حصار السفارة المصرية في الكونغو 1964

عودة للموسوعة

حصار السفارة المصرية في الكونغو1964

حصار السفارة المصرية في ليوبولدڤيل (كنشاسا)، الكونجووالأزمة بين مصر والكونغوإثر اغتيال باتريس لومومبا عام 1964، كما يرويها سفير مصر آنذالك، محمد ابراهيم كامل، الذي أصبح وزير خارجية مصر لاحقاً. 

في بداية عام ‏1964‏ صدرت حركة ترقيات في وزارة الخارجية وتضمنت ترقيتي إلي درجة وزير مفوض وكنت وقتها في السابعة والثلاثين من عمري وهي سن مبكرة بالنسبة لتولي تلك الدرجة في ذلك الوقت خاصة بالنسبة لدبلوماسي مدني مثلي‏..‏ فقد كان الصراع يحتدم في ذلك الوقت بين الدبلوماسيين المدنيين والعسكريين الذين بدأوا منذ قيام الثورة ينتقلون إلي وزارة الخارجية بأعداد متزايدة وكان الكثير منهم من الشبان ذوي الرتب الصغيرة في الجيش ولكنهم عند نقلهم إلي وزارة الخارجية كثيرا ما كانوا يتولون رتبا ودرجات أعلي من أقرانهم المدنيين باعتبار حتى مرتباتهم كانت أعلي في الجيش وباعتبارهم محل ثقة قادة الثورة أولإبعادهم عن الداخل‏.‏

ولم تكن هذه ظاهرة مقصورة علي وزارة الخارجية بل ضمت غزوالعسكريين مختلف الوزارات والمصالح وتعداها إلي الشركات والمؤسسات‏.‏

ونتيجة لذلك ولج اسمي في زمرة النقاش والجدل بين الدبلوماسيين العسكريين والمدنيين حيث كان العسكريون يضربون المثل بي كمدني وصل إلي درجة كبيرة في سن مبكرة وكنت لا أميز بين مدني أوعسكري إذ كان معياري هوالشخص نفسه مايتحلي به من وطنية وكفاءة وذكاء ودماثة خلق وكم كان هناك من العسكريين الممتازين وكم كان هناك من المدنيين غير الصالحين‏.‏

وبعد ذلك بعدة أشهر بدأت تروج الشائعات في الوزارة حول قرب صدور حركة تنقلات دبلوماسية لشغل مناصب أربعين سفيرا يحلون محل سفراء انتهت مدة عملهم في الخارج‏.‏ وكما شاهدت منذ التحقت بالعمل في وزارة الخارجية فإن الفترة السابقة علي صدور أي حركة التنقلات أوالترقيات تكاد تصيب الوزارة بالشلل حيث تكثر التكهنات ويزداد القلق والتوتر وربما يرتفع ضغط الدم لدي الكثير من المتطلعين إلي النقل للخارج‏,‏ ولايقتصر الأمر عليهم فحسب بل تشتد المنافسة علي المناصب التي ستشغل حسب أهميتها ومميزاتها‏.‏ كما حتى الفرق شاسع بين العمل في دولة متقدمة وأخري متخلفة وبين دولة قريبة وأخري بعيدة وبين دولة تتميز برخص المعيشة وبين دولة يشتد فيها الغلاء إلي غير ذلك من الاعتبارات وبالتالي فالفروق واضحة بين باريس ولندن ونيويورك وبين جيبوتي وكابول وبنوم بنه‏.‏ وكنت قد روضت نفسي عندما كنت أعمل في مجلس الدولة علي ألا أقحم نفسي من قريب أوبعيد في الجوالذي يسبق ويسود في انتظار صدور حركة الترقيات والتنقلات‏.‏ ولم يحدث طوال مدة خدمتي حتى سعيت إلي التعيين في منصب معين سواء بالخارج أوالداخل أورفضت تعييني في أي مكان‏,‏ بل لم أكن أعهد علي وجه التحديد ترتيبي إزاء الترقية إلي درجة أعلي أوترتيبي في النقل إلي الخارج عن اقتناع بأن هذا لايقدم ولا يؤخر ولايجدي السعي والوساطة إلا حتى يذل المرء نفسه ويفقد ماء وجهه ويحط من كرامته‏.‏

ومرت الأيام وبورصة حركة التنقلات في هبوط وصعود إلي حتى استيقظت صباح يوم الجمعة علي رنين جرس التليفون في غرفة نومي‏.‏ وكان المتحدث زوج شقيقتي المرحوم فتحي البدراوي وكنت مستغرقا في نوم عميق بعد سهرة طويلة ليلة الإجازة‏..‏ نطق لي أنه يأسف لإيقاظي من النوم ثم أردف لا أعهد يامحمد ماذا أقول لك هل أقول مبروك أم أواسيك،يا ترى؟ فقلت‏:‏ خيرا نطق‏:‏ بقي يا محمد أنت رايح الكونجوومعهدش إلا من الجرائد‏,‏ ولم استوعب مانطقه وقلت وأنا غير مصدق‏:‏ أنت صاحي بدري ومصلي الفجر ورايق وأنا لسه في سابع نومه فأجاب‏:‏ أنا أحدثك بمنتهي الجدية لقد عينت سفيرا في الكونجوليوبولدفيل‏,‏ قلت‏:‏ هذا غير معقول فلم يفاتحني أحد في موضوع النقل من قريب أوبعيد فضلا عن إنه لم تمض غير فترة وجيزة منذ عودتي من الخارج‏,‏ نطق‏:‏ إذن إقرأ جرائد الصباح‏.‏

وطار النوم من جفوني وعملا سقطت عيني في الأهرام علي عنوان بالبنط العريض‏:‏ صدور حركة دبلوماسية تضم أربعين سفيرا وسارعت إلي قراءتها فسقط نظري علي اسمي في الكونجوليوبولدفيل وكان يليني في الترتيب السفير جمال منصور الذي عين سفيرا في بون وتشاء الظروف حتى تسحب السفارة المصرية من ليوبولدفيل بعد أربعة أشهر من وصولي وأنت تبتر العلاقات الدبلوماسية بين القاهرة وبون بعد بضعة أشهر وأن تمضي السنوات‏,‏ فأعين سفيرا لمصر في بون ويعين جمال منصور سفيرا في الكونجوليوبولدفيل بعد حتى غير الجنرال موبوتواسمها إلي كينشاسا وهوالاسم الأصلي لها قبل استعمار بلجيكا للكونجو‏.‏

