرهف سرت بين الجحفلين به حتى ضربت وموج الموت يلتطم
الخيل والليل والبيداء تعهدني والسيف والرمح والقرطاس والقلم

الهاتى

لم يكثر الشاعر من الهاتى. وكان في هجائه يأتي بحكم يجعلها قواعد عامة، تخضع لمبدأ أوخلق، وكثيراً ما يلجأ إلى التهكم، أواستعمال ألقاب تحمل في موسيقاها معناها، وتشيع حولها جوالسخرية بمجرد اللفظ بها، كما حتى السخط يدفعه إلى الهاتى اللاذع في بعض الأحيان. ونطق يهجوطائفة من الشعراء الذين كانوا ينفون عليه مكانته:


أفي جميع يوم تحت ضِبني شُوَيْعرٌ ضعيف يقاويني، قصير يطاول
لساني بنطقي صامت عنه عادل وقلبي بصمتي ضاحكُ منه هازل
وأَتْعَبُ مَن ناداك من لا تُجيبه وأَغيظُ مَن عاداك مَن لا تُشاكل
وما التِّيهُ طِبِّى فيهم، غير أنني بغيـضٌ إِلىَّ الجاهـل المتعاقِـل

ومن قوله في هاتى كافور:


من أية الطرق يأتي مثلك الكرم أين المحاجم ياكافور والجلم
جازا الأولى ملكت كفاك قدرهم فعهدوا بك حتى الكلب فوقهم
سادات جميع أناس من نفوسهم وسادة المسلمين الأعبد القزم
أغاية الدين حتى تحفوا شواربكم يا أمة ضحكت من جهلها الأمم
ألا فتى يورد الهندي هامته كيما تزول شكوك الناس والتهم
فإنه حجة يؤذي القلوب بها من دينه الدهر والتعطيل والقدم
ما أقدر الله حتى يخزي خليقته ولا يصدق قوما في الذي زعموا

بيد حتى أبرز ما أتى به المتنبي على مستوى الهاتى كان القصيدة الشهيرة التي خطها بعد فراره من مصر حيث استبقاه كافور الإخشيدي فيها قسرًا. وتعتبر قصيدة هاتى كافور من أكثر قصائد الهاتى قسوة. ومما اتى فيها:


يا ساقيي أخمـر فـي كؤوسكمـا أم فـي كؤوسكمـا هـم وتسهيـد
أصخرة أنـا مالـي لا تحركنـي هذي المدام ولا هـذي الأغاريـد
إذا أردت كميـت اللـون صافيـة وجدتها وحبيـب النفـس مفقـود
ماذا لقيـت مـن الدنيـا وأعجبـه أني بما أنـا شاكٍ منـه محسـود
إني نزلت بكذابين ضيفهم عن القرى وعن الترحال محدود
جود الرجال من الأيدي وجودهم من اللسان فلا كانوا ولا الجود
ما يقبض الموت نفسا من نفوسهـم إلا وفي يـده مـن نتنهـا عـود
أحدثا اغتال عبـد السـوء سيـده أوخانه فله فـي مصـر تمهيـد
صار الخصي إمام الآبقين بها فالحر مستعبد والعبد معبود
نامت نواطير مصر عن ثعالبها فقد بشمن وما تفنى العناقيد
العبد ليـس لحـر صالـح بـأخ لوأنه فـي ثيـاب الحـر مولـود
لا تشتر العبد إلا والعصـا معـه إن العبيـد لأنـجـاس مناكـيـد
ما كنت أحسبني أحيا الـى زمـن يسيء بي فيه عبد وهـومحمـود
ولا توهمت حتى الناس قد فقدوا وأن مثل أبي البيضاء موجود
وأن ذا الأسود المثقـوب مشفـره تطيعه ذي العضاريـط الرعاديـد
جوعان يأكل من زادي ويمسكنـي لكي ينطق عظيـم القـدر مقصـود
وَيْلُمِّها خُطّةً ويْلُمِّ قابِلها لمثْلها خلق المهْرِيّةُ القود
وَعِنْدها لذّ طعْم الموْت شاربه إنّ المنيّة عنْد الذّلّ قنْديد
من فهم الأسود المخصيَّ مكرمـة أقومه البيـض أم آباؤه الصيـد
أم أذنه فـي يـد النخـاس داميـة أم قدره وهـوبالفلسيـن مـردود
أولى اللئام كويفيرٌ بمعذرة في جميع لؤم، وبعض العذر تفنيد
وذاك حتى الفحول البيض عاجزة عن الجميل، فكيف الخصية السود؟؟

كما ينسب له هذا البيت في وصف أكثر أهل الأرض في الذل.

