الجيوش العربية أمام مفترق الطرق (مقال)

عودة للموسوعة

الجيوش العربية أمام مفترق الطرق (منطق)


الجيوش العربية أمام مفترق الطرق

للمحرر: منصف المرزوقي




في القرار 1514 الصادر بتاريخ 14 ديسمبر/كانون الأول 1960 للجمعية العامة للأمم المتحدة، نقرأ: لدينا قناعة بأن طريق التحرر غير قابل للتراجع وأنه لتفادي أزمات خطيرة يجب وضع حدّ للاستعمار ولكل ممارسات التفرقة التي تصاحبه.

نصف قرن بعد هذا الموقف نقرأ لنفس الجمعية العامة في إعلان سبتمبر/أيلول 2007 الاعتراف بحق تقرير المصير للشعوب الأولى الأصلية التي وجدت نفسها -كما هوالحال في كندا وأميركا والبرازيل وأستراليا- خارجية في الأرض التي ولدت عليها.

القاسم المشهجر بين الحالتين حتى حق تقرير المصير هودوما بالنسبة لمحتلّ يأتي من خارج أرض الآباء والأجداد. لكن لا شيء في أدبيات الأمم المتحدة عن الاحتلال الداخلي، الاسم الآخر للدكتاتورية، وهوأشرس أنواع الاحتلال وأكثرها انتشارا.

""

كم مضحك مبكٍ حتى أغلب الشعوب التي قيل إنها تحررت من الاستعمار في ستينيات القرن الماضي، لم تعمل سوى استبدال احتلال باحتلال " "

كم مضحك مبكٍ حتى أغلب الشعوب التي قيل إنها تحررت من الاستعمار في ستينيات القرن الماضي، لم تعمل سوى استبدال احتلال باحتلال. وفي بعض الأحيان قد استبدلت بالسيئ الأسوأ.


لمن يرفض مفهوم الاحتلال الداخلي ويعتبره من باب البلاغة والمبالغة، نذكّره بأن الاحتلال بمفهومه الواسع هوالتمكن من الفضاء الحيوي لشخص أوشعب والتحكم فيه بالقوة، لاستغلال موارده المادية والمعنوية للصالح الخاص دون أدنى اعتبار للصالح الآخر، اللهم إلا ما يكفل إبقاءه على قيد الحياة وعدم اللياذ ويحول دون لجوئه للتمرّد، ضمانا لمواصلة استغلاله.

وسواء احتلّك أجنبي أوابن عمّك فالحالة متشابهة في الخصائص الأربع التي تُعَرف جميع احتلال: استنزاف الخيرات لصالح أقلية، وتغليف الأمر بقناع سياسي للتمويه لإيهام الناس بأنهم يعيشون في ظل نظام يضمن التحضّر أوالتقدم، والقبضة الأمنية للإبقاء على الوضع، واحتقار الحكام للمحكومين بامتهان حقوقهم وترويعهم بالرعب المستديم والمراهنة الدائمة على الجبن والخنوع فيهم.


ما يتناساه الناس هوحتى الاحتلال الداخلي في تاريخ الشعوب هوالقاعدة. أما الاحتلال الخارجي فهوالحالة الشاذة أوالحادث التاريخي العابر. عملى امتداد تاريخنا العربي الإسلامي كانت المجموعات المتنفذة المحلية هي التي كانت تستعبد شعوبنا وأحيانا دون قناع كما نراه من مقولة يزيد بن معاوية بن أبي سفيان يوم اعتلائه سدة الخلافة "يا أيها القوم، المال مال الله وأنا خليفة الله، الأرض لله، وأنا خليفة الله، فما آخذ من مال الله فهولي وما هجرت منه كان جائزا لي، ما جمعتم فهولي وما هجرت لكم فالفضل مني".

انظر لما عاناه الشعب الكمبودي في بداية السبعينيات من مجازر جماعية كادت تبيده عن بكرة أبيه، لا على أيدي غزاة خارجيين وافدين وإنما على أيدي جيشه وقد استسلم لأيديولوجيا مجنونة. انظر لما يتعرض له إلى اليوم شعب بورما أوشعب كوريا الشمالية، أولما يتعرض له –هنا في عقر دارنا- الشعب السوري أوالليبي وشعوب عربية وأفريقية أخرى غيرهما.