‏*********‏

السفير المسحراتي

وبدأت أروض نفسي علي فكرة السفر إلي الكونجو‏,‏ وشرعت في قراءة جميع ماسقط تحت يدي عن الكونجوبل شرعت في أخذ دروس خاصة في اللغة الفرنسية وكانت معهدتي بها متوسطة وبدأ حب الاستطلاع والمغامرة يستحوذان علي ويسريان في دمي وأنا أتطلع للعيش داخل إفريقيا السوداء‏.‏ ومن منا لم يداعب خياله ذلك ونحن أطفال عندما كنا نشاهد روايات طرزان في السينما‏.‏ ثم قمت بزيارة سفير الكونجوفي القاهرة بافاسا الذي حاول شرح الأوضاع في بلاده‏,‏ وكان شأن أغلبية الكونجوليين‏-‏ كما عهدتهم فيما بعد‏-‏ يتمتع بخفة الظل وأخذ الأمور ببساطة ثم نادىني إلي العشاء وقابلت زوجته وهي مولدة من أب بلجيكي وأم كونجولية وكانت جميلة وخفيفة الظل أيضا‏.‏ كذلك كان من أبرز من قابلت في القاهرة في ذلك الوقت السيد أوسوريوتافال الممثل المقيم للأمم المتحدة في الكونجوالذي كان في زيارة عارضة للقاهرة‏.‏ وقد لعب تافال دورا مهما في أثناء وبعد أزمة محاصرة السفارة المصرية في الكونجووأعتقد أنه يرجع إليه فضل كبير في عدم تطور الأمور إلي مذبحة أومأساة عندما تطورت الأحداث في ليوبولدفيل علي النحوالذي سأفصله‏.‏ كذلك فقد قابلت الاستاذ محمد فائق وكان مسئولا عن الشئون الإفريقية وكان قد زار معظم الدول الإفريقية ولديه أرشيف هائل يغطي الشخصيات والزعامات والأحزاب الإفريقية كما كانت له اتصالات واسعة داخل حركات التحرر المنتشرة في جميع أنحاء إفريقيا‏.‏

وكان سفيرنا الأسبق في الكونجوهوالصديق العزيز الدكتور مراد غالب الذي قابلته أول مرة وقت عملي بسفارتنا في لندن عام‏1956‏ عندما جاء ضمن الوفد المصري برئاسة السيد علي صبري مدير مخط عبد الناصرفي ذلك الوقت لمتابعة المؤتمر الذي عقدته الدول المستخدمة لقناة السويس عقب قيام الرئيس عبدالناصر بتأميمها في يوليوعام‏1956.‏

وقد أقامت وزارة الخارجية حفلا في نادي التحرير النادي الدبلوماسي حاليا ونادي محمد علي سابقا حضرها وقتها السيد حسين صبري ذوالفقار الذي كان نائب وزير الخارجية والسفير حافظ إسماعيل وكيل الوزارة لتوديع السفراء المنقولين إلي الخارج وكنت أقف مع مجموعة من الزملاء عندما جاء السفير حافظ إسماعيل ونطق‏:‏ هل تعهد يامحمد لما اخترناك سفيرا لنا في الكونجو،يا ترى؟ فقلت‏:‏ لا والله‏.‏ فنطق ضاحكا‏:‏ لأنك فتوة لا يسهل أكله‏.‏ وكنت قد طلبت لقاءة وزير الخارجية وقتها أستاذنا محمود رياض لتلقي توجيهاته والاستئذان في السفر‏,‏ فحدد لي موعدا قبيل سفري بنحوعشرة أيام‏,‏ كما نادى ثلاثة آخرين من سفرائنا المنقولين إلي عواصم إفريقية وهم‏:‏ السفير مصطفي توفيق‏-‏ وهومن العسكريين‏-‏ سفيرنا في الصومال والسفير أحمد المسيري الذي تضمنت الحركة نقله إلي كوناكري عاصمة غينيا والتي كان يرأسها وقتها المرحوم أحمد سيكوتوري وسفير رابع لا أذكر اسمه وكان الاجتماع حول مائدة مستديرة في غرفة ملحقة بمخط الوزير‏.‏ وشرع السيد محمود رياض في شرح سياستنا الإفريقية وأهدافنا منها وعندما فرغ من ذلك سأل إذا كان لأحد منا استفسارات أومشكلات معلقة وبدأ السفير مصطفي توفيق بوصفه أ

كبرنا سنا في الكلام بحماس شديد لمدة ناهزت الثلث ساعة وكان محور حديثه حتى الجمهورية العربية المتحدة هي الدولة المنوط بها إيقاظ الدول الإفريقية من السبات العميق الذي تعيش فيه وإننا كسفراء في دول إفريقية يجب علينا حتى ندور علي الوزارات والمصالح بل علي بيوت الإفريقيين لكي نوقظهم من نومهم ونحثهم علي الحركة والنشاط واستمر يكرر وينوع في هذا المعني بشكل أوبآخر‏.‏ وكنت أجلس علي يسار السفير أحمد المسيري وكان رجلا ظريفا فهمس في أذني قائلا‏:‏ وبعدين بقه في السفير المسحراتي ده‏!!‏ فلم أتمالك نفسي وانفجرت ضاحكا بصوت عال وسكت السفير المتحدث وهوينظر إلي شذرا في استغراب واستنكار‏.‏ ثم نظر إلي الوزير بتعجب ولم ألبث حتى تمالكت نفسي وسكت فأنهي السفير كلامه ثم تحدث السفير المسيري وسأل الوزير عن بعض النقاط واتى علي الدور في الحديث فسألني الوزير إذا كان لدي استفسار أواسئلة‏,‏ والواقع أنه كان يشغل خاطري سؤال واحد فقلت إني أرجوحتى استفسر عن موقفنا فيما إذا عاد تشومبي إلي الحكم في الكونجو،يا ترى؟ وكأني نطقت كفرا وكان رد الوزير محمود رياض علي عنيفا صاخبا علي خلاف طبيعته‏-‏ ولعل نوبة الضحك التي انتابتني قبلها بدقائق قد أثارته‏-‏ ونطق‏:‏ ماهذا الكلام الفارغ يامحمد؟‏..‏ لقد مضى تشومبي وانتهي إلي غير رجعة وأنا مندهش كيف من الممكن أن يخطر علي بالك مثل هذا السؤال‏..‏ لقد صرفت الأمم المتحدة دم قلبها لإنهاء انفصال إقليم كاتنجا وقد طرد تشومبي من الكونجوإلي الأبد وشطب اسمه من التاريخ وسكت الوزير وسلم علينا وانتهي الاجتماع‏.‏

