فنون العصر الحجري

عودة للموسوعة

فنون العصر الحجري

سوف نتطرق عند الحديث عن فنون العصر الحجري عن أربع محاور رئيسية وهي: الآلات - النار - التصوير - النحت

ولوأننا في هذا الموضع أوجزنا ذكر الآلات التي صنعها إنسان العصر الحجري القديم ، لصورَّنا لأنفسنا صورة عن حياته أوضح مما لوهجرنا لخيالنا الحبل على الغارب ؛ وطبيعي حتىقد يكون أول الآلات حجرا في قبضة الإنسان ، فكم من حيوان كان في مستطاعه حتى يفهمّ الإنسان هذه الآل ة؛ وإذن فقد أصبحت المدية الحجرية المُدبَبَةُ في أحد طرفِيها ، والمستديرة في طرفها الآخر لتلائم قبضة اليد ، أصبحت هذه المدية الحجرية للإنسان البدائي مطرقة وفأساً وإزميلاً وكاشطة وسكيناً ومنشاراً ؛ إلى يومنا هذا ترى الحدثة الإنجليزية التي نستعملها لتدل على المطرقة hammer معناها حجر من حيث أصلها اللغوي ثم وقع على مَرّ الأيام حتى تنوعت هذه الآلات في أشكالها حتى بَعُدَت عن أصلها المتجانس ، فثقبت الثقوب لهجريب مقبض ، وأُدخلت الأسنان لتكون الآلة منشارا، وغرزت فروع في المدية الحجرية لتصبح مغرازا أوسهما أوحربة؛ كما أصبح الحجر الكاشط الذي كان يتخذ شكل القسقطة، مجرافا أومعزاقا ؛ وأما الحجر الخشن الملمس فقد جعلوه مِبرَداً، وجعلوا حجر المقلاع أداة للقتال بقيت قائمة حتى اجتاز بها الإنسان عصر المدنيَّة الكلاسيكية ذاتها ؛ ولما ظفر إنسان العصر الحجري القديم بالعظم والخشب والعاج إلى جانب الحجر ، خلق لنفسه مجموعة منوعة من الأسلحة والآلات: خلق الصاقلات والهاونات والفؤوس والصفائح والكاشطات والمثاقب والمصابيح والمدى والأزاميل والشواطير والحراب والسندانات، وحافرات المعادن والخناجر وأشصاص السمك وحراب الصيد والخوابير والمغازير والمشابك وكثيراً غير هذه بغير شك(14)؛ فكان يَعُثرُ في جميع يوم على عِلمٍ جديد، وكان له من قدرته العقلية أحيانا ما يُطوَرُ به مكتشفات المصادفة إلى مخترعات مقصودة. لكن آيته العظمى هي النار ، وفي ذلك أشار دارون إلى حتى حمم البراكين الحار قد يحدث هوالذي فهمّ الإنسان ما النار؛ ويقول لنا أسخيلوس إذا برومثيوس خلق النار بإشعاله حَطَبةً في فوهة بركان مشتعل على جزيرة لمنوس ؛ وبين آثار إنسان النياندرتال قِطَعُّ من الفحم وبتر من العظم المحترق ، وإذن فالنار التي صنعها الإنسان تمضى في القِدَم إلى أربعين ألف عام مضت. وقد أعد إنسان "كرو- مانيون" لنفسه آنية خاصة تمسك الشحم الذي كان يشعله ليستضيء بضوئه، وإذن فالمصباح كذلك له من العمر هذا الزمن الطويل ؛ والراجح حتى تكون النار هي التي مكنت الإنسان من إتقاء البرد الناشئ عن الجليد الزاحف ؛ وهي التي أتاحت له النوم في الليل آمنا من الحيوان الذي إرتعد لهذه الأعجوبة إرتعاداً يَعدِل عبادة الإنسان البدائي إياها ؛ وهي التي قهرت الظلام فكانت أول عامل من العوامل التي حَدَّت من الخوف ، والتقليل من خوف الإنسان أحد الخيوط المضىية في نسيج التاريخ الذي ليست جميع خيوطه مضىا ، وهي التي أدت أخيرا إلى صهر المعادن وإلتحام بعضها في بعض ، وهي المستوى الوحيدة الحقيقية التي تقَدَمها الإنسان في فنون الصناعة من عهد إنسان "كرو- مانيون" إلى عصر الإنقلاب الصناعي.

