حكم محمد علي

عودة للموسوعة

حكم محمد علي

محمد علي باشا والي مصر.

محمد علي باشا باني مصر الحديثة وحاكمها ما بين 1805-1848. بداية حكمه كانت فترة حرجة في تاريخها بالقرن التاسع عشر حيث نقلها محمد علي من عصور الظلام إلي حتى أصبحت دولة قوية يعتد بها.

موقف محمد علي في بداءة حكمه

تقلد محمد علي باشا ولاية الحكم بارادة زعماء الشعب ونزولا على رايهم في 13 مايوسنة 1805، كما أوضحنا ذلك تفصيلا بالجزء الثاني من كتاب تاريخ الحركة القومية. فالزعامة الشعبية هي التي ابلغته سلطة الحكم، وقد ظلت هذه الزعامة في الميدان، وبقيت قائمة عاملة في السنوات الاولى من حكم محمد علي، فكان لها أثر فعال في تثبيت نادىئم ملكه وتذليل العقبات التي وضعها في طريقه رجال الاستانة من جهة، والانجليز وصنائعهم المماليك من جهة اخرى، واحباط الدسائس التي دبروها والمؤامرات التي سعوا بها الى اقتلاعه عن كرسي الولاية، فالزعامة الشعبية كان لها فضل وعمل هام من هذه الناحية، وكذلك كان لها عمل كبير في توجيه الشئون العامة، ونصيب وافر في سلطة الحكومة. وسنحبث في هذا الفصل مبلغ سلطة تلك الزعامة وعملها في تلك السنوات.

لم ترسخ قدم محمد علي باشا في الحكم بمجرد مبايعته اوصدور الفرمان المؤذن بتوليته، فان الدسائس كانت تحيط بها من جميع جانب، فالسياسة الانجليزية تسعى بمختلف الوسائل لترد السلطة الى محمد بك الالفي، وكان عمالها في الاستانة لا يفتأون يسعون لدى الباب العالي في اسناد حكم مصر اليه، وقناصلها في مصر يمدون المماليك بالمعونة، ويحركون الطمع في نفوسهم ويلقون في روعهم ان انجلترا لا تدع صنائعها ولا تتخلى عنهم، وانها لابد محققة آمالهم، والمماليك من ناحيتهم كانوا يجمعون جموعهم ليحاربوا الوالي الجديد.


موقف هجريا

وكانت السياسة الهجرية مترددة غير مستقرة، ترقب الاحوال لتتبع الخطة التي تراها أكفل بمصلحتها وأوفق لبسط نفوذها في مصر، ولم تكن خالصة النية نحومحمد علي باشا، بل كانت ترميه بعين البغض، وتنفس عليه رسوخ قدمه في مصر، وحسبه جرما في نظرها انه لم يكن من الولاة الذين ترسلهم جميع عامة الى مصر وتوليهم وتعزلهم كماتشاء، بل كان الوالي المختار من الشعب المصري، فالشعب هوالذي أجلسه على كرسي الولاية، ولم تكن هذه الطريقة في تعين الولاة مما يروق في نظر الحكومة الهجرية، سليم حتى حكومة الاستانة قد لبت نداء الشعب المصري وأصدرت فرمانها بعزل الوالي الذي ثار عليه الشعب (وهوخورشيد باشا)، وتعيين محمد علي واليا مكانه، وقد أوفدت الى القاهرة رسولا يحمل هذا الفرمان، ولكن هذا لم يكن دليلا على خلوص نية هجريا نحومصر، وهولا يعدوانقد يكون حلال مؤقتا تتفادى به من ثورة الشعب الى ان تحين الفرصة فتسترجع سلطتها في البلاد وتضع يدها حيث شاءت، ولوكانت صادقة النية لاكتفت برسولها ذاك يحمل فرمان اسناد الولاية الى محمد علي، لكنها اوفدت بعد ذلك قبطان باشا في عمارة حربية تقل 2500 من الجنود ليرقب الحالة في مصر ويجعل عينه على الحوادث، ويتخذ من القرارات النهائية ما يراه موافقا لمصلحة هجريا. ووصلت هذه العمارة الى ابوقير يوم 17 يوليه سنة 1805 اي في الوقت الذي كان خورشيد باشا ما زال ممتنعا في القلعة معتصما بها، ولم تجر عادة هجريا بارسال مثل هذه القوة الا ذريعة لحدث تحدثه في البلاد، فهذه القوة الحربية لم تأت الى مصر عبثا، بل اتىت ليستعين بها قبطان باشا على انفاذ أغراضه الخفية، ولقد كانت مهمته الظاهرة استنزال خورشيد باشا الوالي المعزول من القلعة، بيد ان الحكومة الهجرية خولته السلطة المطلقة في تثبيت محمد علي في الولاية اوعزله منها.

وتتبين لك مقاصد هجريا من ان قبطان باشا لم يبرح السواحل المصرية بعد انقضاء مهمته الظاهرة، بل ظل متربصا وحوله الخمسمائة والالف مقاتل. وأخذ يرقب الحالة ليتبع الكفة الراجحة، وقد راسله محمد بك الالفي زعيم المماليك وعرض عليه ان ينحاز بقواته الى سلحدار خورشيد باشا الذي كان لم يزل بالجيزة يناوئ محمد علي، وان ينضموا جميعا الى الجنود الذين اتى بهم قبطان باشا، ويزحفوا على القاهرة لينتزعوها من محمد علي ويطردوا الجنود الارنامود من البلاد.

دسائس السياسة الانجليزية

وتردد ايضا عليه رسل الانجليز اثناء مقامه في ابوقير وايدوا مطالب محمد بك الالفي، وسعوا في اقناعه باسناد ولاية مصر اليه، وحسنوا له ذلك الامر، زعمين ان المماليك هم وحدهم القادرون على حكمها واعادة الامن والنظام في ربوعها، وان بقاء محمد علي في كرسي الولاية يجدد الفتن ويستفز المماليك الى استنئاف الحرب والقتال ويحفزهم الى الزحف علي القاهرة لاسترداد سطلتهم القديمة، فيضطرب حبل الامن، ولم يكتف رسل الانجليز بتأييد صنائعهم المماليك على هذا النحو، بل جاهروا بان الحكومة الانجليزية قد تضطر الى تجريد جيش على مصر لتأييد وجهة نظرها.

فالسياسة الانجليزية كانت ترمي منذ نيف ومائة عام الى تثبيت قدمها في وادي النيل، بتولية صنائعها من المماليك حكم البلاد، وتتهدد بتجريد قواتها لهذا الغرض، وقد جردت هذه القوة عملا سنة 1807 كما سيجئ بيانه.

أما حجة محمد علي لدى قبطان باشا فهي انه مؤيد من زعماء الشعب، سقمى عنه منهم، وانه الكفيل بانتشال البلاد من وهدة الفوضى والفتن التي تردت فيها، وانه بمقاومته المماليك وحمائهم الانجليز لا يخدم مصر وحدها بل يخدم الباب العالي ويحول دون تحقيق مطامع السياسة الانجليزية في البلاد.

معاضدة زعماء الشعب لمحمد علي

فمحمد علي باشا كان اذن في حاجة كبرى الى تاييد الزعامة الشعبية واقرارها اياه في مركزه ليقوى بها على مقاومة العواصف التي هبت عليه من مختلف الجهات.

وقد بقيت تلك الزعامة تؤيده وتناصره، وتمده بالعون والعضد، فكان لها النفوذ الفعال والفضل الكبير في تثبيت نادىئم عرضه في السنوات الاولى من حكمه.

ومن الواجب ان نبادر فنقول ان السيد عمر مكرم الذي كان على راس تلك الزعامة وحامل لوائها في تقليد محمد علي سلطة الحكم قد احتفظ بهذه المهمة فيما بذلته الزعامة الشعبية للدفاع عن عرشه.

وكان المماليك يعهدون ذلك النفوذ لزعماء الشعب وخاصة للسيد عمر مكرم ويفهمون انهم هم الذين اقتادوا الجماهير وانحازوا بها الى محمد علي، فلما فتئوا بعد توليته يسعون الى استمالتهم في جانبهم ليسكبوا نفوذهم المعنوي في ثل عرش الوالي الجديد، لكنهم وجدوا فيهم اباء واعراضا وثبت زعماء الشعب على مناصرتهم لمحمد علي.