‏*********‏

الجنود يوقفون سيارة السفارة

كان السفر إلي الكونجووقتها يتم عن طريق أوروبا فلم تكن هناك خطوط طيران مباشرة تربط الدول الإفريقية داخل القارة وكان هذا تطبيقا للسياسة الاستعمارية التي كانت تسعي إلي بتر أوصال القارة وعزل دولها وحصر صلاتها بالدول الأوروبية المستعمرة وكانت الخطوط المفتوحة للسفرإلي ليوبولدفيل وقتها من مصر هي إما عن طريق أثينا أوبروكسل واخترت وقتها حتىقد يكون سفري عن طريق بلجيكا حيث لم يسبق لي زيارتها من قبل من ناحية ومن ناحية أخري بوصفها الدولة التي كانت تستعمر الكونجوولرغبتي في شراء بعض الخط والمستندات التي تعطي خلفية عن الكونجووأحواله‏.‏ وودعني أهلي وأصدقائي في المطار وداعا مؤثرا إذ كانوا جميعا قلقين ومشفقين من سفري إلي الكونجوحيث كانت أخبار الفوضي والاضطرابات تملأ الصحف والاذاعات يوميا وكان هذا هوالسبب في أني لم أوافق علي اصطحاب زوجتي وولدي أحمد وعلي معي قبل حتى استطلع الأحوال بنفسي‏.‏ وأمضيت نحوأسبوع في بلجيكا بين بروكسل وبلدة كينوك علي بحر الشمال ثم عدت إلي بروكسل حيث اشتريت بعض الخط كما قررت حتى اشتري مسدسا وسألني البائع في أحد محال بيع الأسلحة عن سبب رغبتي في شراء مسدس فقلت إنني ذاهب إلي الكونجوفأبدي تفهمه واختار لي مسدسا قويا عيار ‏9‏ ملليمترات ثم مضىت إلي السفارة المصرية حيث أبلغت سفارتنا في ليوبولدفيل بموعد وصولي يوم ‏14‏ يونيو‏1964‏ وتوجهت إلي المطار حيث اشتريت بعض الصحف والمجلات للإطلاع عليها في الطائرة التي تبتر مسافة إلي ليوبولدفيل في ست ساعات‏.‏ وأقلعت الطائرة في موعدها وأنا فريسة لعواصف شتي ومددت يدي إلي الصحف التي اشتريتها وسحبت إحداها دون تمييز وكانت صحيفة ‏LESOIR‏ البلجيكية فقفز إلي عيني مانشيت علي الصفحة الأولي منها بالخط العريض تشومبي يسافر إلي مالي ويقابل موديبوكيتا وقرأت الخبر وأعدت قراءته مرات ولم يكن فيه أدني إشارة عما دار في اللقاء بينه وبين الرئيس المالي ولكن واقعة اللقاء في حد ذاتها أثارت مشاعري وتساؤلاتي إلي أقصي حد فكيف يمكن تصور حتى يبعث تشومبي من حديث ويغادر منفاه في مدريد ويسافر إلي إفريقيا التي رفضته ويقابل من؟‏..‏ موديبوكيتا أحد زعماء إفريقيا الوطنيين والثوريين المعروفين بمعادة الاستعمار‏,‏ كيف من الممكن أن قبل موديبوكيتا لقاءة تشومبي في عاصمته ومادلالات ذلك،يا ترى؟ وقفز إلي ذهني كلام الوزير محمود رياض وغضب عندما أثرت احتمال عودة تشومبي والذي لم يمض عليه أكثر من عشرة أيام‏.‏

‏*********‏

وصلت الطائرة نحوالساعة السادسة بعد الظهر إلي مطار ليوبولدفيل وكان في استقبالي رئيس البروتوكول بالخارجية الكونجولية والقائم بأعمال السفارة المصرية مصطفي حنفي وأعضاء السفارة السكرتير الثالث حسين الخازندار والملحق شوقي مسعود وباقي موظفي السفارة وكانت الحركة خافتة في المطار كما كان يعج بالكثير من الجنود الكونجوليين ورجال الشرطة‏,‏ وبدا لي علي الفور مدي كفاءة مصطفي حنفي ومقدرته علي التعامل مع الكونجوليين مسئولين وغير مسئولين‏,‏ وكان مصطفي حنفي أحد ضباط قواتنا المسلحة التي أوفدت إلي الكونجوضمن القوات التابعة للأمم المتحدة تحت قيادة البكباشي سعد الدين الشاذلي ثم انضم إلي السفارة المصرية في أثناء فترة تولي السفير ممدوح جبه‏.‏

وكان حظر التجوال قد تم فرضه في ليوبولدفيل قبل وصولي بنحوأسبوع في الفترة من السادسة وحتي العاشرة مساء وتطبيقا لذلك فقد أوقف بعض الجنود الكونجوليين سيارة السفارة التي أقلتنا من المطار علي الرغم من أنها تحمل الفهم المصري وحاول مصطفي حنفي إفهامهم أنها سيارة سفير الجمهورية العربية المتحدة بلا جدوي وعندما نطق لهم أنها سيارة القنصل العام المصري اعتذر الجنود علي الفور وأدوا التحية العسكرية ثم سمحوا للسيارة باستئناف سيرها‏,‏ وهذا أمر له دلالته علي الرغم من استقلال الكونجومنذ عام‏1960‏ ومرور أربع سنوات علي ذلك إلا حتى فكرة السفارات لم تكن معروفة لدي جميع الشعب بينما هم معتادون علي القنصليات التي كانت قائمة في الكونجومنذ زمن بعيد لرعاية مصالح الدول الأجنبية وكان من بينها قنصلية مصرية في الأربعينيات أغلقت فيما بعد‏.‏

وعندما وصلنا إلي دار سكن السفير كان يعج بعدد من المدعوين الذين نادىهم مصطفي حنفي للتعهد علي السفير الجديد وكان من بينهم عدد من سفراء الدول الصديقة والعاملين المصريين في الكونجومن الأطباء والقضاة والمدرسين وغيرهم‏.‏


