دراسة في السيكولوجية الجنسية (كتاب)

'''''
المؤلف
الناشر
الإصدار

دراسة في السيكولوجية الجنسية كتاب سيغموند فرويد عام 1928.

المقدمة

في بداية الفصل الأول من دراسته حول فن ليوناردودافنشي وحياته والمعنونة «دراسة في السيكولوجية الجنسية»، يقول لنا سيغموند فرويد: «حينما يتناول منهج التحليل النفسي - الذي يكتفي عادة بالمادة الانسانية الضعيفة - الشخصيات العظيمة في تاريخ البشرية، فإنه في الحقيقة لاقد يكون مدفوعاً الى ذلك بعمل الدوافع التي اعتاد عوام الناس ان ينسبوها اليه. فهوأبداً لا يعمل على «تدنيس ما نقي، أوالى جر ما سام الى الوحول»، ذلك لأن منهج التحليل النفسي لا يجد اشباعاً له في هدم المسافة بين كمال العظماء وتفاهة الأمور العادية. لكنه، في اللقاء، لا يجد مندوحة من اكتشاف أي شيء يستحق الفهمقد يكون قابلاً للادراك بين تلك النماذج. كما انه يؤمن كذلك بأن ما من أحد هومن العظمة حيث يخجله حتىقد يكون موضوعاً للقوانين التي تحكم الأفعال السوية والأفعال المعتلة بالدقة نفسها...» وما يقوله فرويد هنا عن دافنشي، ينطبق في الحقيقة أيضاً على مبدع آخر، هوفي مجاله، يضاهي دافنشي ومكانته في فن الرسم، كما انه يحمل في طيات حياته من العناصر ما يسهل على الباحث حتى يفهم تلك الحياة وما امتلأت به من ابداع، على ضوء تلك العناصر. ونعني هنا دوستويفسكي، المحرر الروائي الروسي العظيم، الذي طالما أغرى الباحثين والنقاد بألا يدرسوا أدبه، لا سيما رواياته الكبرى، إلا ّعلى ضوء حياته. ففي الواقع يمكن لنا دائماً حتى نكتشف ان حياة دوستويفسكي وكتاباته، كانت من الاتصال في ما بينها الى درجة مدهشة. وطبعاً ما كان في امكان محلل سيكولوجي مؤسس من طينة فرويد، حتى يمر بذلك كله مرور الكرام. سليم ان النص الذي خصصه فرويد للحديث عن دوستويفسكي كان قصيراً، لكنه يعتبر في الوقت نفسه واحداً من أعمق ما خط صاحب «فهم الاحلام» و«الهذيان والأحلام في الفن» عن أديب أوفنان. ذلك ان ما اعطانا اياه فرويد هنا هومفتاح لفهم شخصية المحرر الروسي على ضوء بعض أعماله، وأكثر من هذا: مفاتيح آتية من أعمال دوستويفسكي نفسها، لتضيء حياته.

المضمون

منذ البداية يقول فرويد، في نصه هذا الذي خط في العام 1928، انه يمكن لنا ان نمّيز في شخصية دوستويفسكي الغنية، بين أربع سمات: الفنان المبدع، رجل الأخلاق، الإنسان العصابي، والآثم. ثم يسأل فرويد عن الكيفية التي سيستطيع بها المرء حتى يجد طريقه وسط هذا التعقيد المحير،يا ترى؟ هنا يفيدنا فرويد حتى «الفنان المبدع في دوستويفسكي هوأقل سماته منادىة للشك» لأن «مكانة دوستويفسكي لا تبعد كثيراً عن مكانة شكسبير» كما ان رواية «الأخوة كارامازوف» هي «أعظم رواية خطت على الإطلاق». والحقيقة هي حتى هذه الرواية، هي، الى جانب رواية «المقامر» وبعض الأعمال الأخرى لدوستويفسكي، هي ما يعتمد عليه فرويد للوصول الى ما يصل اليه من استنتاجات. ولعل من أطرف وأغرب هذه الاستنتاجات ما يتعلق بـ «سقم الصرع» الذي قيل دائماً إذا دوستويفسكي كان يعاني منه. فهنا يفيدنا فرويد، في فقرات هي الأكثر منادىة للسجال والاستغراب، بأن دوستويفسكي كان «يعتبر نفسه ذا صرع، كما ان الناس كانوا يرونه كذلك نظراً لنوبات الصرع الحادة التي كانت تأتي لديه مصحوبة بغياب الشعور، اضافة الى تصلبات عضلية يتبعها هبوط». والآن - يقول فرويد - «أصبح من المحتمل أكثر ان ما كان يسمى صرعاً لدى دوستويفسكي، لم يكن إلا عرضاً من أعراض عصابه، وينبغي حتى يشخّص تبعاً لذلك بأنه عصاب هستيري، أي انه هستيريا حادة». سليم هنا حتى فرويد - بحسب ترجمة سمير كرم لهذا النص، الصادرة عن «دار الطليعة» في كتاب عنوانه «التحليل النفسي والفن» - يقول «... ونحن لا نستطيع حتى نكون على يقين تام من هذه النقطة لسببين: أولاً، لأن معلوماتنا عن تاريخ صرع دوستويفسكي المزعوم قاصرة وغير موثوق بها، وثانياً، لأن فهمنا للحالات السقمية المرتبطة بنوبات ذات مظهر صرعي فهم ناقص»، لكنه سرعان ما يفيدنا من خلال تحليل نصوص دوستويفسكي، ان هذا الصرع لا يمكنه حتىقد يكون سقماً عضوياً حقاً. وحينما يتوقف فرويد عند دلالة العلاقة بين الصرع وبين الموت، يفيدنا إثر تحليل مستفيض ان هذا النوع من النوبات يصبح له قيمة العقاب، بالتدريج ما يعني حتى صاحب النوبةقد يكون في الأصل راغباً في موت إنسان آخر، ليصل الى الرغبة في حتىقد يكون هوهذا الشخص. والنتيجة،يا ترى؟ هذه النوبة هي عقاب للذات على رغبة في الموت موجهة ضد أب مكروه. وإذ يستفيض فرويد هنا قائلاً ان جريمة اغتال الأب هي الجريمة الأولى في البشرية، ينتقل بعد حين الى عقدة أوديب ومنها الى «الأخوة كارامازوف»، ليقارن بين اغتال الأب فيها، وبين اغتال الأب في «هاملت» شكسبير. ففي حين تحرص مسرحية «هاملت» على ألا يقتل الأب بيد الابن بل بيد إنسان آخر (اسقاطيا)، تخطورواية دوستويفسكي خطوة أبعد: سليم ان الجريمة ترتكب هنا أيضاً بيد إنسان آخر... لكن هذا الشخص هو، أيضاً، ابن الأب المقتول، ويخضع لتأثيرات عنيفة من قبل ابن آخر له. فإذا أضفنا الى هذا «تعاطف دوستويفسكي مع القاتل تعاطفاً لا حدود له» يصبح من المنطقي اعتباره ينظر الى القاتل كـ «مخلص»...