هجوم المماليك على القاهرة واخفاقهم

(اغسطس سنة 1805)

دبر المماليك الهجوم على القاهرة ليستولوا عنوة على زمام الحكم، وبادروا الى انفاذه في شهر اغسطس سنة 1805،ولما يمض شهران على تولية محمد علي باشا، وربما كان قصدهم من هذا التعجيل ان يضربوا ضربتهم قبل رحيل قبطان باشا عن مصر ليشهد بعينه قوة المماليك وشدة باسهم، فينحاز الى جانبهم ويولي واحدا من زعمائهم حكم مصر، وقد اختارولهجومهم يوم الاحتفال بوفاء النيل (اغسطس سنة 1805) اذقد يكون محمد علي باشا والجمع الحاشد من الجنود والاهالي مشغولين بالاحتفال في مصر القديمة بعيدا عن المدينة. واحكموا تدبيرهم، اوخيل اليهم انهم احكموه، بان تآمروا سرا مع بعض رؤساء الجند ان ينضموا اليهم اذا هم دخلوا المدينة، وتبادلوا واياهم الرسائل من قبل في هذا الصدد، لكن محمد علي فهم بسر هذه المؤامرة، فاعتزم ان يسقط المماليك في الكيد الذي كادوا، واتفق سرا مع بعض رجاله الامناء على ان يتصلوا بالمماليك ويتظاهروا لهم بالاخلاص، ويستدرجوهم الى دخول العاصمة، فيمدوا لهم في غيهم، ويزينوا لهم نجاح خطتهم، وهم في الواقع اعوان لمحمد علي ، ففي اليوم الموعود هجم المماليك على القاهرة في قوة تبلغ ألفا من المقاتلة شاكي السلاح، وعلى راسهم جماعة من زعمائهم وهم عثمان بك حسن وشاهين بك المرادي واحمد كاشف سليم وغيرهم، واقتحموا باب الحسينية بعد ان حطموه ودخلوا القاهرة من باب الفتوح، وقصد زعماؤهم الى دار السيد عمر مكرم ليعجموا عوده ويستنجدوه، ولكنه رفض لقاءتهم، فقصدوا الى دار الشيخ عبد الله الشرقاوي شيخ الجامع الازهر وهناك وافاهم السيد عمر مكرم وصارحهم القول بألا ينتظروا منهم عونا ولا نجدة، ونصح اليهم ان يعودوا من حيث أتوا ، عملموا ان الزعامة الشعبية لا تؤيدهم، وانقلبوا هناك خائبين، ودب الفشل والارتباك في صفوفهم وصفوف جندهم، فخرج فريق منهم من باب البرقية نجاة بأنفسهم، ومضى رهط آخر الى باب زويلة وتقدموا جهة الباب الأحمر، فتلقاهم الجند الذين كانوا ومضى رهط آخر الى باب زويلة وتقدموا جهة الدرب الاحمر، فتلقاهم الجند الذين كانوا هناك بالرصاص فتقهقروا الى داخل باب زويلة، وحاولوا دخول جامعة المؤيد والامتناع به، فهاجمهم جماعة من المغاربة والمرابطين هناك وأطلقوا عليهم الرصاص، فلجأ فريق منهم الى جامعة البرقوقية، ومضىت طائفة أخرى تعدوبخيلها الى باب النصر، فألفوه مقفلا، فنزلوا عن جيادهم وتسلق بعضهم الأسوار ونجا بنفسه، وتفرق آخرون في العطوف واختفوا فيها، وأما الذين لجأوا الى جامعة البرقوقية فان اثنين منهم تمكنا من الخروج ولحقا بالمماليك النازلين بدار الشيخ الشرقاوي، وبعد حتى أنبأهم بما سقط فر الجميع خارجين من باب الغريب، أما الباقون (في جامعة البرقوقة) فقد أحاط بهم الجند وقتلوا منهم مقتلة نحوالخمسين وأسروا نحوالثمانين ومضىوا بهم الى محمد علي باشا، فأمر بقتلهم فقتلوا جميعا، وبذلك انتهت مؤامرة المماليك بالخيبة والخسران، نطق الجبرتي في هذا الصدد ما معناه: "ولم يتفق للامراء المصرية (المماليك) أقبح ولا أشنع من هذه الحادثة وطبع الله على قلوبهم وأعمى ابصارهم وغل أيديهم.


استيلاء محمد علي على الجيزة

وانتهز محمد علي فرصة هذه الهزيمة فاستولى على الجيزة (سبتمبر سنة 1805) وكانت لم تزل الى ذلك في ايدي المماليك، وظهر عليهم وعلى سلحدار خورشيد باشا، واضطره الى التسليم والتخلي عن جنده وذخائره واللحاق بمولاه خورشيد باشا في الاسكندرية.

رحيل قبطان باشا الى الاستانة

وطدت هذه الحوادث مركز محمد علي، فلم يعد قبطان باشا يتردد في اي الفريقين ينضم اليه، وراى حتى محمد علي باشا هوالأحق بالتأييد، لأن الشعب والقوة في جانبه، واعتزم حتى ينقلب الى الأستانة، فرحل عن البلاد في أكتوبر سنة 1805، ومعه خورشيد باشا الوالي المخلوع.

غادر قبطان باشا أرض مصر وهويتنبأ لمحمد علي بمستقبل كبير، فقد روى عنه أنه نطق يوما قبل رحيله: "اني لأهجر في مصر رجلا ستجده الدولة يوما من أعظم خصومها شأنا وأكبرهم خطرا، ولم يوفق سلاطينها الى رجل مثل هذا الباشا في دهائه وحزمه ومضاء عزيمته"، وقد حققت الأيام صحة هذا الرأي فان محمد علي قد خرج على هجريا وهزم جيوشها في ميادين الحرب وزلزل عرش السلطنة العثمانية وكاد يدكه لولا حتى وقفت أوروبا في طريقه.

رجوع محمد علي إلى زعماء الشعب في مهمات الأمور

عهد محمد علي باشا ما لزعماء الشعب من المكانة والنفوذ عند الجماهير، فقدر لهم هذه المنزلة، وكان يرجع اليهم ويستشيرهم فيما يجد من مهمات الأمور، فمن ذلك انه حدثا احتاجت الحكومة الت قرير اتاوة جديدة عاد اليهم بادئ الأمر وأوضح لهم الحاجة الملجئة إليها، وخاصة اذا كان الغرض منها دفع رواتب الجند، فينال اقرارهم وموافقتهم، ذكر الجبرتي ما خلاصته أنه في أواخر جمادى الثانية سنة 1220 (سبتمبر سنة 1805) احتاج الى دفع باقي أعطية العسكرة "فتحدث مع المشايخ في ذلك وأبلغهم بأن العسكر باق لهم ثلاثة آلاف كيس لا نعهد لتحصيلها طريقة، فانظروا في ذلك وكيفقد يكون العمل، ولم يبق إلا هذه النوبة"، وأقنعهم بأنه اذا أخذ العسكر رواتبهم سافروا الى بلادهم ولم يبق منهم الا من كان في حاجة إليهم ومن يتولون المناصب من ضباطهم.

وقد اقتنع زعماء الشعب بهذه الحجة وخاصة لأنهم كانوا يميلون إلى رحيل الجنود الأرناؤود والدلاة عن البلاد لكثرة مساوئهم واعتدائهم على الناس، فوافقوا على فرض الاتاوة الجديدة.

ومما يلفت النظر في مشاورة محمد علي باشا للشيوخ قوله لهم: "ولم يبق إلا هذه النوبة"، وهذا يدلك على مبالغ عنايته باكتساب رضاهم واقناعهم بأن الحاجة الى صرف رواتب الجنود هي التي ألجأته الى هذه الاتاوة، وان هذه آخر مرة يلجأ فيها الى زيادة الضرائب، وقد اقتنع الشيوخ بهذه الحجة كما قدمنا، واستقر الراي بعد المشاورة على حتى تستولي الحكومة في ذلك العام على ثلث الفائض من الحصص والالتزام (أي على ثلث ايراد الملتزمين لأن ما يسمونه الفائض هوصافي دخلهم)، وكان الملتزمون يؤلفون إلى ذلك العهد طبقة كبيرة من الملاك، فتبرموا بهذه الاتاوة التي هي أشبه بالمصادرة، وضجوا من حرمانهم ثلث إيرادهم جميع عام، ولكن محمد علي باشا أراد حتى يطمئنهم بأن هذه الوسيلة استثنائية وأنها لا تتكرر جميع سنة فوعد الشيوخ بكتابة فرمان يلتزم فيه عدم العودة الى ذلك ثانيا ويثبت فيه "لعن الله من يعملها مرة أخرى"، فاقتنع الشيوخ بهذا الشرط، وانفجرت الأزمة مؤقتا.