تشومبي يؤلف الوزارة

وكانت دار سكن السفير تقع في حي كالينا وهومن الأحياء التي كانت مخصصة للبيض بعيدا عن الأحياء الوطنية التي يسكنها الكونجوليون ويظهر الفارق واضحا وجليا بين الأبهة التي كان يعيش فيها المستوطنون البيض والجاليات الأوروبية وتلك الأحياء التي يسكنها الشعب الكونجولي والتي تشبه المعسكرات‏.‏

وكانت ممحرر السفارة في مبني تمتلكه شركة النصر للتصدير والاستيراد في وسط المدينة وتشغل الطابق الأرضي منه ممحرر الشركة بينما تشغل السفارة الطابق الثاني ويقطن الطابق الثالث بعض موظفي السفارة والفنيين الذين كانوا يعملون في محطة اللاسلكي التي تربط السفارة بالقاهرة مباشرة والتي زودت بها السفارة المصرية في بداية إنشائها في شهر سبتمبر عام‏1960‏ والتي يعود إليها الفضل في إنقاذ حياتنا عندما اشتعلت الأزمة بعد ذلك في عام‏1964‏ وكان يديرها طاقم ممتاز من الأفراد المتميزين من القوات المسلحة‏.‏

وفي ميدان فسيح بوسط المدينة في لقاءة ممحرر السفارة البلجيكية كان يقام يوميا سوق يحمل إليه الكونجوليون بضاعتهم جميع صباح حيث يفترشون أرض الميدان عارضين مشغولاتهم الفنية وتضم التماثيل الخشبية والعاجية وسن الفيل وأحجار الملاكيت الجميلة القيمة والتي كانت تستخرج من مناجم النحاس والحراب والأقواس وجلد التمساح والأقنعة الخشبية‏..‏ إلخ‏,‏ ولا شك في حتى للكونجوليين حسا فنيا مرهفا‏.‏ وبعد أيام قدمت أوراق اعتمادي إلي رئيس الجمهورية كازافوبووبعد انتهاء المراسم جلست معه ومع سيريل ادولا رئيس الوزراء لمدة ساعة حاولت حتى أبدد فيها شكوكهما نحوالجمهورية العربية المتحدة والتي كانت تناصر بشدة الزعيم لومومبا وايدين استعداد مصر المخلص لبناء علاقات متينة مع الكونجوفي المجالات السياسية والاقتصادية‏.‏ وكان كازافوبويتسم بالحرص والدهاء بينما كان أدولا متطلعا عملا إلي علاقات جيدة مع مصر التي تحتل مركزا مؤثرا خاصا في إفريقيا‏.‏ ثم شرعت في زيارة السفراء المعتمدين في ليوبولدفيل وكان تمثيل الدول العربية في ذاك الوقت منحصرا علي مصر وتونس والسودان والجزائر‏,‏ كما كان السفراء المعتمدون في ليوبولدفيل يضمون عددا من أكفأ السفراء خاصة من قبل الدول الأوروبية التي كان لها مصالح واستمثارات هائلة في دولة الكونجوكما كان للاتحاد السوفيتي وتشيكوسلوفاكيا سفارات هناك‏.‏

وكان من المقرر عقد مؤتمر القمة الإفريقي في القاهرة شهر يوليوعام‏1964‏ وقد أوفدت وزارة الخارجية المصرية تدعوسفراءها المعتمدين في الدول الافريقية للعودة الي القاهرة لحضور أعمال المؤتمر وبعد وصولي إلي ليوبولدفيل بنحوعشرين يوما بدأت تسري شائعات بأن تشومبي قد وصل إلي ليوبولدفيل وبدأنا نتقصي حقيقة هذه الانباء التي اثارت السلك السياسي بين مرحب ومستنكر ولم تشر الصحافة اوالاذاعة الكونجولية من قريب اوبعيد الي هذا الموضوع واستمرت التكهنات إلي حتى تحققت‏,‏ فقبل سفري إلي القاهرة بيومين لحضور مؤتمر القمة الافريقية اصبحت الشائعات بوصوله شبه مؤكدة وفي اليوم السابق لسفري الي القاهرة كنت علي موعد لزيارة السفير الامريكي في الكونجو‏(‏ ماك جودلي‏)‏ وكان رجلا ضخما مرحا ومضىت اليه وفي اثناء حديثي معه في غرفة مخطه دق جرس التليفون فمضى للرد عليه وعاد ليقول لي ان الرئيس كازافوبوقد كلف تشومبي بمهمة وهونظام مأخوذ عن النظام البلجيكي الذي يقضي بأن يكلف رئيس الدولة احد السياسيين بتشكيل وزارة وان ذلك لا يعني بالبتر انقد يكون المكلف بذلك هوتشومبي نفسه وفي مساء اليوم التالي كان موعد سفري للقاهرة وركبت السيارة بعد الظهر للمطار وكان معي مصطفي حنفي وكنا نستمع لنشرة الاخبار المحلية في راديوالسيارة حيث كان النبأ الاول هوان الرئيس كازافوبوقد استقبل اعضاء الوزارة الجديدة برئاسة مويس تشومبي وقد احتفظ تشومبي لنفسه بوزارة الخارجية الي جانب توليه منصب رئيس الوزراء وحمدت الله علي انني في طريقي الي القاهرة حيث سيتاح لي ان اعاود سؤال وزير خارجيتنا محمود رياض عن موقفنا ازاء هذا الوضع وهوالسؤال الذي استنكره عند لقاءتي له قبيل سفري الي الكونجو‏.‏


طار النوم من جفوني

وحضرت مؤتمر وزراء الخارجية الافارقة والذي كان يسبق مباشرة مؤتمر القمة الافريقي وقد حضره وفد الكونجووقام الوفد المصري في المؤتمر باقناع باقي الوفود المشاركة بالموافقة علي ارسال برقية الي الرئيس كازافوبوتطالبه بعدم اشتراك تشومبي في المؤتمر وقد احتج الوفد الكونجولي بشدة علي ذلك وانسحب من المؤتمر كما قرر كازافوبوعدم المشاركة في مؤتمر القمة الافريقي تضامنا مع رئيس وزرائه‏,‏ وفي اثناء القمة ابدي بعض الرؤساء الافارقة عدم ارتياحهم للبرقية التي ارسلت الي كازافوبوباسم المؤتمر لمنع رئيس وزرائه من المشاركة باعتبار ان ذلك تدخل في الشئون الداخلية للكونجو‏.‏