إنها الظاهرة الرهيبة التي تربطنا بجذورنا البدائية، وحتى كي لا نقول الحيوانية. لأن القاعدة في عالم الطبيعة هي الصراع الذي لا يرحم، ولا حق غير حق قوة بلا مساحيق.


وسواءً أكان الاحتلال داخليا أم خارجيا فإن ركيزته الجيش الذي يحمي بقاء المنظومة الاستبدادية ويفوّض لأجهزة "الأمن" (أمن المحتلين الداخليين) مهمة متابعة المحتجين الفرديين فرادى، ليتدخل عندما يقتضي الأمر لقاءة انتفاضات جماعية، كما هوالحال اليوم في ليبيا وسوريا.

يا للمنظر المريع الذي وثقته إلى الأبد صور بثتها قناة الجزيرة والتقطتها هواتف المواطنين: دبابات ضخمة تزأر وتزحف على أهل درعا.. على شعب ليس عدوّا أومغزوّا، وإنما الذي هونفسه من دفع ثمن هذه الدبابات من قوت أطفاله لتحميه، فإذا بها تسحقه سحقا.

يا للمنظر الرائع ونفس الصورة تظهر شبابا يقابلون مدافعها ورشاشاتها بحجارة يقذفونها على رمز وأداة العنف والقهر، تحديا وإصرارا على حتى قوة الشرعية أقوى من شرعية القوة.

بربكم ألا تُذَكّرُكم هذه الصورة بما يحدث في غزّة،يا ترى؟ وما الفرق إذا لم يكن حتى ظلم ذوي القربى أشد مرارة؟

""

الجيش السوري، مواجَه بأضخم امتحان في تاريخه وتاريخ شعبه، فإما حتى يبقى جيش احتلال داخلي, وإما حتى يصبح الأداة التي ستُعجل ببروز شمس الحرية " "

وهذا الجيش السوري، مثْله مثل بقية الجيوش العربية، مواجَه بأضخم امتحان في تاريخه وتاريخ شعبه: حتى يبقى جيش احتلال داخلي متزايد الغربة عن الوطن الذي يَدعي حمايته، أوحتى يصبح الأداة التي ستُعَجل ببروز شمس الحرية.

يا له من تحد هائل أمام مؤسساتنا العسكرية التي لعبت طوال تاريخنا الحديث أدوارا معقدة وأحيانا متناقضة في جدلية الاستعباد والتحرّر. حقا إذا للجيوش العربية تواريخ مختلفة في هذا المضمار، فالجيش المصري الذي ساهم في التحرر من المحتل الداخلي سنة 1952 ومن المحتل الخارجي سنة 1973 هوالذي شكّل نادىمة الاستبداد طيلة حكم مبارك، إلى حتى تحول في تلك اللحظة المباركة إلى جانب الشعب في ثورة يناير 2011.

هناك الجيش المغربي الذي فشل في انقلاب الصخيرات ومن يومها وهوركيزة النظام. هناك الجيش السعودي الذي لم يتجاسر يوما على أولياء الأمر. هناك الجيش الجزائري الذي شكل ولا يزال يشكل العمود الفقري للاستبداد والفساد، بعد حتى كان لنواته الأولى فضل كبير في تحرير البلاد من نير الاستعمار الفرنسي.

لكن رغم تباين الأوضاع والتواريخ، فإن جميع هذه الجيوش تقف اليوم أمام نفس مفترق الطرق. فالثورة الديمقراطية التي تعصف بالأمة وقد قرّ قرار شعوبها على تحقيق استقلالها الثاني مهما كان الثمن، لا تهجر من خيار للجيوش إلا طريقين اثنين لا ثالث لهما.


الأول هوالمبنِي على العقيدة القديمة: الجيش نادىمة النظام السياسي القائم، لا يهمّ بغض النظر عن مدى شرعية ذلك النظام أوعما يرتكبه من تجاوزات تكاد –لفرط تداولها- تُعْتَبَرُ من الأمور الطبيعية في ممارسة السلطة. وهوالعمود الفقري -على الأقل بالنسبة للقيادات العليا- لهذا النظام. ويحصل بموجب تلك الشراكة العضوية على جزء من الغنيمة تشتري بها لقاء ولائه لعصابات الحق العام التي استولت على دولنا ولاءه.