كان زعماء الشعب اذن مرجع الحكومة فيما تفرضه من الإتاوات والضرائب، كما كانوا ملجأ الشعب في تخفيف ما تفرضه منها، ومن ذلك حتى الحكومة فرضت في تلك السنة (أكتوبر سنة 1805) على أهل رشيد إتاوة قدرها أربعون ألف ريال توزع على ثلاثة عشر من تجار المدينة، فحضر الى القاهرة وفد من أهل رشيد يتظلمون من هذه الإتاورة، وقابلوا السيد عمر مكرم والشيوخ وحملوا اليهم ظلامتهم، فقام السيد عمرووفي صحبته الشيوخ وعروضا الأمر على محمد علي باشا، وتشاوروا في تخفيف الإتاورة، فاستقر الرأي على إنزالها إلى عشرين ألف ريال، وفي مايوسنة 1806 طلبت الحكومة قرضا من الملتزمين والتجار على القاعدة التي سار عليها خورشيد باشا الوالي المعزول في العام لاسابق (سنة 1804) فضاق الناس ذرعا ومضىوا أفواجا إلى السيد عمر مكرم يشكون ويتبرمون، فبذل ما في وسعه للتخفيف عن بعضهم.

مكانة السيد عمر مكرم

يتبين من هذه الوقائع حتى زعماء الشعب وعلى رأسهم السيد عمر مكرم كان لهم نفوذ فعال في ادارة الحكومة، وكانوا ملجأ الناس في حمل المظالم، وقد عظم نفوذ السيد عمر مكرم في تلك السنوات الى ما لم يسبق له نظير من قبل، ولا غروفهوالذي اجلس محمد علي على عرش مصر وكان في السنوات الأولى من حكمه أحد أركان ذلك العرش.

ولقد بلغ من مكانته ان محمد علي باشا لما اعتزم ان يجرد جيشا لمحاربة محمد بك الألفي في الصعيد (ابريل سنة 1806 – صفر سنة 1221) عرض عليه حتى يستخلفه فينوب عنه ويكون قائمقاما مدة غيبته، فامتنع السيد عمر مكرم ولم يقبل، ولم يذكر الجبرتي سبب امتناعه، ولكن اذا صح ما يقوله من أنه "تبين أنها ايهامات لا اصل لها" فيكون الامتناع راجعا الى أنه شعر بأن العرض لم يكن الا ضربا من ضروب المجاملة والتكريم، أولأنه كان يتورع عن مناصب السلطة ويخشى ان يتمه حساده – وكانوا كثيرين – بأنه يسعى الى الجاه ولا يعطي الا ليأخذ، فأراد حتى يجعل جهاده خالصا لوجه الله والوطن.

ولم يكن السيد عمر مكرم في حاجة الى انقد يكون قامئقاما ليعظم مركزه، فقد كان له في نفوس الشعب أكبر منزلة وأعظم مكانة، وكان في الاجتماعات والحفلات العامة يتقدم المدعوين فيخلون له صدر المجالس طواعية واختيارا، فيكون بجانب محمد علي كتفا لكتف، وحسبك حتى تقرأ بعض ما ذكره الجبرتي عنه في مناسبات مختلفة لتعهد الى أي حد بلغ نفوذه ومكانته، نطق: "ارتفع شأن السيد عمر وزاد أمره بمباشرة الوقائع وولاية محمد علي باشا ، وصار بيده الحل والعقد والأمر والنهي والمرجع في الأمور الكلية والجزئية"، ونطق في موضع آخر: "ولما سقط ما سقط في ولاية محمد علي باشا وانفرد السيد عمر أفندي في الرياسة صارت بيده منطقيد الأمور".

ولا نزاع حتى الزعامة الشعبية قد اكتسبت نفوذا معنويا كبيرا لمكانة السيد عمر مكرم وشخصيته ومهابته، فهوبحكم رآساته لهذه الزعامة كان يسبغ عليها من شخصيته الكبيرة ما يجعلها نافذة الحدثة محترمة المقام.

ادرك السيد عمر مكرم اذن مكانة عظمى في نفس الشعب، وعند الحكومة، ولم تكن هذه المكانة لتخفي على زعماء المماليك، فلجأ عليه محمد بك الألفي وطلب وساطته له عند محمد علي باشا وشفاعته لديه ليصفوله وللأمراء المماليك وتنتهي الحرب بينهم على حتى يبترهم جهة يقيمون بها ويستغلونها، لكن محمد علي كان أبعد نظرا من حتى يطمئن لخصومه الألداء فعادت الحرب بينهما وانسحب الألفي بك الى الفيوم بعد العدة للقتال، واعتزم ممد عي حتى يزحف عليه ليستخلص الوجه القبلي من سلطة المماليك.


الحرب بين محمد علي والمماليك

كان المماليك حتى أوائل سنة 1806 أصحاب النفوذ والحكم في الصعيد، اذ كان محمد بك الألفي يحتل الفيوم، وسليمان بك ومعه ثلاثة من أتباعه البكوات يرابطون بجنودهم شمالي أسيوط، وعثمان بك حسن يرابط في مديرية أسنا، وابراهيم بك الكبير وعثمان بك البرديسي وأتباعها يحتلون شاطئ النيل بين أسيوط والمنيا، فكان على ذلك معظم الصعيد تحت سلطة المماليك، فأنفذ محمد علي جيشا بقيادة حسن باشا للزحف عليهم.

انحدر حسن باشا في النيل من الجيزة ومضى حتى بلغ الرقة، وما كاد يتجاوزها حتى التقى بقوات محمد بك الألفي الذي اتى من الفيوم قاصدا الوجه البحري (مارس سنة 1806 – أواخر ذي الحجة سنة 1220) ، وكان الألفي قد حشد تحت لوائه في الفيوم عدة آلاف من العرب ليناجز بهم قوات محمد علي، فنازل بهم جيش حسن باشا في معركة انتهت بهزيمة هذا الأخير وانسحابه الى الرقة، وتابع الألفي زحفه الى الجيزة ومنها سار شمالا الى البحيرة، اما حسن باشا فلم يشأ ان يصطدم بالالفي وسار جنوبا حتى بلغ بني سويف، وبقى بها لا يعمل عملا، وفي الوقت نفسه تقدم ابراهيم بك وعثمان بك البرديسي شمالا وحاصروا المنيا وكانت بها حامية من جنود محمد علي، وكان مسقط المنيا عظيم الخطر، فأمدها حسن باشا بنجدة تحت قيادة أخيه عابدين بك فاتىتها وشدت أزر الحامية، ووقفت الحرب عند هذا الحد اذ قابل محمد علي معضلة خطيرة كادت تقلب عرشه كما تراه فيما يلي:

محاولة عزل محمد علي واخفاقها

لم يكن محمد علي كما قدمنا سقميا عنه لا من الحكومة الهجرية ولا من الانجليز، ولئن أخفقت مناورة سنة 1805 وبقى على عرشه فان ذلك لم يمنع الانجليز من ان يسعوا سعيا حثيثا في تحقيق سياستهم التي ترمي الى اقصائه عن مصر واحلال المماليك مكانه.

دسيسة إنجليزية جديدة

وقد ساعد انجلترا على تجديد سعيها لدى الباب العالي رجحات كفتها في حروبها مع فرنسا حين بلغ الصراع بين الانجليز ونابليون أشده، فقد كان لهم الفوز في معركة (الطرف الأغر) البحرية، حيث اشتبك الأسطول البريطاني بقيادة الأمير نلسن والأسطول الفرنسي الذي يقوده الكونتر أميرال فيلتوف، ففوز الأسطول الانجليزي في تلك المعركة الشهيرة، وخرجت انجلترا من الحرب قوية الشوكة نافذة الحدثة، باسطة سيادتها على ظهر البحار، وقضت نهائية على آمال نابليون في حتى ينازعها تلك السيادة، فصار البحر المتوسط تحت مطلق سلطانها، ورجحت كفتها السياسية في الشرق وخاصة على ضفاف البوسفور حيث لم تعد تخشى مزاحمة فرنسا لها، واخذت تملي سياستها على الباب العالي مستعينة بما أكسبها الفوز البحري على نابليون من الشوكة والنفوذ، واستأنفت تدخلها في المسألة المصرية بما يطابق اهواءها، وكان أول ما قصدت اليه حتى تبسط نوفذها في وادي النيل وتحقق المطامع التي فاتها تحقيقها في السنوات الماضية، اثناء الحملة الفرنسية وبعد انتهائها، وكانت على يقين ان بسط نفوذها يتحقق باعادة الحكم في مصر الى صنائعها من المماليك، فطلبت من الباب العالي بلسان سفيرها في الاستانة عزل محمد علي عن ولاية مصر وجعل الحكم فيها الى محمد بك الألفي، وتوصلت الى اقناع الحكومة الهجرية بوجهة نظرها بحجة ما يعود عليا من النفع من وراء هذا التغيير، وألقت في روعها ان محمد علي باشا لا يميل الى الاذعان لأوامرها ولم يدفع الى ذلك الحين شيئا من الخراج الذي كان يؤديه الولاة السابقون.