وكان الرئيس سيرانانا رئيس مدغشقر هوالرئيس الوحيد الذي حاول الدفاع عن تشومبي اذ نطق لقد استنكرنا جميعا مقتل لومومبا ولكن هذا لا يعطينا الحق في التدخل في شئون الكونجوومادمنا نحن بهذا الصدد فلنسأل ضمائرنا من منا لم يسقط علي وثيقة باعدام احد مواطنيه،يا ترى؟ لسنا جميعا ملائكة فاذا كان تشومبي سيمضى الي الجحيم فمن المؤكد انه لنقد يكون وحده فالبعض منا سيكونون معه‏.‏

وقبل عودتي إلي ليوبولدفيل قابلت الوزير محمود رياض لفترة وجيزة وسألته عن موقفنا ازاء تشومبي فنطق اننا نعترف بالحكومة الشرعية القائمة في ليوبولدفيل ولا شأن لنا بالتدخل في الشئون الداخلية للكونجوولم يزد علي ذلك حرفا واحدا‏.‏

وغادرت القاهرة في صباح ‏9‏ يوليوعام‏1964‏ عائدا الي ليوبولدفيل وكنت قد قررت ان اوجل لمدة يومين اوثلاثة ـ زيارتي لرئيس الوزراء والتي لم يكن منها بد كان تشومبي يتولي وزارة الخارجية في نفسه الوقت وذلك لكي استطلع الموقف مع مصطفي حنفي وبعض سفراء الدول الصديقة وقابلني مصطفي حنفي واعضاء السفارة في المطار ومضىنا الي دار السكن حيث تناقشنا في الوضع ووافقني اعضاء السفارة علي عدم التعجل في طلب لقاءة تشومبي بوصفه وزير الخارجية الا ان الرياح تأتي بما لا تشتهي السفن كما ينطق‏,‏ ففي الساعة السابعة من صباح اليوم التالي لوصولي استيقظت علي رنين جرس التليفون وكان المتحدث مدير مخط تشومبي ونطق لي ان رئيس الوزراء ووزير الخارجية المسيوتشومبي يرغب في لقاءتي وحدد لي موعد اللقاءة الساعة الثامنة صباحا اي بعد ساعة في مقر اقامته وطار النوم من جفوني وايقظت مصطفي حنفي بدوري وابلغته بما وقع وسألته عما اذا كان تشومبي قد تجاوز له ان طلب لقاءتي في اثناء وجودي في القاهرة فنفي ذلك ثم نطق انه سيحضر لمنزلي علي الفور‏.‏ أول القصيدة كفر

واخذت دشا باردا وارتديت ملابسي ولم يلبث ان جاء مصطفي حنفي وانا اتناول كوبا من الشاي وظللنا نتكهن عن سبب طلب تشومبي هذه اللقاءة المستعجلة والمفاجئة دون ان نصل الي قراره‏,‏ اذا ان المعتاد ان يطلب السفراء لقاءة وزير الخارجية الجديد في بداية ولايته وليس العكس‏.‏

وتوجهت الي مقر اقامة رئيس الوزراء في حين توجه مصطفي حنفي الي السفارة وقادني احد سكرتيري تشومبي الي غرفة الاستقبال واغلق الباب وانصرف وظللت واقفا نحوخمس دقائق عندما انفتح الباب ودخل تشومبي وكان متجهم الوجه وسلم علي قائلا‏:‏ صباح الخير ياسعادة السفير ورددت عليه صباح الخير ياسيادة رئيس الوزراء ونادىني الي الجلوس ولم اكد اجلس حتي نطق لي‏:‏ وصلتنا معلومات مؤكدة امس ان هناك طائرتين تحملان العلامات المصرية قد هبطا امس في مطار ستانلي فيل وانزلتا حمولات من الاسلحة والذخائر الي الثوار هناك فماذا تقول؟،يا ترى؟

وقلت لنفسي أول القصيدة كفر ولكني تمالكت اعصابي بدرجة أدهشتني وقلت‏:‏يا سيادة رئيس الوزراء هذا كلام محال وخطير وغير معقول فنظر إلي شذرا ونطق‏:‏ ولماذا هوغير معقول،يا ترى؟ ان موقفكم مني معروف ولا يحتاج الي بيان‏.‏

قلت‏:‏ يا سيادة رئيس الوزراء لقد عدت من القاهرة مساء امس فقط حيث كنت احضر مؤتمر القمة الافريقي في القاهرة‏,‏ وقد قابلت قبل عودتي الرئيس جمال عبد الناصر ـ ولم أكن قد قابلته ـ وسألته عن موقفنا فأكد لي ان موقفنا هوعدم التدخل في الشئون الداخلية للكونجو‏,‏ كما قابلت وزير خارجيتنا محمود رياض فأكد لي المعني نفسه واضاف ان موقفنا من تشومبي وهوداعية انفصال اقليم كاتانجا غير موقفنا منه وهورئيس لوزراء جمهورية الكونجوالموحدة والتي اعترفت بها الامم المتحدة وكنا من اوائل المعترفين بها وتبادلنا معها العلاقات الدبلوماسية اما وقد انتهي انفصال كاتانجا وعادت وحدة الكونجوفلا شأن لنا بشخص رئيس الوزراء الذي اختاره رئيس الجمهورية وفقا للدستور الكونجولي‏,‏ وعودتي لسفارتنا في الكونجوفور انهاء مؤتمر القمة الافريقي تؤكد هذا المعني ولقد عدت من القاهرة مساء امس فقط وكان اول ما أنوي عمله هذا الصباح هوالاتصال بمخط رئيس الوزراء لطلب تحديد موعد معكم لتهنئتكم برئاسة الوزراء ووزارة الخارجية ولشرح موقفنا هذا ولكنكم سبقتموني بالدعوة لهذه اللقاءة‏.‏

وكنت وانا احدثه انظر الي وجهة المتجهم الذي يطفح بالريبة والشك بل الكراهية وعندما انتهيت من كلامي خيل لي ان حديثي قد ادخل عليه لمسة من التردد والارتياح‏.‏

نطق‏:‏ علي جميع حال اني اريد تأكيدا رسميا من الحكومة المصرية بان هذا لم يحدث ،يا ترى؟ متي تستطيع ان ترد علي،يا ترى؟