وإننا لنروي لك عجبا- وكأنما نرويه لنوضح قصيدة "جوتييه" على الفن الجبار الذي يحيا بعد فناء الأباطرة وزوال الدول- إننا نروي لك عجباً إذ نقول إذا أوضح آثار خلفها لنا إنسان العصر الحجري القديم هي قِطَع من فنه؛ فقد وقع منذ ستين عاما حتى سقط "السنيور مارسلينودي سوتولا" Marceleno de Soutuola على كهف واسع في مغرسته في "أَلتَاميرا" في شمال أسبانيا، وكان هذا الكهف قد لبث آلاف الأعوام مقفل الباب كأنه صومعة راهب، أقفلته صخور سقطت عليه وأمدتها الطبيعة بملاط من لدنها حين ربطت بعضها ببعض بأعمدة من رواسب؛ ثم اتى الإنسان فضرب في هذا الموضع بضرباته لينشئ لنفسه جديدا، فإذا به يكشف بضرباته عن مدخل الكهف بطريق المصادفة؛ ومرت بعدئذ ثلاثة أعوام ثم اتى "سوتولا" ليستطلع الكهف فلحظ على جدرانه علامات غريبة ؛ وذات يوم صحبته إبنته الصغيرة ، ولما لم تكن بذات طول يُلزمها الإنحناء كما كانت الحال مع أبيها ، فقد صعَّدت بصرها نحوالسقف تشهد ما فيه ، فرأت تخطيطا غامضاً لبَيزُونٍ ضخم "البيزون هوثور بريُّ". جميع الرسم ناصع الألوان ؛ فلما فُحص السقف وفُحصت الجدران فحصاُ دقيقاً وجدت صور أخرى كثيرة ، وفي عام 1880 نشر "سوتولا" تقريراً عن مشاهدته ، فقابله فهماء الآثار بريبة هي من خصائصهم دائماً ؛ وتفضل عليه بعض هؤلاء الفهماء بزيارة يفحص فيها تلك الرسوم ، وينتهي بها إلى الإعلان بأن الرسوم زائفة خطتَّها يد خادعة؛ ودام هذا الشك- الذي ليس لأحد حتى يعترض عليه مدى ثلاثين عاماً؛ ثم أكتُشِفت رسوم أخرى في كهوف يُجمع الرأي على أنها من عهد ما قبل التاريخ "مما فيها من آلات صَوَّانية غير مصقولة وعظم وعاج مصقولين" فأيدت ما كان وصل إليه "سوتولا" من رأي لكن "سوتولا" عندئذ لم يكن على قيد الحياة؛ واتى الجيولوجيون إلى ألتاميرا وأقروا بإجماع استوعب الحقيقة بعد أوانها ، أقروا بإجماع حتى الرواسب التي كانت تغطي بعض الرسوم إنما ترجع إلى العصر الحجري الأول(18) وأن الرأي السائد الآن هوحتى رسوم ألتاميرا- والجزء الأكبر من بواقي الفن التي بقيت لنا من عهد ما قبل التاريخ- ترجع إلى العهد المجدلي؛ أي إلى عهد يقع نحوسنة 000ر16 ق.م؛ وكذلك وجدت رسوماً أحدث تاريخا من هذه بقليل ، لكنها ما زالت من بقايا العصر الحجري القديم ، في كهوف كثيرة في فرنسا. وتمثل الرسوم في معظم الحالات صنوفا من الحيوان- أوعالا وماموث وجياداُ وخنازير ودببة وغيرها؛ وربما كانت هذه الصنوف عن إنسان ذلك العصر طعاما شهيا ، ولذلك كانت موضع عنايته في صيده؛ وأحيانا نرى صورة حيوان مطعونا بالسهام ، ومن رأى فريزر وريناخ Reintach حتى أمثال هذه الصور قُصد بها حتى تكون رسوما سحرية تأتي بالحيوان في قبضة الفنان أوالصائد ، وبالتالي تأتي به إلى معدته. ومن الجائز أنها رسوم لم يقصد بها إلا إلى الفن الخالص. دفع إليها الإبداع الفني وما يصاحبه من لذة فنية خالصة؛ ذلك لأن أغلظ الرسوم كان يكفي لتحقيق غايات السحر ، على حين ترى هذه الصور في كثير من الحالات قد بلغت من الرقة والقوة والمهارة حداً يوحي إليك بما يحزنك ، وهوحتى الفن- في هذا الميدان على أقل تقدير- لم يتقدم كثيراً في شوط التاريخ الإنساني الطويل ؛ فها هنا الحياة والحركة والفخامة قد عُبّر عنها تعبيراً قوياً أخاذا بخط واحد جريء أوخَطين ؛ وهاهنا خَط واحد يصور حيواناً حياً مهاجماً"أم هل تكون سائر الخطوط قد محاها الزمن؟" تُرى هل تظل صورة العشاء الأخير لـ ليوناردوديفينشي Leonardo أوصورة الإنادىء للرسام إلجريكوEl Greco كما بقيت رسوم كرومانيون فتظهر خطوطها وألوانها بعد عشرين ألف عام؟. إن التصوير فن مترف ، لا يظهر إلا بعد قرون طوال تنقضي في تطور عقلي وفني ؛ ولوأخذنا بالنظرية السائدة اليوم ، ومن الخطر دائما حتى تأخذ بالنظريات السائدة ، فالتصوير قد تطور عن صناعة التماثيل ، التي بدأت بتماثيل كاملة ، ثم تطورت إلى تماثيل بارزة على لوحة منحوتة ، وعن هذه اتىت خطوة التصوير بالخطوط والألوان ؛ وإذن فالتصوير تعبير عن نحت نقص بعد من أبعاده ؛ والمستوى الوسطى من فن ما قبل التاريخ تراها ممثلة خير تمثيل في نحت بارز يدهشك بقوة وضوحه ؛ والنحت تمثال لرجل رامٍ بسهم أوبحربة وهومنقوش على الصخور الأورجناسيّة بلوسل في فرنسا؛ وكَشَفَ لوي بجوان Louis Begouen في كهف بأربيج في فرنسا- بين آثار مجدلية أخرى عن كثير من المقابض المزخرفة صنعت من قرون الأوعال ؛ وأحد هذه المقابض يشير على فن ناضج ممتاز ، كأنما كان الفن عندئذ قد إجتاز أجيالا من التدريب والتطور؛ وكذلك ترى في أراتى البحر الأبيض المتوسط منذ عهد ما قبل التاريخ- في مصر وكريت وإيطاليا وفرنسا وأسبانيا- صوراً لا عدد لها لنساء سمينات قصيرات تدل إما على عبادة هؤلاء الناس للأمومة ، وإما على تصوير الإفريقيين عندئذ للجمال ؛ واستخرجت من الأرض في تشكوسلوفاكيا تماثيل حجرية لحصان وحشي ووعل وماموث، وجدت بين آثار ترجع- على سبيل الشك- إلى سنة 000ر30 ق.م. إن تفسيرنا لسير التاريخ على أنه سير إلى الأمام ، لينهار من أساسه إذ شككنا في حتى هذه التماثيل وهذه النقوش البارزة وهذه الصور- على كثرة عددها- قد لا تكون إلا جزءاً صغيراً جداً من الفن الذي عبر به الإنسان البدائي عن نفسه، أوالذي زَيَّنَ به حياته؛ إذا ما بقى لنا كله في كهوف، حيث عَزَّ على عوامل المناخ حتى تتسلَّل إليها فتفسدها ، ولكن ذلك لا يقتضي حتى إنسان ما قبل التاريخ لم يكن فناناً إلا حين سكن الكهوف؛ فربما نحتوا في جميع مكان كما يعمل اليابانيون ، وربما أكثروا صناعة التماثيل مثل اليونان ، وربما لم يقتصروا في تصويرهم على صخور الكهوف ، بل صوروا كذلك رسومهم على أقمشة وخشب وعلى جميع شيء آخر- غير مستثنين أجسامهم ؛ من الممكن أبدعوا في الفن آيات تفوق بكثير هذه البتر التي بقيت لنا ؛ ففي أحد الكهوف وجدنا أنبوبة مصنوعة من عظم الوعل وملآنة بمادة ملونة لجلد الإنسان ؛ وفي كهف آخر وجدنا لوحة مصور فنان مما يوضع عليه الألوان عند التصوير ، وجدناها لا تزال تحمل على سطحها طلاء مَغْرَةٍِ "تراب حديدي" أحمر ، على الرغم من مائتي قرن مضت عليه؛ فالظاهر حتى الفنون بلغت درجة عالية من التطور ، واتسع نطاقها بين الناس منذ ثمانية عشرة ألف عام ؛ فيجوز حتى قد كان بين أهل العصر الحجري القديم فنانون محترفون ، ويجوز حتى قد كان بينهم كذلك همج متأخرين يتضورون جوعا ويسكنون الكهوف الحقيرة ، حيث ينكرون الطبقات الغنية من التجار ، ويتآمرون على اغتال المجاميع الفهمية ، ويصنعون بأيديهم أشياء وصلت إلينا فأصبحت تُحفَا.