سعت انجلترا سعيها لاسناد حكم مصر الى محمد بك الألفي، وكان الألفي على اتصال مستمر بعمال الانجليز، يتبادل واياهم الرسائل والرسل ليتخذ انجلترا شفيعة بل حامية وكفيلة له لدى الباب العالي كي تتفق واياه على الشروط التي يتولى بها الحكم. فعرضت انجلترا على الحكومة الهجرية ان تعين واليا جديدا بدل محمد عليقد يكون من طراز الولاة الأتراك الأقدمين الذين كانوا يهجرون سلطة الحكم للأمراء المماليك، وأبلغتها حتى الألفي يتعهد بأداء جزية سنوية مقدارها 1500 كيس تضمن الحكومة الإنجليزية ايفاءها، ويتعهد بالولاء ويذلك الطاعة والخضوع لأوامر الأستانة، ان هذا الاتفاق اذا تمقد يكون فاتحة تقدم في المعاملات التجارية بين البلدين مما يؤدي الى زيادة رسوم جمارك مصر وسورية، وبالتالي يعود بالربح على خزانة الإستانة، فاستمع الباب العالي لهذه الحجج، وراى فيها منفعة مادية تعود عيه ولوكان من ورائها تسليم مصر للمطامع الانجليزية، وصادف هذا الاغراء هوى في نفوس حكام الأستانة لأن الباب العالي لم ينس ان اسناد ولاية مصر الى محمد علي كانت نتيجة قيام ثورة شعبية على الوالي الرسمي المعين بمقتضى "فرمان سلطاني"، وأن الارادة الشاهانية التي اقتضت تولية محمد علي انما صدرت تحت ضغط تلك الثورة، وهذا أمر لم يكن سائغا ولا مألوفا عند السلااطين الهجر، وكذلك لم يكن مألوفا حتى تقر الحكومة الهجرية اليا في منصبه أكثر من سنة، فلا جرم كانت تنظر الى لقاء محمد علي وسعيه في تثبيت مركزه في مصر بعين السخط والمقت، فصحت عزيمتها على حتى تعزله، وأصدرت فرمانا بتوليى موسى باشا في مكانه وتقليد محمد علي ولاية سلاانيك، ومعنى ذلك ابعاده عن مصر، وكان متفقا على حتى موسى باشا سيكون آلة في يد المماليك كما كان شأن ولاة مصر في القرن الثامن عشر، وأن يسمح للماليك بشراء أفواج الرقيق من جنسهم وجلبهم الى مصر وحمل الحظر الذي كان مضروبا عليهم في هذا الصدد منذ الحملة الفرنسية فيعودوا الى شراء المماليك من أسواق الرقيق ويقوى بهم جيشهم في مصر، وبذلك تتحقق وجهة النظر البريطانية في المسألة المصرية،ويعود الحكم الى المماليك وتبسط انجلترا نفوذها في مصر على أيديهم.

مجيء أسطول عثماني الى مصر لعزل محمد علي

ولأجل حتى تحقق الحكومة الهجرية ما اعتزمت عليه انفذت عمارةبحرية بقيادة صالح باشا قبودان العمارة العثمانية ليتم النقل والتغيير دون ان تحدث مقاومة اوتنهض معارضة، فأقلعت العمارة العثمانية ليتم النقل والتغيير دون ان تحدث مقاومة أوتنهض معارضة، فأقلعت العمارة تقل الوالي الجديد موسى باشا، وكان الألفي قد اطلع من قبل على مفاوضات الانجليز والباب العالي، ووقف عليها من قناصل انجلترا في مصر، وهذا هوالسبب الذي نادىه الى التحرك من الفيوم قاصدا الوجه البحري، فكانت غايته من ذلك ان يتلقى القبودان صالح باشا عند حضوره، فلما وصل الى قرب دمنهور فهم بوصول العمارة العثمانية، فابتهج لهذا النبأ ابتهاجا عظيما. وصلت العمارة الهجرية الى الاسكندرية في أول يولية سنة 1806، وكانت من أربع بوارج وفرقاطتين وسفينتين أخريين وعلى ظهرا موسى باشا الوالي الجديد وجنود الحملة المتأهبة للنزول الى البر، وعدتها ثلاثة ىلاف مقاتل، والتقى الألفي في حوش عيسى برسل الهجر والانجليز، وهنأوه بقرب تحقيق آماله.

رواية الجبرتي

يتبين من رواية الجبرتي ان محاولة عزل محمد علي تمت بالاتفاق بين الانجليز والحكومة الهجرية ومحمد بك الالفي، نطق في حوادث ربيع الثاني سنة 1221 (يونيه سنة 1806) ما خلاصته:

"وردت سعاة من الاسكندرية وأبلغوا بورود أربعة مراكب وفيها عساكر من النظام الجديد وصحبتهم ططريات (رسل) وبعض أشخاص من الانكليز (تأمل!) ومعهم ممحررة خطابا الى الألفي وبشارة بالرضا والعفوللأمراء المصرية (المماليك) من الدولة العثمانية بشفاعة الانكليز فلما وصلوا اليه بناحية حوش ابن عيسى بالبحيرة سر بقدومهم، وعمل لهم شنكا ، وضرب لهم مدافع كثيرة، وأوفدهم الى الأمراء القبليين (المماليك بالصعيد) وصحبتهم احد سناجقه وهوأمين بك ومحمد كاف تابع ابراهيم بك الكبير، ثم انه ارسل عدة ممحررات بذلك الخبر الى المشايخ وغيرهم بمصر وكذلك الى مشايخ العربان مثل الحويطات والعائد وشيخ الجزيرة".

ونطق في موضع آخر في ترجمة محمد بك الألفي: "وكان مع ما فيه من التنقلات والحروب يراسل الدولة والانكليز، وأوفد أمين بك الى الانكليز فسعوا مع الدولة لمساعدته وحضروا اليه بمطلوبه فعمل لهم بحوش ابن عيسى شنكا وارسلهم مع امين بك الى الامراء القبليين"، ونطق في موضع آخر: "والسبب في حركة القبطان (صالح باشا) ارساليات الألفي للانكليز ومحاورة الانكليز الدولة ووزيرها محمد باشا السلحدار".

ونطق في موضع آخر في ترجمة محمد بك الألفي: "وكان مع ما فيه من التنقلات والحروب يراسل الدولة والانكليز، وأوفد أمين بك الى الانكليز فسعوا مع الدولة لمساعدته وحضروا اليه بمطلوبه فعمل لهم بحوش ابن عيسى شنكا وأوفدهم مع أمين بك الى الامراء القبليين"، ونطق في موضع آخر: "والسبب في حركة القبطان صالح باشا ارساليات الألفي للانكليز ومحاورة الانكليز الدولة ووزيرها محمد باشا السلحدار".

فالمسألة اذن كما ترى لم تكن ابدال وال بآخر، بل هي دسيسة انجليزية هجرية حيكت شباكها في الاستانة بقصد اعادة المماليك الى حكم مصر وبسط النفوذ الانكليزي عليها. ولم يكد يستقر صالح باشا في الثغر حتى اوفد رسولا الى محمد علي يبلغه فرمان النقل والتغيير ويأمره بالذهاب الى سلانيك مقر ولايته الجديدة، وكان محمد علي يعالج المشكلات بالحكمة والسياسة والدهاء، فتظاهر بالامتثال، ولكنه تأهب سرا للمقاومة، وأجاب انه مستعد للرحيل الى سلانيك غير ان الجند يعارضون في رحيله قبل حتى تؤدي رواتبهم المتأخرة، وقدرها عشرون ألف كيس، فكانت هذه الحجة أول ذريعة توسل بها الى احباط مؤامرة العزل والنقل، واخذ محمد علي يعد العدة للمقاومة، فاتجه فكره فورا الى السيد عمر مكرم يستنجد به لاحباط المؤامرة الجديدة.

نطق الجبرتي: "فلما قرأ الدفتر دار الورقة أوفد الى السيد عمر النقيب فركب اليه وحضر صحبته الى الباشا واختليا معا ساعة ثم فارقاه".

ففي هذه الخلوة أفضى محمد علي الى السيد عمر مكرم بمؤامرة الاستانة، وطلب اليه المعونة والنجدة، فكان عمر مكرم عند ظنه، وكان له نعم العضد الامين، واتفقا على الخطة المشهجرة.

كانت هذه الازمة خطيرة العواقب، وكادت تقتلع محمد علي عن كرسيه وترجع بالبلاد الى حكم المماليك، فان الفرمان الذي اتى به قبطان باشا كان يتضمن تولية موسى باشا على مصر وانفصال محمد علي باشا عن ولايتها ويتضمن أيضا "العفوعن الأمراء المماليك، وانقد يكونوا كعادتهم في امارة مصر وأحكامها وأن يستقر الباشا الجديد في القلعة كعادته"، ومعنى ذلك اطلاق يد المماليك في حكومة البلاد كما كانوا قبل الحملة الفرنسية وارتكاس البلاد في حكم التقهقر والفوضى.