والثاني هوالمبني على عقيدة عسكرية بدأت تتضح معالمها، قوامها حتى الجيش ليس في خدمة النظام بفساده المشين وإنما هوفي خدمة شعب فهِم حتى عدوه الأول ليس شعبا أودولة خارجية وإنما العصابات الإجرامية التي تمتص دمه وتعفّر كرامته في التراب. وأفظعها تلك الأنظمة، التي ترتكب جميع هذه الجرائم تحت غطاء الوطنية والقومية وما إلى ذلك من الترهات التي لم تعد تبرّر شيئا أوتُقبل من أحد إلا إذا كان غبيا أومتواطئا.


من بين هاتين العقيدتين المتناقضتين يتمّ خيار سيحدّد الثمن الذي ستدفعه شعوب لن تقبل بالعودة لوضع ما قبل انطلاق أول ثورة عربية يوم 17 ديسمبر/كانون الأول 2010 في مدينة سيدي بوزيد.

""

الامتحان المطروح اليوم أمام مكونات الجيوش العربية هو: بأي عقيدة تلتزم من هنا فصاعدا وأي النموذجين تختار: الحكام أم الشعوب،يا ترى؟ " "

فالامتحان المطروح اليوم أمام مكونات الجيوش العربية وخاصة القيادات الكبرى هو: بأي عقيدة نلتزم من هنا فصاعدا وأي النموذجين نختار،يا ترى؟ الذي اختاره الجيش التونسي والمصري، أوالذي انزلق فيه الجيش السوري واليمني والبحريني (ناهيك عن كتائب القذافي) أوالذي قد ينزلق فيه غدا -لا قدّر الله- الجيش الجزائري أوالمغربي أوالسعودي أوالموريتاني؟


إن خيار الاصطفاف وراء النظام الفاسد بالحجج الواهية التي لم تعد تقنع أحدا، من حفظ النظام العام والاستقرار، لا يعني سوى اغتال آلاف المدنيين العزّل بأسلحة دفَعَ الشعب ثمنها ووضعها بين أيدي جيشه لتحميه.

بمثل هذا الانقلاب على الوظيفة الطبيعية للمؤسسة العسكرية تنهار جميع قيمة معنوية للجيش، فإراقة دم من سيعتبرهم التاريخ أبطالا وشهداء وصمة عار في جبين جميع جيش ينزلق في ما انزلقت فيه كتائب القذافي والأسد.

لقد فقد العسكر في ليبيا جميع شرف وهم يضربون بالقنابل سكان مصراتة العزّل، كما فقد ماهر وبشّار الأسد وفيلقهما الرابع جميع شرف وهم يهرعون بالدبابات لقتال سكان درعا البطلة. من يصدّق صور التلفزيون السوري عن مئات الأسلحة والرشاشات المضبوطة بحوزة الإرهابيين.. حقا "أسد عليّ وفي الحروب نعامة"؟


لا ننسى حتى خيار الاصطفاف وراء النظام ضد الشعب ليس خطرا على الشعب فحسب وإنما هوأيضا خطر على وحدة الجيش، الذي يبدأ تفككه حالما يبدأ استعماله للقمع. فهذا الأخير مكوّن في مستوى قاعدة الهرم من الضحايا وأبناء الضحايا (ومن ثم وجود أجهزة المخابرات العسكرية التي تتجسس على الجيش نفسه لاستئصال جميع بذور التمرّد).

وإبان اللقاءات الدورية التي تحصل عبر التاريخ بين المحتلين الداخليين وضحاياهم المنتفضين لحقوقهم وحرياتهم، يجد الجيش نفسه مقسما بين مصالح القيادة التي هي دوما جزء لا يتجزّأ من المنظومة الاستبدادية بل خطّ دفاعها الأول والأخير، وبين مصالح صغار الضباط والجنود، وهُمْ جزء من الشعب المسحوق.

بقدر ما تطول فترة اللقاءة بقدر ما يتمزق النسيج المشكل لوحدة الجيش، وهي الظاهرة التي رأيناها في تفجّر الجيش الليبي وفي انقسامات الجيش اليمني وبداية التصدع في الجيش السوري.

""

لا أحد يقدر اليوم على حماية النظام العربي القديم من الانهيار، لا قوات الاحتلال الداخلي ولا حتى الجيش نفسه إذا اختار صفّ الخاسرين " "


الأخطر من هذا حتى التغييرات حتمية ومن ثم فإن التعرض لها أمر عبثي. لا أحد قادر اليوم على حماية النظام العربي القديم من الانهيار، لا قوات الاحتلال الداخلي متمثلة في شراذم البوليس السياسي ولا البلطجية ولا حتى الجيش نفسه إذا اختار صفّ الخاسرين. وهؤلاء يضيق الخيار أمامهم يوما بعد يوم. كان ذلك إلى مدى قريب، التغيير الجذري أوالرحيل أوالموت ثم أصبح الرحيل أوالموت وعما قريب سيكون الموت أوالموت.