وشعرت بدوري بنوع من الراحة اذ لم يكن هناك اسهل من تلبية هذا الطلب ولكني قلت له ياسيادة رئيس الوزراء اسمح لي بأن اقول رايي الشخصي وهواني اخشي ان ابعث الي القاهرة بمثل هذا الطلب لاننا وقد بدأنا صفحة جديدة اخشي ان تفسر السلطات في مصر هذا الطلب علي انه موقف ريبة وشك في نياتنا وقد شرحت لك تعليماتي التي تلقيتها قبل عودتي من مصر من كلام الرئيس جمال عبدالناصر وزير خارجيتي نطق‏:‏اني اصر علي تلقي الرد علي سؤالي‏:‏ هل هبطت هذه الطائرات المصرية في ستانلي فيل أم لا،يا ترى؟ قلت‏:‏ سأعمل ذلك ولكني اردت ان استرعي نظرك فقط الي ان مثل هذا قد يؤدي الي ايجاد جومن الريبة والشك،يا ترى؟ نطق‏:‏ متي تستطيع ابلاغي بهذا الرد هل لديكم اتصال مباشر بالقاهرة،يا ترى؟ قلت‏:‏ نعم لدينا محطة لاسلكي مباشرة مع القاهرةنطق‏:‏ ومتي يصلني الرد قلت‏:‏ في خلال يومين اوثلاثة نطق‏:‏ هذا وقت طويل قلت‏:‏ ياسيادة رئيس الوزراء اذا تلقيت ردا قبل ذلك فسأوافيك به علي الفوري نطق‏:‏ أني في انتظار ردك وقام وصافحني وانصرفت‏.‏


لا حياة لمن تنادي

عدت علي الفور الي السفارة وارسلت برقية مشفرة عاجلة الي الوزارة بما وقع ولفت النظر الي خطورة الموقف وان مثل هذه التصرفات ان كانت قد حدثت فيها تهديد خطير للرعايا المصريين في الكونجووللسفارة نفسها بل من الممكن تؤدي الي بتر العلاقات بين البلدين‏,‏ وفي اليوم التالي ارسلت برقية اخري ثم برقية ثالثة ورابعة في الايام التالية دون ان اتلقي اي رد ولا حياة لمن تنادي‏!‏

وفي اليوم الخامس اوالسادس تلقيت طلبا من وزارة الخارجية الكونجولية بالتوجه الي مخط رئيس الوزراء تشومبي في الساعة الحادية عشرة قبل الظهر‏.‏

ومضىت الي مخطه حيث استقبلني رئيس الوزراء علي الفور بوجه باسم بشوش وبترحاب لم أكن اتسقطه‏,‏ ونادىني الي الجلوس معه في الصالون الملحق بمخطه وقدم لي كوبا من البيرة الكونجولية ثم سألني اذا كنت قد تلقيت ردا من القاهرة بشأن موضوع الطائرات واجبت‏:‏ نعم ياسيادة رئيس الوزراء وقد نفت القاهرة تماما ارسال طائرات اوشحنات اسلحة الي ستانلي فيل وفي الوقت نفسه ابدت عدم ارتياحها لهذا التقول وانه يتنافي مع الروح الجديدة التي تتبناها القاهرة في اقامة علاقات طيبة وايجابية مع جمهورية الكونجوالصديقة

واضفت بأن الوزارة عبرت عن قلقها من جراء الاتهامات التي وجهت إلي الجمهورية العربية المتحدة بالتدخل في الشئون الداخلية لدول افريقية في الوقت الذي تسعي فيه الجمهورية العربية المتحدة الي بداية صفحة جديدة في بناء علاقات وثيقة مع الكونجرس كدولة افريقية لها مكانتها واهميتها‏.‏

واستقبل اجابتي بتقبل ونطق‏:‏ حسنا لقد ارتاحت نفسي الان وادهشني التحول المفاجئ في موقفه ولم ادر خلفيته وهل كانت حكاية انزال الطائرات المصرية شحنات من السلاح في ستانلي فيل حكاية مختلقة اوبناء علي معلومات غيرسليمة وبطبيعة الحال لم أكن استبعد اقدام الجمهورية العربية المتحدة علي مثل هذه المستوى فهي كانت تعتقد وعن حق ان تشومبي ليس الا عميلا للاحتكارات الرأسمالية في دولة الكونجوذات الامكانيات والثروات الهائلة وانها بالتالي لن تضع فيه اي جذور من الثقة خاصة بعد الدور الذي لعبه في انفصال كاتانجا فضلا عن انها متعاطفة تماما مع انطوان جيزنجا خليفة لومومبا في قيادة الحركة الوطنية من قاعدته في ستانلي فيل‏,‏ وانها تتطلع الي نجاح هذه الحركة وسيطرتها علي الكونجوجميعا عن طريق العناصر الوطنية المنتشرة في اراتى الولايات الكونجولية‏.‏

ولم افهم سر هذا التحول في موقف تشومبي الا بعد اسابيع عندما قام السفير الامريكي ماكجودلي بزيارتي في مخطي ردا علي الزيارة التي قمت بها له قبل اسابيع فقد اثرت معه سيرة اتهام تشومي للجمهورية العربية المتحدة بارسال طائرات تحمل شحنات عسكرية الي انطوان جيزنجا في ستانلي فيل فنطق السفير‏:‏

ان ما وقع هوانه كان مجتمعا مع كازافوبووتشومبي في قصر الرئاسة عندما وردت لهم معلومات برقية بان هناك طائرات تقوم بانزال شحنات من الاسلحة والذخيرة في ستانلي فيل وانه اي السفير الامريكي اتصل علي الفور بالقاعدة الجوية الامريكية في ميتونا‏(‏ داخل الكونجو‏)‏ لارسال طائرات لاستطلاع حقيقة الامر وانه عندما وصلت هذه الطائرات الي ستانلي فيل لم تجد اثرا لمثل هذه الطائرات وانه ابلغ كازافوبووتشومبي بذلك‏.‏

وبعدها بسنوات سألت الاستاذ محمد فائق الذي كان مسئولا عن الشئون الافريقية في عهد عبدالناصر عن موضوع الطائرات فنطق ان مصر ارسلت بالعمل طائرات تحمل اسلحة وذخيرة الي ستانلي فيل ولكنها لم تكن تحمل علامات الجمهورية العربية المتحدة وانما كانت طائرات مستأجرة‏(CHARTERED)‏ وكان يقودها امريكيون غير رسميين لقاء اجر وان هذه العملية تمت بواسطة الشريف الهندي من السودان‏.‏ واعود الي لقاءتي مع تشومبي في مخطه فقد فنطق اني حقيقة ارغب علي الفور في اقامة علاقات ممتازة بين الكونجووالجمهورية العربية المتحدة في جميع المجالات التجارية والاقتصادية بل السياسية وانه يكن احتراما وتقديرا خاصا للرئيس عبد الناصر فكيف في رايي نبدأ مثل هذه العلاقات علي الفور؟‏!‏