فالمؤامرة كانت واسعة النطاق اشهجر في حياكة خيوطها الباب العالي والانجليز والمماليك معا، فلا غروان ابتهج محمد علي الألفي لورود الفرمان الجديد ابتهاجا عظيما، وارسل رسله في البلاد لاذاعته بين الناس.

حصار دمنهور

اعتزم الألفي عندما وصلت العمارة الهجرية الى الاسكندرية ان يستقر في دمنهور ليتخذها مركزا يجمع فيه قواته ويدير خططه، وكان يظن ان اهلها لا يخالفون له أمرا بعد وصول الوالي الجديد، فأعربهم بقدوم العمارة الهجرية ووصلوفرمان يقلده حكم مصر، وطلب اليهم تسليم المدينة ونزولهم على حكمه، لكن الاهالي رفضوا التسليم، واعدوا لمقاومته والامتناع في المدينة، وأوفدوا الى السيد عمر مكرم ينبؤنه بالخبر فأبلغه الى محمد علي باشا، ووضع الألفي الحصار حول دمنهور لاكراهها على التسليم.

تضامن محمد علي والفهماء في مقاومة فرمان العزل

استوثق محمد علي من معاضدة السيد عمر مكرم، ومن ثم عزم على مقاومة ارادة الباب العالي، وأخذ يتأهب للحرب والقتال، واتفق هووالسيد عمر على حتى يجتمع الفهماء ويخطوا محضرا في شكل التماس بالاعتراض على عزل محمد علي والاحتجاج على تولية موسى باشا ورجوع السلطة للمماليك.

ومضمون هذا الاعتراض ان الامراء (المماليك) قد عرضوا على السدة السلطانية تعهدهم بدفع الاموال الاميرية الى خزانة الدولة العلية واداء مرتبات الحرمين الشريفين والعفوعن جرائمهم الماضية في لقاء اقرارهم على دخول مصر القاهرة، وان طلبهم قد حاز القبول، ومن ثم صدر الامر السلطاني بعزل محمد علي باشا وتوجيه ولاية سلانيك اليه وتقليد موسى باشا ولاية مصر، وقبلت توبتهم على ان يقبل الفهماء والوجاقية والرؤساء والوجهاء بالديار المصرية كفالتهم، على حتى المسقطين على العريضة لا يستطيعون كفالتهم "فان شرط الكفيل قدرته على المكفول، ونحن لا قدرة لنا على ذلك، ولما تقدم من الأفعال الشهيرة، والأحوال والتطورات الكثيرة، ولا يمكننا التكفل والتعهد لأننا لا نطلع على ما في السرائر وما هومستكن في الضمائر، فنرجوا عدم المؤاخذة في الأمور التي لا قدرة لنا عليها، لأننا لا نقدر على دفع المعتدين والطغاة والمتمردين، الذين أهلكوا الرعايا ودمروهم، وعدد الفهماء في عريضتهم مساوئ المماليك ومظالمهم، وأطروا فعال محمد علي باشا، وختموا كلامهم بتفويض الأمر الى السدة السلطانية ، وخطوا من العريضة نسختين احداهما الى القبطان باشا والاخرى الى السلطان بعدما سقطوا عليها بامضاءاتهم وأختامهم.

ومعنى هذا البيان على ما فيه من اظهار الولاء والاخلاص للسدة السلطانية أنهم لا يجيزون تغيير الوالي، ولا يرضون بعودة الحكم الى المماليك، ولا يقبلون كفالتهم، وأنهم متمسكون بولاية محمد علي، وفي هذا من تأييده في مركزه والاستهانة بالفرمانات (الشاهانية) ملا يغرب عن البال.

أما قبطان باشا فقد مضى في تطبيق مهمته، فبعث الى الفهماء برسالة ينبئهم فيها بعزل محمد علي باشا وتقليد موسى باشا، ويدعوهم الى الامتثال للأمر، وبعث بمثل هذه الرسالة الى السيد عمر مكرم، وبثالثة الى السيد محمد السادات، فلم يلق منهم جوابا صريحا بالامتثال ، بل ابدوا أعذارهم، وكانت الأوامر تقضي برحيل الجنود الأرناؤد مع محمد علي ، فتذرعوا بأن امتناع الجنود عن الرحيل وعصيانهم يترتب عليه تعرض البلاد للخراب، فكرر قبطان باشا عليهم الامر في رسالة شديدة اللهجة نطق فيها: "انه لا يقبل هذه الاعذار ولا ما نمقوه من التمويهات التي لا أصل لها ولابد في تطبيق الاوامر وسفر الباشا (محمد علي) هووحسن باشا وعساكرهم وخروجهم من مصر وذهابهم الى ناحية دمياط وسفرهم الى الجهة التي أمروا بالذهاب اليها، ولا شيء غير ذلك أبدا".

وخط الفهماء رسالة أخرى الى قبطان باشا في شهر جمادى الثانية سنة 1221 (أغسطس سنة 1806) يذكرون فيها صراحة أنهم لا يرتضون عن محمد علي باشا بديلا، ومما اتى في هذه الرسالة قولهم: "ان محمد علي باشا كافل الاقليم وحافظ ثغوره ومؤمن سبله، قاطع المعتدين، وان الكافة من الخاصة والعامة والرعية راضية بولايته وأحكامه وعدله، والشريعة مقامة في أيامه، ولا يرتضون خلافه لما رأوا فيه من عدم الظلم والرفق بالضعفاء وأهل القرى والأرياف، وعمارها بأهلها ورجوع الشاردين منها في أيام المماليك المعتدين الذين كانوا يعتدون عليهم ويسبلون أموالهم ومزارعهم ويكلفونهم بأخذ الفرض والكلف (جمع كلفة) الخارجة عن الحد أما الآن فجميع أهل القطر المصري مطمئون بولاية هذا الوزير".

استعداد محمد علي للحرب

اعتمد محمد علي اذن تأييد زعماء الشعب له في المقاومة وأخذ يحرض رؤساء الجند على العصيان والمعارضة في رحيله، وقد صادف هذا التحريض هوى في نفوسهم لأنهم خشوا اذا هوارتحل عن مصر حتى تسقط رواتبهم المتأخرة وكانت تبلغ نحوعشرين ألف كيس، فاتفق واياهم على ان يقاوم الأمر الصادر له من الاستانة اذا اعطوه موثقا بأنقد يكونوا مخلصين له متفانين في الدفاع عنه فعاهدوه على الأمانة والاخلاص، وأقسموا له أنهم مؤيدوه وناصروه، فأخذ يعمل مطمئنا ويستعد للمقاومة، فأمد القلعة بالميرة والذخيرة، وحصن الطوابي الباقية من عهد الحملة الفرنسية والمحيطة بأطراف المدينة ، وأنفذ جيشا من جنوده الى الرحمانةي ليكون على أهبة الاستعداد لقتال الألفي بك والاتراك، وبعث الى حسن باشا بالصعيد يدعوه الى التقدم نحوالقاهرة لتكون قوائها كلها على اهبة القتال.


رواية الجبرتي

نطق الجبرتي في هذا الصدد: "وشرع الباشا في عمل آلات حرب وجلل ومدافع، وجمعوا الحدادين بالقلعة وأصعدوا بنبات كثيرة واحتياجات ومهام الى القلعة، وظهر منه علامات العصيان وعدم الامتثال، وجمع اليه كبار العسكر وشاورهم وتناجى معهم فوافقوه على ذلك".

ونطق في موضع آخر: "وأوفد الباشا فجمع الاخشاب التي وجدها ببولاق في الشوادر والحواصل والوكائل وطلعوا بجميع ذلك الى القلعة لعمل العربات والعجل برسم المدافع والقنابر".


موقف زعماء الشعب

كل هذا الاستعدادات تدل على ان محمد علي قد اعتزم عملا مقاومة قرار الباب العالي بالقوة، ولقد عاونه على انفاذ فكرة المقاومة ثقته بتأييد زعماء الشعب له وتضامنهم واياه في مقاومة عودة المماليك الى الحكم.