إذا كانت مصلحة قلة قليلة من كبار الضباط تفرض خيار تثبيت الاحتلال الداخلي، فإن مصلحة الغالبية العظمى من الضباط والجنود حتىقد يكونوا مع الوظيفة الطبيعية لجيش وطني، وأنقد يكونوا مع حركة التاريخ وحقوق شعبهم وخاصة مع شرفهم العسكري، وهذا الأخير يحتاج رفض جميع أوامر بقتل المدنيين أسوة بإخوتهم التونسيين والمصريين الذين وضعهم الشعب في مصاف الأبطال والمحررين.

إن مهمتهم التاريخية اليوم حتىقد يكونوا درعا للثورة السلمية وأن يحافظوا على الأرواح ومنها أرواح الأغبياء الخطرين الذين أوصلونا وأوصلوا أنفسهم بالشطط في الفساد والتزييف والقمع إلى هاوية الحرب الأهلية.

في هذه الحالة، عوض حتىقد يكون الجيش أداة تواصل الاحتلال الداخلي سيكون أداة التحرر منه وتحقيق السلم المدني، وذلك أشد حاجياتنا إلحاحا لنعيد التأسيس فوق الخراب.

إن نداء الضمير والواجب والشرف والمكانة في التاريخ يحتم على ضباطنا وجنودنا رفض اغتال أبناء جلدتهم للدفاع عن قوم تقيأتهم الأمة ومكانهم مزابل التاريخ، والانخراط في الثورة المدنية السلمية حتىقد يكونوا جزءا من الحل بدل حتىقد يكونوا أكبر عائق أمامه.

المصدر: الجزيرة

تاريخ النشر: 2020-06-04 09:54:39
التصنيفات: مقالات الجزيرة, الجزيرة, الثورات العربية

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

غير أسلوب التعامل: الناخب الوطني يستعيد "البسمــــــة"

المصدر: جريدة النصر - الجزائر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-01-15 10:27:42
مستوى الصحة: 48% الأهمية: 68%

عمرو أديب: "بقالى سنتين مرعوب من الإصابة بكورونا ورب العرش نجانى"

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-01-15 10:26:27
مستوى الصحة: 35% الأهمية: 40%

جرئ للغاية.. إنجي خوري تصدم الجميع بوصلة رقص فاضحة شبه عارية(فيديو)

المصدر: المصريون - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-01-15 10:25:11
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 51%

«كانت في سهرة مع شباب»..تفاصيل خناقة ابنة عصام الحضري مع حارس أمن

المصدر: المصريون - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-01-15 10:25:15
مستوى الصحة: 53% الأهمية: 52%

بهاء طاهر لـ "اليوم السابع": أنا بخير وحريص على القراءة باستمرار

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-01-15 10:26:36
مستوى الصحة: 43% الأهمية: 48%

طريقة خاصة لاسترجاع الحيوية

المصدر: جريدة النصر - الجزائر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-01-15 10:27:34
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 56%

السبت والأحد.. تعرف على مناطق سقوط الأمطار في مصر

المصدر: المصريون - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-01-15 10:25:17
مستوى الصحة: 49% الأهمية: 69%

الشرطة السودانية تدعي خروج الاحتجاجات عن مسارها السلمي

المصدر: صحيفة التغيير - السودان التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-01-15 10:28:58
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 70%

بعد شائعات مرضه بالقلب.. بدر بانون يوضح

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-01-15 10:30:59
مستوى الصحة: 53% الأهمية: 65%

بعد شائعات مرضه بالقلب.. بدر بانون يوضح

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-01-15 10:30:48
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 57%

فاس - فاس نيوز

المصدر: فاس نيوز - المغرب التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2022-01-15 10:29:26
مستوى الصحة: 56% الأهمية: 54%

خوف في المعسكر الآخر !

المصدر: جريدة النصر - الجزائر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-01-15 10:27:40
مستوى الصحة: 50% الأهمية: 58%

تحميل تطبيق المنصة العربية