وفوجئت بهذا الطلب وقلت هل تسمح لي ياسيادة رئيس الوزراء ان اتحدث معك بصراحة متناهية كأخ افريقي راغب في توثيق العلاقات بين بلدينا،يا ترى؟ نطق بطبيعة الحال تفضل فاني اسمعك قلت ياسيادة الرئيس اسمح لي ان اؤكد اولا اني كسفير للجمهورية العربية المتحدة مهمتي الاولي واملي هوالوصول بالعلاقات بين بلدينا الي الذروة ولكني من الناحية الثانية ادرك ان هذه عملية قد تقتضي بعض الوقت لازالة جوالريبة والشكوك الذي احاط بهذه العلاقات واستعادة الثقة بين البلدين وان عملية انفصال كاتانجا قد اثارت شكوكا عميقة لدي الكثيرين خاصة في مصر التي تتطلع الي وحدة هذه القارة وتعاونها علي أكمل وجه في معالجة اثار الاستعمار الذي عانينا منه جميعا‏.‏

واني علي فهم جيدة بأنة قبل الاقدام علي تقارب اكثر يجب البدء في نسج هذه العلاقات علي اسس متينة واستعادة الثقة في بعضنا البعض وقد فكرت بعمق في كيفية التوصل الي ذلك وانتهيت في تفكيري الي ان هناك فترة تمهيدية قد تأخذ وقتا طال اوقصر في بناء هذه الثقة من حديث وبالتالي ـ وانا اعهد ببلدي ـ لابد من فترة زمنية حتي تذبل ذكريات انفصال كاتانجا من جهة ومن الجهة الثانية تتأكد القاهرة وتتثبت من ان سياستك ستكون ايجابية في النطاق الافريقي ولاشك في ان بناء هذه الثقة يحتاج الي بعض الوقت وانا من ناحيتي اعدك بان تكون تقاريري الي حكومتي ايجابية بشأن جميع خطوة تتخذها في هذا السبيل بل بيني وبينك ـ سأبالغ في تقدير وامتداح جميع خطوة تخطوها في هذا الصدد‏,‏ وانت تذكر موقف الدول الافريقية في مؤتمرالقمة الافريقي الذي لم يمض علي اجتماعه الا وقت قصير حيث اتخذت هذه الدول بما يشبه الاجماع قرارا بعدم مشاركتك فيه بالنظر الي دورك في انفصال كاتانجا الذي مازال حيا في الاذهان ارجوان تضع ثقتك في ياسيادة رئيس الوزراء وسأتابع جميع خطوة ايجابية في طريق الوحدة الافريقية بل ساحسبها لحكومتي‏,‏ وانا واثق بأن قليلا من الزمن سيصلح العلاقات بينك وبين مصر وسائر الدول الافريقية‏.‏

فرد علي تشومبي قائلا‏:‏ ولماذا إضاعة الوقت في الانتظار ونحن نستطيع البدء فورا في نسح العلاقات وبيننا وبينكم،يا ترى؟

قلت ياسيادة رئيس الوزراء ارجوان تضع ثقتك الكاملة في ثم ان هناك عقبات لا تزال قائمة تحول دون سرعة تطبيع العلاقات نطق مثل ماذا،يا ترى؟

وحرت في الاجابة علي هذا السؤال اذ لم يرد علي تصوري امكان تطوير العلاقات طفرة واحدة وانا افهم العداء بل الكراهية الشديدة المستحكمة له في القاهرة‏,‏ وانعدام الثقة فيه كلية وفكرت قليلا ثم قلت علي سبيل التعجيز علي سبيل المثال هناك بعثة عسكرية اسرائيلية هنا تتولي تدريب الجيش الكونجولي ونحن نقوم بتدريب الكثير من الجيوش الافريقية وانت لابد ان تفهم العلاقة بيننا وبين اسرائيل.

سكت ونظر الي طويلا وبعد برهة تجاوزت الخمس دقائق نطق‏:‏ انني رجل اعمال وفي امكاني طرد هذه البعثة فماذا انتم مستعدون لتقديمه لي لقاء ذلك،يا ترى؟

واسقط في يدي وفكرت بدوري بعض الوقت ان هذا سيكون خطوة كبيرة في استعادة الثقة بك ولكن وحدها لاتكفي اذ صدقني ان الامر يحتاج الي فترة زمنية معينة وتواتر في تقاريري بكل شئ ايجابي تقوم به في طريق دفع الوحدة الافريقية واذا اتخذت هذه المستوى فستكون قد بترت شوطا كبيرا في استعادة ثقة القاهرة وانتهت اللقاءة وقد استغرقت اكثر من ساعة وعدت الي مخطي لأحيط القاهرة بما جري وكالعادة لم يصلني اي رد اوتعليق اوتوجيه‏!‏


طبق من لحم الغزال

ومضي نحواسبوعين واذا بي اتلقي دعوة علي العشاء في مسكن رئيس الوزراء ومضىت لاجد نفسي السفير الوحيد عدا سفير ساحل العاج ثم مجموعة من وزراء تشومبي واصدقائه الكونجوليين ولم يتطرق الحديث قبل العشاء اوبعده الي السياسة وفي اثناء العشاء نطق لي لقد طلبت اعداد طبق لك من لحم الغزال الذي من الممكن لا تكون قد تذوقته من قبل وانتهي العشاء‏.‏

وبعدها بايام نادىني الي مخطه حيث قدم لي سيدة كونجولية يظهر عليها البؤس والفقر نطق لي انها احدي زوجات لومومبا وانها لم تنجب اطفالا وترغب في السفر الي القاهرة لتزور زوجة لومومبا واولاده الذين نجحت السفارة المصرية في تهريبهم الي مصر وقت اشتداد الازمة بالنسبة للومومبا وكان القصد بطبيعة الحال هومحاولة استمالتنا اليه وانه يتعاطف مع لومومبا الذي يدرك مكانته في مصر‏.‏

وظللنا في السفارة نحلل ما نطقه تشومبي لي بشأن تزويد مصر لثوار ستانلي فيل بالاسلحة والذخائر ثم تحوله المفاجئ في اللقاءة الثانية خاصة في المجالات السياسية والاقتصادية الي حد ابداء استعداده لطرده البعثة العسكرية الاسرائيلية من الكونجوفي لقاء الحصول علي اعتراف الجمهورية العربية به وبدء صفحة جديدة في العلاقات معه‏.‏