ولقد كان تاييدهم صادرا عن نية صادقة وعقيدة راسخة في نفوسهم، لانهم هم الذين اختاروه للولاية، فهم بحكم اختيارهم يريدون ان تنفذ ارادتهم بتثبيت قدم محمد علي في الحكم ولانهم من جهة اخرى يفهمون ان تعيين موسى باشا مع اطلاق يد المماليك ورؤساهم في الحكم معناه الرجوع الى حكم المظالم والارتكاس في الفوضى، وهذا أمر لا ترضاه نفوسهم لانهم هم الذين أثاروالشعب على هذه المظالم ولقد رأوا في سياسة محمد علي باشا ورجوعهم اليهم في تقرير الضرائب التي يفرضها وفاءا بالعهد الذي بتره على نفسه حين ولايته الحكم على ان يسير بالعدل والقسطاس، فلا جرم ان تطمئن نفوسهم اليهم، جميع هذه الظروف جعلت تأييد زعماء الشعب لمحمد علي امرا طبيعيا يقضي منطق الحوادث بأن لا مناص منه. فمناصرة زعماء الشعب لمحمد علي باشا هي تاييد للسياسة التي رسموها من قبل، وتثبيت للسلطة التي كسبوها في تسيير شئون الحكومة، وهذه السلطة نفسها لم يتجاهلها الباب العالي لانه جعل رجوع المماليك الى الحكم معلقا على كفالة الفهماء لهم، ولقد استمسك الفهماء بهذا الشرط فصرحوا في عريضتهم الى الدولة انهم لا يقبلون هذه الكفالة ولا يرضون بها، ومعنى ذلك انهم لا يريدون رجوع الحكم الى المماليك ولا يبغون عن محمد علي بديلا.

سياسة محمد علي

وتذرع الباشا من جهة اخرى بالدهاء والحيلة بازاء المماليك، فاخذ يعمل على فصم عراهم مستخدما التنافس القديم بين زعمائهم.

كان محمد علي يفهم بان الالفي بك مكروه من بقية رؤساء المماليك كالبرديسي وابراهيم باك وعثمان بك حسن وانهم ينقمون منه انفراده بالاتصال بالانجليز وكتمانه عنهم خفايا مفاوضاته واياهم، وقد بادر الالفي الى الرحيل عن الفيوم قاصدا البحيرة وشواطئ الاسكندرية للقاءة صالح باشا دون ان يكاشف زملاءه بدخيلة نفسه، فاثار فيهم الحفيظة القديمة التي كانت تبدوما بين آن وآخر وأوفدوا سعاتهم الى محمد بك يعرضون عليه الصلح، فانتهزها فرصة ليضعف شوكة الالفي خصمه اللدود، واطمأن من جانبهم، واستخدم حيال الهجر سلاحا آخر هوالرشوة، فانه كان يفهم ما انطوت عليه نفوس حكام هجريا وساستهم من الاذعان للمال والنزول على حكمه، ومما يؤثر عنه في هذا الصدد قوله عنهم: "اني أعهد الهجر وأعهد الكيفية التي تنجح معهم فالرشوة هي وسيلة فعالة مع هؤلاء الناس"، فاستخدم هذا السلاح وأخذ يقدم الرشا والهدايا لصالح باشا وبطانته من جهة، ولرجال "المابين" في الاستانة من جهة أخرى، وكان لهذه الرسالة فضل كبير في تمهيد السبيل لمساعيه، فقد بعث بعريضة زعماء الشعب الى الاستانة لتقديمها الى السدة البريطانية على يد رسول من ابنائه وارسل معه 2000 كيس برسم رجال الدولة جمعها له رؤساء الجند لاعداد الاهبة للحرب والقتال، فاحدثت هذه الرشوة أثرها على ضفاف البوسفور.

وبذلك كذلك سفير فرنسا في الاستانة مساعي جمة لتعضيد محمد علي فاجتمعت هذه الاسباب المتنوعة وعدلت من خطة الباب العالي، فبعث الديوان الى صالح باشا يطلق يده ويكل اليه التصرف المطلق في الامر كما سيأتي.

معركة النجيلة

قلنا ان محمد علي باشا انفذ الى الرحمانية جزءا من جيشه لمحاربة محمد بك الالفي والاتراك فوصل هذا الجيش في اواخر يوليه سنة 1806 الى الرحمانية، وكان يقود حاميتها طبوز اوغلي (كتخدابيك) وطاهر باشا ابن اخت محمد علي باشا، فلما أقبلت النجدة استظهر بها القائدان وخرجا من الرحمانية، ولما فهم الالفي بهذه الحركة اعتزم لقاءة قوات محمد علي، فحمل الحصار عن دمنهور واقبل بقواته واشتبك هووجنود محمد علي في النجيلة يوم 12 اغسطس سنة 1806 وانتهت المعركة بهزيمة العلويين فانسحبوا بقيادة كتخدا بك الى منوف بعد ان خسروا نحوستمائة بين قتيل واسير واستولى المماليك على الرحمانية.

رواية الجبرتي عن معركة النجيلة

كانت معركة النجيلة ذات خطر وشأن وكان لها تاثير بالغ في نفس محمد علي باشا ، فنطق الجبرتي في صددها ما يلي:

"وفي ثاني عشر جمادى الاولى سنة 1221 وردت الاخبار بان العساكر الكائنين في الرحمانية ومرقص رجعوا الى النجيلة ونصبوا عرضيهم (معسكرهم) هناك وحضر الالفي تجاههم فركبوا لمحاربتهم وكانوا جمعا عظيما، فركب الالفي بجيوشه وحاربهم وسقط بينه وبينهم سقطة عظيمة انجلت عن نصرته عليهم وانهزام العسكر وقتل من الدلاة وغيرهم مقتلة عظيمة ولم يزالوا في هزيمتهم الى البحر (النيل) والقوا أنفسهم فيه، وامتلأ البحر من طراطير الدلاتية (الدلاة) ، وهرب كتخدا بك وطاهر باشا الى بر المنوفية وعدوا في المراكب واستولى الالفي وجيوشه على خيولهم وخيامهم وحملاتهم وجخاتهم وارسل برؤوس القتلى والاسرى الى القبودان (صالح باشا) واشيع خبر هذه الواقعة في الناس وتحدثوا بها وانزعج الباشا والعسكر انزعاجا عظيما".

استنئاف حصار دمنهور ودفاعها المجيد

تشجع الالفي بهذا الفوز وعاود محاصرة دمنهور، فدافع أهلها دفاعا مجيدا مدة شهرين من بدء الحصار الاول، وكانوا مهجروين لقوتهم، وعبثا طلبوا النجدة من محمد علي فانه لم يستطع ان يمدهم خلال هذه المدة، فلما استأنف الالفي حصارها كان على يقين من استيلائه عليها عنوة وخاصة بعد فوزه على جنود محمد علي في النجيلة والرحمانية، وقد زحف هذه المرة مجهزا بالمدافع الكثيرة التي يقوم عليها رماة من الأروام والايطالييين أمده بهم النجليز. ولكن الألفي لم ينل من دمهور منالا، اذا دافع اهلها عنها رجالا ونساء دفاع الابطال وردوا هجمات المماليك المرة بعد المرة. وفي خلال الحصار أوفد اهلها الى السيد عمر مكرم والى محمد علي باشا بما يجدر بهم عمله فاتىهم الجواب بوجوب الاستمرار على المقاومة، وامدهم السيد عمر مكرم بكل ما يحتاجون اليه من الذخيرة والميرة، نطق الجبرتي في ترجمة محمد بك الالفي أنه "رجع الى البحيرة وأراد دمنهور فامتنع عليه اهلها وحاربوه وحاربهم ولم ينل منهم غرضا والسيد عمر مكرم يقويهم ويمدهم ويرسل اليهم البارود وغيره من الاحتياجات".

وظل الالفي زهاء شهر يحاول الاستيلاء على دمنهور فيرتد عنها خائبا، وقد أثر هذا الفشل في تطور الاحوال تاثيرا كبيرا، نطق فولابل في هذا الصدد: "يمكن اعتبار دفاع دمنهور ذلك الدفاع الذي جمع بين الشجاعة والثبات، وكذلك تخاذل رؤساء المماليك، من أبرز الاسباب المباشرة التي احبطت اخطة المرسومة بالاشتراك بين الباب العالي والإنجليز". ويقول المسيوجومار في هذا المعنى : "ان أهالي دمنهور قد أظهروا مثل هذه الشجاعة والمثابرة اثناء الحملة الفرنسية في ظروف تختلف عن الظروف التي قاوموا فيها قوات الالفي مما يشير على ما فطروا عليه من الشجاعة".

حبوط مؤامرة العزل

انتهز محمد علي فرصة انهماك الالفي في محاصرة دمنهور فاتصل بحاشية صالح باشا بالهدايا والرشوة ليحولهم الى صفه، وقد أحدث المال في نفس صالح باشا ونفوس بطانته تحولا كبيرا في وجهة نظرهم، وزاد هذا التحول خيبة الالفي في الاستيلاء على دمنهور وما تبين لصالح باشا من انقسام المماليك وتخاذلهم، فان البرديسي لما رأى ارتباط الالفي بالنجليز اعرض عن تأييده المماليك والركون اليهم لان الالفي تعهد ان يؤدي له 1500 جيس كانت ثمن اعادتهم للحكم، واوفد رسولا الى زملائه ابراهيم الكبير وعثمان بك البرديسي وعثمان بك حسن وكانوا وقتئذ بالصعيد يسالهم معاونتهم في اداء هذا المبلغ، ولكنهم ردوا الرسول خائبا وفهم صالح باشا بذلك فغضب علي الالفي واخذ يفكر في تغيير خطته، وراى حتى تأييد زعماء الشعب لمحمد علي، ورفضتهم ولاية موسى باشا وتضعضع الالفي في حصار دمنهور وتخاذل المماليك فيما بينهم جميع هذه الاسباب تبرر تحويل شراعه الى ناحية محمد علي.