ومن اغتال الأب، بحسب التحليل الفرويدي، الى الانغماس في القمار، خطوة سيكولوجية واحدة، قد يظهر وجودها مستغرباً، لكن فرويد يخطوها في هذا البحث القصير دونما وجل. فيقول لنا: «لقد ألقى نشر كتابات دوستويفسكي بعد وفاته، ونشر يوميات زوجته، ضوءاً ساطعاً على حادثة مهمة في حياته، أعني الفترة التي قضاها في ألمانيا، حينما كان مدفوعاً الى هوس المقامرة». وهذا الهوس نجده في الحقيقة، في أعمال عدة لدوستويفسكي، لكننا نجده بخاصة في رواية أساسية له هي «المقامر». وإذ ينقل فرويد عن المحرر الروسي قوله في إحدى رسائله: «اقسم ان التوق الى المال لا شأن له عندي بلعب القمار، على رغم ان الله نفسه يفهم كم انني في حاجة الى المال»، يصبح من المنطقي للمحلل النفسي حتى يبحث عن النزوع الى القمار لدى دوستويفسكي في مجالات يمكن حتى تخضع للدراسة النفسية: إلى غير ذلك يرى فرويد حتى القمار كان بالنسبة الى المحرر «طريقة أخرى لمعاقبة الذات» وللدلالة على هذا، لا يفسر لنا فرويد رواية دوستويفسكي، بل انه يستمد التفسير من رواية لمحرر آخر هوستيفان زفايغ، الذي كان أصلاً قد خص دوستويفسكي بدراسة. إلى غير ذلك، إذ يقارب فرويد بين المحررين، يعود الى تحليله لدوستويفسكي وعلاقة طفولته بالقمار وبمعاقبة الذات ليختم قائلاً: «اذا كان الهوس بالمقامرة - مع الصراعات الفاشلة لتحطيم هذه العادة والفرص التي يقدمها لمعاقبة الذات - تكراراً للدافع الى الاستمناء، فلن ندهش اذا اكتشفنا ان هذا الهوس بالمقامرة يشغل مكاناً كبيراً كهذا في حياة دوستويفسكي. ونحن لا نجد - بعد جميع هذا - حالات من العصاب الشديد لم يلعب فيها الاشباع الشبقي الذاتي في الطفولة والبلوغ دوراً ما. والعلاقة بين الجهود التي تبذل لقمعه والخوف من الأب، معروفة جيداً حيث لا بحاجة الى أكثر من حتى تذكر».

إن فرويد، الذي خط معظم دراساته في التحليل السيكولوجي للفن في فترة متأخرة من حياته، كان ينطلق من سؤال جوهري هو: ما هي امكانات التحليل النفسي في تفسير الأعمال الأدبية... والأعمال الفنية بوجه عام،يا ترى؟ وهوأوصل الجواب الى وضعية بيّنت حتى «الفرويدية لا تكتفي بالبحث عن توكيد لأطروحاتها في الأعمال الفنية، ولا بأن تطبّق على الشخصيات التي أبدعتها مخيلة الفنان قوانين الحياة النفسية لدى العصابيين، بل تتطلع الى تفسير عملية الإبداع الفني بالذات والى بيان الكيفية التي بها بنى الفنان عمله». وما هذا النص عن دوستويفسكي، سوى مرشد على هذا التوجه الذي سار فيه سيغموند فرويد (1856 - 1939)، في فترة متقدمة من تطوره، هوالذي كان اكتشف التحليل النفسي واضعاً عشرات النصوص التي لا تزال حية الى اليوم.