وأوغلُ أهل الأرضُ في الذلِ أمةٌ تضامُ ومنها لمن ضام جندُ


الحكمة

اشتهر المتنبي بالحكمة ومضى كثير من أقواله مجرى الأمثال لأنه يتصل بالنفس الإنسانية، ويردد نوازعها وآلامها. ومن حكمه ونظراته في الحياة:


إذا غامَرْتَ في شَرَفٍ مَرُومِ فَلا تَقنَعْ بما دونَ النّجومِ
فطَعْمُ المَوْتِ في أمْرٍ حَقِيرٍ كطَعْمِ المَوْتِ في أمْرٍ عَظيمِ
يرَى الجُبَناءُ أنّ العَجزَ عَقْلٌ وتِلكَ خَديعَةُ الطّبعِ اللّئيمِ
وكمْ من عائِبٍ قوْلاً صَحيحاً وآفَتُهُ مِنَ الفَهْمِ السّقيمِ
ولكِنْ تأخُذُ الآذانُ مِنْهُ على قَدَرِ القَرائحِ والعُلُومِ

كذلك يقول:


خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به في طلعة البدر ما يغنيك عن زحل
والهجر أقتل لي مما اراقبه أنا الغريق فما خوفي من البلل

مقتله

التمثال الثاني للمتنبي في شارع المتنبي ببغداد

كان المتنبي قد هجا ضبة بن يزيد الأسدي العيني بقصيدة شديدة الهاتى شنيعة الألفاظ وتحتوي على الكثير من الطعن في الشرف مطلعها:


مَا أنصَفَ القَومُ ضبّه وَأمهُ الطرْطبّه
وإنّما قلتُ ما قُلـ ـتُ رَحمَة لا مَحَبه

فلما كان المتنبي عائدًا إلى الكوفة، وكان في جماعة منهم ابنه محمد وغلامه مفلح، لقيه فاتك بن أبي جهل الأسدي، وهوخال ضبّة بن يزيد العوني الذي هجاه المتنبي، وكان في جماعة أيضًا. فتقاتل الفريقان وقُتل المتنبي وابنه محمد وغلامه مفلح بالنعمانية بالقرب من دير العاقول غربيّ بغداد.

سيرة قتله أنه لما ظفر به فاتك أراد الهرب فنطق له غلامه : أتهرب وأنت القائل :


الخيل والليل والبيداء تعهدني والسيف والرمح والقرطاس والقلم

فرد عليه بقوله: قتلتني قتلك الله.

انظر أيضًا

  • قائمة شعراء العربية.
  • قائمة شعراء العراق.

المراجع

  1. ^ http://data.bnf.fr/ark:/12148/cb11997608t — تاريخ الاطلاع:عشرة أكتوبر 2015 — الرخصة: رخصة حرة
  2. ^ المتنبي نسخة محفوظة 29 أغسطس 2017 على مسقط واي باك مشين.
  3. ^ البحوث | الموسوعة العربية نسخة محفوظة 23 أغسطس 2017 على مسقط واي باك مشين.
  4. ^ البحوث | الموسوعة العربية نسخة محفوظة 23 أغسطس 2017 على مسقط واي باك مشين.
  5. ^ ديوان المتنبي - الديوان نسخة محفوظة 23 أغسطس 2017 على مسقط واي باك مشين.
  6. ^ أدب .. المتنبي : أغالب فيك الشوق والشوق أغلب نسخة محفوظةعشرة سبتمبر 2017 على مسقط واي باك مشين.