وفي غضون ذلك وردت من الباب العالي الى صالح باشا رسالة تطلق يده وتفوض اليه ان يتصرف على ما يراه صالحا، ومعنى ذلك ان حكومة الاستانة رجعت عن فرمانها القاضي بعزل محمد علي باشا من ولاية مصر، فصحت عزيمة صالح باشا على تثبيت محمد علي في الولاية، وتم الامر على ذلك في لقاء ان يؤدي الى الباب العالي 4000 كيس ، وأن يجعل ابنه ابراهيم بك (باشا) رهينة بالاستانة على هذا المبلغ، وانتهت المشكلة بورود مرسوم الى محمد علي يتضمن ابقاءه واستمراره على ولاية مصر حيث ان الخاصة والعامة راضية بأحكامه وعدله بشهادة الفهماء واشراف الناس"، فزينت القاهرة لهذا النبأ ثلاثة أيام متواليات.

فمرسوم التثبيت مبنى اذن على ان محمد علي بااش مؤيد من الشعب سقمي عنه من زعمائه موثوق في عدله، ومن ذلك يتبين حتى الزعامة الشعبية كما كانت صاحبة اليد الطولى في اختيار محمد علي باشا لولاية الحكم فانها كانت العامل الاكبر في توطيد مركزه واحباط المؤامرة الواسعة النطاق التي كادت تقتلعه عن عرشه.

وانتهت تلك المؤامرة بالاخفاق والفشل واقلع القبودان صالح باشا بعمارته من أبوقير يوم 18 أكتوبر سنة 1806 (5 شعبان سنة 1221) قاصدا الاستانة بصحبة موسى باشا وابراهيم بك بن محمد علي، وهجر صالح باشا وكيله بمصر ليتعجل توفية الاربعة آلاف كيس التي تعهد بها لحكومة الأستانة.

وبذل محمد علي جهده فأدى الأربعة آلاف كيس كاملة في أوائل نوفمبر سنة 1806، فاتىه رسول من الاستانة يحمل فرمانين احدهما بإقراره في حكمه والثاني يأمره فيه بتسفير المحمل وارسال القمح المطلوب الى جدة.

وبذلك استقر محمد علي على عرش مصر وحبطت المؤامرة التي كان يقصد منها عزله.

وفاة البرديسي

كانت العناية الالهية تلحظ محمد علي باشا في أدوار حياته، ففي الوقت الذي انتهت فيه مؤامرة الباب العالي والإنجليز بالاخفاق والفشل اتىه الخبر بوفاة عثمان بك البرديسي احد زعماء المماليك الذين يطمحون الى ولاية الحكم واحد الذين يخشى منهم على عرشه الجديد، فالبرديسي ما فتئ يتحين الفرص لتحقيق مطامعه الى ان عاجلته المنية يومثمانية رمضان سنة 1221 (19 نوفمبر سنة 1806)، فدفنه أتباعه في الصعيد وأمروا عليهم شاهين بك المرادي خلفا له، وشاهين بك هذا كان خصما لدودا للألفي فكانت امارته حائلة دون توحيد صفوف المماليك وسببا لاطمنان محمد علي من هذه الناحية.

وغني عن البيان ان محمد علي باشا قد ابتهج بوفاة أحد خصومه الذين ينافسونه في الحكم، ولم يكد يمضي شهران على وفاة البرديسي حتى عاجلت المنية خصمه الآخر الألد محمد بك الألفي.

اخفاق الألفي ووفاته

لم ييئس الألفي حتى يظاهره الانجليز في انتزاعه الحكم، فاستمر متصلا بقنصل انجلترا في مصر يطلب من دولته النجدة والمدد، وفي غضون ذلك انتقضت العلاقات بين انجلترا وهجريا، واعتزمت انجلترا احتلال مصر، ومن هنا اتىت فكرة الحملة الانجليزية التي سيأتي الكلام عنها فيما يلي، وقد أنبأه قنصل انجلترا بقرب وصول العمارة الانجليزية بهذه الحملة. فكان هذا النبأ باعثا له على البقاء في البحيرة ليتصل بالانجليز عند قدومهم، وقد شدد الحصار على دمنهور ليفتحها ويتخذها معقلا له، ولكن مقاومة دمنهور وامتناعها عليه افسد خطته، ذلك ان جنوده سئموا الاستمرار على الحرب والقتال واشتد بهم الحر والتعب، ونفدت مؤونتهم، وكان ذلك في زمن القيظ فتمردوا عليه وأعربوه بأنهم تاركوه اذا أصر على متابعة الحصر، وانتظر هوعبثا ورود النجدة الإنجليزية فلم تصل (وكانت آتية في الطريق)، فاضطر ان ينقلب بجيوشه الى الصعيد بعد حتى خانه الحظ وخذله زملاؤه، وتمرد عليه جنوده، وأبطأ عليه حلفاؤه.

فامتناع دمنهور واستعصاؤها على الألفي كان من أبرز مسببات اخفاقه في سياسته، نطق المسيومانجان في هذا الصدد: "ان دفاع دمنهور المجيد هوجدير بأن يسجل في صفحات تاريخ مصر الحربي فقد تولى اهلها الشجهان هذا الدفاع وحدهم دون حتى يتلقوا أي مدد أومساعدة حتى من محمد علي الذي كان هذا الدفاع دفاعا عنه فقاوم أولئك الشجعان بكل ثبات وبسالة قوات الألفي كلها الى حتى تكلل دفاعهم بالنجاح فكان له تأثير كبير في احباط خطة الباب العالي.

ونطق الجبرتي في ترجمة حياة محمد الألفي يصف موقفه بعد رحيل صالح باشا الى ان ارتد عن دمنهور: "ولما تنحت عنه عشيرته ولم يلبوا دعوته وأتلفوا الطبخة وسافر القبودان وموسى باشا من ثغر إسكندرية على الصورة المذكورة استأنف المترجم أمرا آخر، وراسل الإنكليز يلتمس منهم المساعدة، وأن يرسلوا له طائفة من جنودهم ليقوى بهم على محاربة الخصم كما التمس منهم في العام الماضي فاعتذروا له بأنهم على صلح مع العثماني وليس في قانون الممالك اذا كانوا في صلح ان يتعدوا عل المسافرين معهم ولا يوجهون نحوهم عساكر الا باذن منهم أوبالتماس لمساعدة في أمر مهم، فغاية ماقد يكون المكالمة والترجي، فعملوا وحصل ما تقدم ذكره ولم يتم الأمر، فلما خاطبهم عبد الذي جرى صادف ذلك وقوع النفرة بينهم وبين العثماني، فارسلوا الى المترجم يوعدونه بانفاذ ستة آلاف لمساعدته، فأقام بالبحيرة ينتظر حضورهم نحوثلاثة شهور، وكان ذلك أول القيظ وليس ثم غرس ولا نبات، فضاقت على جيوشه الناحية، وقد طال انتظاره الانكليز، فتشكى العربان المجتمعون عليه وغيرهم لشدة ما هم فيه من الجهد، وفي جميع حين يوعدهم بالفرج ويقول لهم اصبروا لم يبق الا القليل، فلما اشتد بهم الجهد اجتمعوا اليه ونطقوا له إما حتى تنتقل معنا الى ناحية قبلي فإن أرض الله واسعة وإما حتى تأذن لنا في الرحيل في طلب القوت، فما وسعه إلا الرحيل مكظوما مقهورا من معاندة الدهر في بلوغ المآرب – الأول مجئ القبودان وموسى باشا على هذه الهيئة والصورة ورجعوعها على غير طائل، الثاني عدم ملكه دمنهور وكان قصده ان يجعلها معقلا ويقيم بها حتى تأتيه النجدة، الثالث تأخر مجئ النجدة حتى قحطوا واضطروا الى الرحيل، الرابع، وهوأعظمها، مجانية اخوانة وعشيرته وخذلانهم له وامتناعهم عن الانضمام اليه، فارتحل من البحيرة بجيوشه ومن يصحبه من العربان حتى وصل الاخصاص".

عاد الألفي قاصدا الصعيد بعد خذلانه في حصار دمنهور، وقد تولاه اليأس والقنوط، وسار كئيبا حزينا ومعه القوات الكثيرة التي كان يحسب أنها تصل به الى عرش النيل، فكان تحت لوائه ستة آلاف من العرب وستمائة من فرسان المماليك وثمانمائة من الهجر والنوبيين ومعه من آلات القتال عشرة مدافع وعدد لا يحصى من البنادق والأسلحة وكانت الميرة والمؤونة تحملها آلاف عدة من الإبل.