وادهشنا في هذا الصدد عدم اثارته لموضوع رفض مشاركته في مؤتمر القمة الافريقي في القاهرة والذي يشكل اهانة وصفعة له بكل المعايير علي المستوي الافريقي والدولي‏,‏ برغم ان الكونجواحدي الدول المسقطة علي ميثاق الوحدة الافريقية والذي قامت علي اساسه منظمة الوحدة الأفريقية في‏1963‏ فضلا عن ان الثورة كانت مشتعلة في اقليم ستانلي فيل وكان يدرك ان في وسع القاهرة ممارسة الضغوط عليه من هذا المنطلق‏.‏

ولم نلبث ان اكتشفنا السر والسبب‏، والذي قفز الي عقولنا فجأة وهوانه كان من المقرر عقد مؤتمر دول عدم الانحياز في شهر سبتمبر ‏1964.‏

واين يعقد المؤتمر،يا ترى؟ في القاهرة ايضا التي حالت دون مشاركته في مؤتمر القمة الافريقي والقادرة تماما ـ كما وضح له ـ علي اثارة المشكلات امام مشاركته في هذا المؤتمر العام ـ والقضاء علي مستقبله السياسي‏.‏

كان تشومبي يدرك تماما خطورة انعزاله كما تمثل في رفض اشتراكه في مؤتمر القمة الافريقي‏,‏ وان مشاركته مؤتمر عدم الانحياز هوفرصة العمر لرد اعتباره علي المستوي الافريقي بل علي المستوي الدولي اذا ان مؤتمر عدم الانحياز اوسع نطاقا والي جانب عضوية الدول الافريقية بكاملها فيه فانه يضم ايضا غالبية الدول الاسيوية ودول امريكا اللاتينية بالاضافة الي يوجوسلافيا‏.‏

ومجرد دعوته ومشاركته في هذا المؤتمر تفتح امامه افاقا فسيحة وتسهم في اسدال ستار النسيان عن ماضيه الانفصالي وبداية صفحة جديدة خاصة وهويرتكز علي قاعدة راسخة بوصفه رئيس وزراء الكونجووهي من اغني واهم وأكبر الدول الافريقية علي الاطلاق‏.‏

المصادر

  1. ^ مجدي الحسيني (2007-03-21). "صفحات مجهولة من مذكرات وزير الخارجية الأسبق محمد إبراهيم كامل". المحطة (مسقط إلكتروني) عن الأهرام 22 أغسطس 2002 - حكايات من الذاكرة. Retrieved 2010-05-24.
تاريخ النشر: 2020-06-04 08:42:44
التصنيفات: 1964 في مصر, العلاقات الكونغولية الديمقراطية المصرية, ثورة الكونغو

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

روسيا تحتل المرتبة 50 في العالم من حيث التضخم

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-04-09 09:17:40
مستوى الصحة: 90% الأهمية: 96%

التشيك لأول مرة تصنف روسيا والصين كتهديد لأمنها

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-04-09 09:17:30
مستوى الصحة: 81% الأهمية: 99%

رسائل تركيّة لحزب طالباني.. خفايا ضرب مطار السليمانية

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-04-09 09:19:37
مستوى الصحة: 78% الأهمية: 88%

إصابات بإطلاق نار في مركز تجاري بشمال شرق الولايات المتحدة

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-04-09 09:17:33
مستوى الصحة: 87% الأهمية: 96%

استردوا أرضاً من حزب الله.. مئات من سرايا السلام ينتشرون في بغداد

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-04-09 09:19:35
مستوى الصحة: 80% الأهمية: 94%

ليبيا تُعيد افتتاح بئر نفط وغاز في البحر المتوسط

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-04-09 09:19:54
مستوى الصحة: 95% الأهمية: 87%

انهيار مبنى سكني في مرسيليا الفرنسية (فيديو)

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-04-09 09:17:41
مستوى الصحة: 89% الأهمية: 95%

سوناك يشيد باتفاق السلام في ايرلندا الشمالية ويعتبره "لحظة رائعة"

المصدر: فرانس 24 - فرنسا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-04-09 09:17:20
مستوى الصحة: 77% الأهمية: 96%

قائد قسد عن محاولة اغتياله: أردوغان يعمل لخط الأوراق

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-04-09 09:19:02
مستوى الصحة: 75% الأهمية: 91%

سياسي فرنسي يسخر من فون دير لاين بعد تعرضها "للإهانة" في الصين

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-04-09 09:17:36
مستوى الصحة: 91% الأهمية: 97%

فصيل لواء القدس يتبنى قصف الجولان.. فمن هو؟

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-04-09 09:19:04
مستوى الصحة: 93% الأهمية: 87%

آخر أخبار الرياضة من العربية:

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-04-09 09:20:00
مستوى الصحة: 87% الأهمية: 88%

"ديوا" تعلن إطلاق القمر الاصطناعي النانوي الثاني الشهر الحالي

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-04-09 09:19:48
مستوى الصحة: 78% الأهمية: 91%

خمسة جرحى في انهيار مبنى في مدينة مرسيليا الفرنسية

المصدر: فرانس 24 - فرنسا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-04-09 09:17:22
مستوى الصحة: 89% الأهمية: 94%

أبْعِدُوا القضاء عن صِراعاتكم

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-04-09 09:19:41
مستوى الصحة: 83% الأهمية: 87%

وثائق البنتاغون.. هذا ما سربته عن فاغنر وتهريب السلاح

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-04-09 09:18:19
مستوى الصحة: 84% الأهمية: 100%

"مبكو" تبدأ التشغيل التجريبي لمشروع "جذور"

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-04-09 09:19:57
مستوى الصحة: 77% الأهمية: 90%

الصين تواصل مناورات ضرب تايوان.. وواشنطن تراقب مطمئنة

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-04-09 09:18:20
مستوى الصحة: 86% الأهمية: 96%

صدام وقف ببغداد وراقب بأم عينيه تمثاله يسقط.. شاهد يؤكد

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-04-09 09:19:36
مستوى الصحة: 91% الأهمية: 86%

آخر الأخبار من العربية:

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-04-09 09:20:03
مستوى الصحة: 81% الأهمية: 96%

تحميل تطبيق المنصة العربية