وصلات خارجية

  • ديوان المتنبي : مسقط بوابة الشعراء
  • ديوان المتنبي : مسقط أدب
  • صفحة المتنبي على مسقط أبجد
  • صفحة اقتباسات المتنبي على مسقط أبجد
تاريخ النشر: 2020-06-01 18:07:03
التصنيفات: وفيات في بغداد, أشخاص من الكوفة, سيف الدولة الحمداني, شعراء بالعربية في القرن 10, شعراء عراقيون في القرن 10, عرب في القرن 10, قبيلة كندة, قرامطة, مواليد 303 هـ, مواليد 915, مواليد في الكوفة, وفيات 354 هـ, وفيات 965, صفحات بها بيانات ويكي بيانات, قالب أرشيف الإنترنت بوصلات واي باك, صفحات تستخدم خاصية P18, صفحات تستخدم خاصية P20, صفحات تستخدم خاصية P106, صفحات تستخدم خاصية P103, صفحات بها مراجع ويكي بيانات, صفحات تستخدم خاصية P1412, صفحات تستخدم قالب:صندوق معلومات شخص مع وسائط غير معروفة, قالب تصنيف كومنز بوصلة كما في ويكي بيانات, بوابة الوطن العربي/مقالات متعلقة, بوابة أدب عربي/مقالات متعلقة, بوابة أعلام/مقالات متعلقة, بوابة اللغة العربية/مقالات متعلقة, بوابة شعر/مقالات متعلقة, جميع المقالات التي تستخدم شريط بوابات, صفحات تستخدم خاصية P214, صفحات تستخدم خاصية P244, صفحات تستخدم خاصية P213, صفحات تستخدم خاصية P227, صفحات تستخدم خاصية P906, صفحات تستخدم خاصية P268, مقالات فيها معرفات MusicBrainz, صفحات لا تقبل التصنيف المعادل

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

وائل لطفي: الصحافة أجلت مشروع روايتي

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-01 21:21:14
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 64%

سقوط “25” عاطلا بحوزتهم أسلحة نارية ومخدرات بالقليوبية

المصدر: وطنى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-03-01 21:21:25
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 69%

فيديو .. حسين الشحات يضيف الرابع للأهلى فى شباك فاركو

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-03-01 21:21:37
مستوى الصحة: 41% الأهمية: 44%

الإعلان عن أول حالتى وفاة بين لاعبى أوكرانيا بسبب الحرب الروسية

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-03-01 21:21:39
مستوى الصحة: 32% الأهمية: 48%

الشركة المشغلة لمشروع «السيل الشمالي 2» تعلن إفلاسها

المصدر: المصري اليوم - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-03-01 21:21:26
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 70%

اهداف مباراة الاهلى و فاركو فى الدورى المصرى

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-03-01 21:21:35
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 35%

75 دقيقة.. الأهلي واقف عند الثلاثية فى مرمى فاركو

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-03-01 21:21:38
مستوى الصحة: 44% الأهمية: 37%

محافظ الإسكندرية يناقش مع سفير دولة الفلبين تعزيز سبل التعاون

المصدر: وطنى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-03-01 21:21:22
مستوى الصحة: 59% الأهمية: 58%

فاركو رابع ضحايا رباعيات الأهلي فى الدوري

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-03-01 21:21:36
مستوى الصحة: 33% الأهمية: 38%

بعد زيادة أسعار السجائر.. بدائل يجب اتباعها للإقلاع عن التدخين

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-01 21:21:12
مستوى الصحة: 50% الأهمية: 50%

عودة الطلبة المصريين المتواجدين فى رومانيا إلى أرض الوطن

المصدر: وطنى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-03-01 21:21:24
مستوى الصحة: 53% الأهمية: 64%

افشة وشريف يسجلان للأهلي ثلاثة أهداف في الشوط الأول على فاركوا

المصدر: وطنى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-03-01 21:21:21
مستوى الصحة: 53% الأهمية: 62%

هيئة الدواء: لقاح كورونا إيجى فاكس ابتكار علماء مصريين.. ومحلى 100%

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-03-01 21:21:39
مستوى الصحة: 40% الأهمية: 35%

تحميل تطبيق المنصة العربية