المصدر

ول ديورانت. سيرة الحضارة. ترجمة بقيادة زكي نجيب محمود. Unknown parameter |coauthors= ignored (|author= suggested) (help)

تاريخ النشر: 2020-06-04 04:18:41
التصنيفات: Pages with citations using unsupported parameters

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

الدفاع المدني بغزة لمصراوي: توقف الحفار الوحيد بشمال غزة يهد

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-10-25 00:23:52
مستوى الصحة: 48% الأهمية: 69%

الصحة في غزة: المنظومة الصحية وصلت مرحلة الانهيار

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-10-25 00:24:02
مستوى الصحة: 50% الأهمية: 63%

سابقة .. خلاف بين وزير الخارجية الإسرائيلي وغوتيريش والسبب!!

المصدر: أخبارنا المغربية - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-10-25 00:23:53
مستوى الصحة: 65% الأهمية: 70%

حماس: مجلس الأمن بدا عاجزا عن اتخاذ قرار يلزم العدو بوقف عدو

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-10-25 00:23:36
مستوى الصحة: 46% الأهمية: 62%

الأوبرا تستضيف “نتاج زمني

المصدر: وطنى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-10-25 00:22:09
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 70%

أبو الغيط: العرب لن يعيشوا نكبة جديدة

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-10-25 00:23:44
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 59%

مصرع 3 أشخاص وإصابة 18 آخرين إثر وقوع 4 حوادث متفرقة بالبحيرة

المصدر: وطنى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-10-25 00:22:04
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 64%

تحميل تطبيق المنصة العربية