مدنية
أين بدأت المدنية،يا ترى؟ وكيف تطورت وهل بدأت في منطقة واحدة من العالم أم أنها بدأت بالتزامن وتطورت بالتدريج؟
أسئلة كثيرة من الصعب الإجابة عليها ، فلوأخذنا بما يقوله الجيولوجيون الذين يعنون في أبحاثهم عما قبل التاريخ بضباب أين منه شطحات الميتافيزيقا، لوأخذنا بما يقولونه ، لكانت المناطق القاحلة في آسيا الوسطى ذات ماضٍ فيه ماء وفيه إعتدال في حرارة الجو، وفيه ما يُزهره من بحيرات عظيمة وأنهار كثيرة ، تراجعت عنها آخر الموجات الجليدية ، فجفَّت شيئا فشيئا حتى لم يعد ما يسقط على ذلك الإقليم من مطر كافيا لقيام المدن والدول ؛ فأخذت المدائن تقفر من أهلها واحدة في إثر واحدة ، حين هرب الناس غربا وشرقا وشمالا وجنوبا سعيا وراء الماء؛ ولا تزال ترى أنقاض مدن مثل باكتريا Bactria غائصة في الصحراء إلى نصفها- ولابد حتى تكون باكتريا هذه قد إزدحمت بسكانها في مساحتها التي تمتد قطر دائرتها إثنين وعشرين ميلا ؛ ولقد وقع في عهد جدّ حديث - سنة 1868- حتى إضطر عدد من أهل هجرستان الغربية يقرب من ثمانين ألف نسمة، حتى يهاجر لأن الرمال الزاحفة قد غمرت موضعه من الأرض وكثيرون يمضىون إلى حتى هذه الأصقاع التي تسير اليوم في طريقها إلى الفناء ، قد شهدت أول خطوات أساسية من خطوات التقدم ، في هذا المزيج المؤلف من نظام وطعام وعهد وأخلاق وترف وثقافة، والذي منه تتكون المدنية.
ولقد كشف بَمبلِي سنة 1907 قي أناوجنوبي الهجرستان ، عن خزف وآثار أخرى تدل على ثقافة قديمة أرجعها إلى سنة 9000 ق.م ، وربما أسرف في تقديره هذا فزاد أربعة آلاف ؛ وهاهنا نجد زراعة القمح والشعير والذر ة ، وإستخدم الناس وإستئناس الحيوان ، وزخرفة الفخار بزخارف بينها من التشابه في قواعد الرسم ما يشير على أنهم كانوا قد جمعوا تنطقيد وبطانة في الفنون لعدة قرون سلفت ، والظاهر حتى ثقافة هجرستان سنة 5000 ق.م كانت قد بترت من الزمن أشواطا ؛ وربما كان بينهم إذ ذاك مؤرخون يضربون في أعماق ماضيهم عبثاً للبحث عن أصول المدنية ، وفلاسفة أخذوا يندبون بعبارة فصيحة ما أصاب الجنس البشري إذ ذاك من تدهور كان يؤدي به إلى الموت. ولوإهتدينا بالخيال حيث يعزُّ علينا الفهم السليم ، لقلنا إنه من هذا المركز هاجر الناس- يلوذون فراراً مما أصاب أرضهم من جفاف في المطر وجفاف في تربة الأرض - فساروا في إتجاهات ثلاثة، يحملون معهم ما لهم من فن ومدنية ؛ فبلغت فنونهم- إذا لم يبلغوا بفضيلتهم- أرض الصين ومنشوريا وأمريكا الشمالية من جهة الشرق ؛ وبلغت شمال الهند في سيرها إلى الجنوب ؛ ثم أدركت في طريقها نحوالغرب بلاد عيلام و سومر ومصر؛ بل إيطاليا وأسبانيا كذلك ؛ فقد وجدت في سوسا وهي في عيلام القديمة (فارس الحديثة) آثار تشبه في نمطها آثار أناوشبهاً يكاد يبرر للخيال الذي يعيد قوته صورة الماضي ، حتى يفترض أنه قد كان بين سوسا وأناوصلات ثقافية في فجر المدنية (أي حول سنة 4000 ق.م). وكذلك يوجد شَبَه كهذا في الفنون والمنتجات القديمة يوحي بوجود علاقة كهذه بين بلاد ما بين النهرين ومصر فيما قبل التاريخ، وبوجود ارتباط يشير على اتصال مجرى المدنية. ويستحيل علينا حتى نفهم فهم اليقين أيّ هذه الثقافات اتى أولا ، وليس ذلك بكبير الأهمية، لأنها جميعاً كانت في جوهرها أفراد أسرة واحدة ونمط واحد ، فلوكان لنا حتى نخالف الرأي الشائع الذي اكتسب احتراما لقِدَمه ، بحيث نضع عيلام وسومر قبل مصر ، فلسنا نصدر في ذلك عن عبث يريد مخالفة المعروف لذاتها ، لكننا نعتمد على الحقيقة التي تدل على حتى عمر هذه المدنيات الآسيوية ، إذا قيس إلى مدنيات إفريقيا وأوربا ، يمتد طولا حدثا إزداد فهمنا بتلك المدنيات عمقا ؛ فمجاريف فهماء الآثار بعد حتى قضت قرنا كاملا في بحثها المظفّر على ضفاف النيل ، انتقلت في سيرها عبر السويس إلى جزيرة العرب وإلى فلسطين وبين النهرين وفارس ، وهي حدثا خطت في طريقها هذا ، ازددنا ترجيحا مع تزايد الفهم التي تعود علينا من أبحاثنا ، حتى الدلتا الخصيبة للأنهار التي تجري في أرض الجزيرة ما بين النهرين هي التي شهدت أول مناظر المسرحية التاريخية للمدنية الإنسانية ، فيما نفهم.
المصدر
نطقب:سيرةالحضارة