رجع الألفي بهذه القوات الحاشدة في أوائل يناير سنة 1807، فكان لا يمر ببلدة إلا أباحها لجيشه نهبا وسلبا، فكان أهل القرى ينزحون عن بلادهم اذا ما اقترب منها ويخلونها من الميرة والمتاع والماشية نجاة بها من النهب.

وبلغت هذه الجموع المخربة الى الجيزة، فأوجس محمد علي خيفة من مجئ خصمه الألد بهذه القوة الرهيبة، وأخذ يستعد للمقاومة، فجمع نحوأربعة آلاف من جنوده في شبرا (12 يناير سنة 1807) وعبر بهم الى النيل الى إمبابة واتخذها معسكره العام، ولكنه رأى من كثرة جموع الألفي ما جعله يحجم عن مهاجمته.

وكانت طلاائع الألفي تحت قيادة شاهين بك قد تقدمت واحتلت قرية الكوم الأسود التي تقع على مسير ساعة ونصف من امبابة جنوبا، وسار الألفي بك حتى بلغ شبرامنت، ولم تغادره الكآبة التي لازمته من يوم رحيل العمارة الهجرية وحمل الحصار عن دمنهور، وزاد في غمه أنباء وصلته عن تخاذل رؤساء المماليك في الصعيد وتخليهم عن نصرته وقد كان يؤمل حتى يتخذوه رئيسا لهم بعد وفاة البرديسي، فاشتد غيظه وانفجر صدره كمدا وصرعه السقم فأحس بدنوأجله، فنادى البكوات المماليك من أتباعه وأمر عليهم شاهين بك الألفي خليفة له، ثم قضى نحبه ليلة 28 يناير سنة 1807 (19 ذوالقعدة سنة 1221).

خط المسيومانجان عن مصرعه أنه خرج للتنزه ممتطيا جواده فرأى عربانا من جيشه يتلفون مغرسة فثارت نزوة الغضب في رأسه فانقض عليهم وقتل أربعة منهم كان بينهم شيخ قبيلة ولما انقلب الى خيمته اعتراه قئ مستمر وأصابه سقم قتال قيل أنه الكوليرا ولم يمهله إلا ساعات حتى أودى بحياته وكان له من العمر خمس وخمسون سنة، وأوصى بأن يدفن في البهنسا.

وذكر الجبرتي أنه لما وصل الى قرب قناطر شبرامنت جلس على ربوة هناك وزادت هواجسه وآلامه وأخذ يودع أحلامه وآماله ثم تحرك به خلط دموي وتقيأ دما وأحس بدنوأجله فنطق: "قضي الأمر وخلصت مصر لمحمد علي".

مات الألفي في الوقت الذي كان الإنجليز يسيرون حملتهم على مصر، وقد وصلت هذه الحملة الى الإسكندرية بعد موته بنحوأربعين يوما، وقد يحدث موته من مسببات إخفاق تلك الحملة كما سيجئ، وبموته تخلص محمد علي من ألد أعدائه وأقواهم بأسا وأصعبهم مراسا.

الحملة على المماليك في الصعيد

قضى الألفي نحبه في الوقت الذي كان محمد علي باشا يجهز تجريدة لمحاربة المماليك في الوجه القبلي، فلما أعد معدات الحملة بدأ بالزحف، وكان جيشه مؤلفا من ثلاثة آلاف من المشاة وثلاثة آلاف من الفرسان وست سفن مسلحة، وأقلت الحملة نحوثمانمائة مركب، وأصيب محمد علي هوأيضا بالكوليرا لكن طبيبه الخاص عنى به أحسن العناية وتغلبت بنيته القوية على السقم فشفى منه وكان في أيام سقمه موضع العطف من الفهماء والأعيان، فلما نقه وانتهض اعتزم السير الى الصعيد فعهد بادارة الأمن الى كتخدا وغادر القاهرة يوم 12 فبراير سنة 1807.

وفهم ان قوات المماليك احتشدت في المنيا فقصد اليها بجيشه ولما وصل الى بني سويف أوفد الى زعماء المماليك رسلا من الفهماء يسعون للصلح، وكانت تلك خدعة منه، وأخذ في الوقت نفسه يجتذب اليه بعض العربان الموالين للماليك ويتسميلهم بالمال، ثم تقدم ذات ليلة الى معسكر المماليك ولما كانت حراسته موكولة الى أولئك العربان توصل اليه بارشادهم فانقض على المماليك وهم نائمون فأسقط بهم واستولى على جميع مدافعهم ومهماتهم وتعقب الفارين منهم الى حدود الصحراء.

وبعد حتى هزمهم بالقرب من أسيوط احتل المدينة واتخذ معسكرة فيها، وهناك تلقى أخبار الحملة الانجليزية.

انظر أيضا

  • محمد علي
  • حملة فريزر

المصادر

  1. ^ الرافعي, عبد الرحمن (2009). عصر محمد علي. القاهرة، مصر: دار المعارف.
تاريخ النشر: 2020-06-04 10:16:58
التصنيفات: صفحات تستعمل قالبا ببيانات مكررة, عصر محمد علي

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

كورونا: 951 إصابة جديدة و14 وفاة خلال 24 ساعة الأخيرة

المصدر: آخر ساعة - الجزائر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-03 21:23:50
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 63%

الإسترليني يرتفع مقابل الدولار بنسبة 0.28 %

المصدر: اليوم - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-03 21:23:30
مستوى الصحة: 48% الأهمية: 68%

صلاة الاستسقاء بجميع مساجد المملكة غدا الجمعة

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-03 21:24:15
مستوى الصحة: 54% الأهمية: 53%

أسعار النفط تسجل ارتفاعاً مع استمرار تصاعد الطلب

المصدر: اليوم - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-03 21:23:28
مستوى الصحة: 56% الأهمية: 61%

استئناف الدراسة بالأطوار التعليمية الثلاث بداية من الأحد القادم

المصدر: آخر ساعة - الجزائر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-03 21:23:39
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 63%

تحت إشراف طوبوغرافيين ... هذه آخر مستجدات قضية إنقاذ الطفل "ريان"

المصدر: أخبارنا المغربية - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-03 21:23:24
مستوى الصحة: 62% الأهمية: 71%

حقيقة حدوث انجراف للتربة بمحيط سقوط الطفل "ريان"

المصدر: أخبارنا المغربية - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-03 21:23:27
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 73%

التماس 6 سنوات حبسا نافذا في حق الوزيرة السابقة هدى فرعون

المصدر: آخر ساعة - الجزائر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-03 21:23:41
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 59%

إطلاق Playhera Mena بالشراكة مع زين باستثمارات تتجاوز 375 مليون ريال السعودية

المصدر: جريدة الوطن - السعودية التصنيف: إقتصاد
تاريخ الخبر: 2022-02-03 21:22:24
مستوى الصحة: 59% الأهمية: 64%

صلاة الاستسقاء بجميع مساجد المملكة غدا الجمعة

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-03 21:24:19
مستوى الصحة: 49% الأهمية: 56%

السجن شهراً والإبعاد لمقيم تورط ببيع الحديد المغشوش بالرياض

المصدر: اليوم - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-03 21:23:26
مستوى الصحة: 50% الأهمية: 59%

بدون قصد.. ابن يتسبب في مقتل والده بطريقة بشعة نواحي آسفي

المصدر: أخبارنا المغربية - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-03 21:23:26
مستوى الصحة: 72% الأهمية: 73%

السماح بإعطاء لقاح نوفافاكس للمراهقين في بريطانيا

المصدر: اليوم - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-03 21:23:30
مستوى الصحة: 53% الأهمية: 69%

المغرب يحصل على عضوية مجلس السلم والأمن في الاتحاد الإفريقي

المصدر: طنجة 7 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-03 21:23:16
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 54%

الأسهم البريطانية تغلق على انخفاض

المصدر: اليوم - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-03 21:23:25
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 60%

ضبط 9 مركبات محملة بالحطب المحلي في 6 مناطق بالمملكة

المصدر: اليوم - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-03 21:23:28
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 57%

"إدريس الشكر" يُعطي رأيَه في حكومة "عزيز أخنوش" ويؤكد: غير مُنسجمة

المصدر: أخبارنا المغربية - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-03 21:23:26
مستوى الصحة: 61% الأهمية: 73%

برج بوعريريج: تفحم تسعينية في حريق منزل ببلدية خليل

المصدر: آخر ساعة - الجزائر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-03 21:23:47
مستوى الصحة: 48% الأهمية: 68%

تحميل تطبيق المنصة العربية