محاكم تفتيش العصور الوسطى

عودة للموسوعة

محاكم تفتيش العصور الوسطى

Pedro Berruguete. Saint Dominic Presiding over an Auto-da-fé (around 1495).

محاكم التفتيش في العصور الوسطى Medieval Inquisition، هي سلسلة من محاكم التفتيش التابعة للكنيسة الكاثوليكية كانت مسئولة عن قمع البدع من حوالي عام 1184، لتضم محاكم التفتيش الأسقفية (1184-ع1230) حتى محاكم التفتيش البابوية المتأخرة (ع1230). وكانت محاكم التفتيش في العصور الوسطى استجابة لمجموعة كبيرة من الحركات الشعبية التي انتشرت في اوروپا والتي كانت تعتبرها الكنيسة بدعة أوردة عن المسيحية، وخاصة الكاثارية والوالدنسية في جنوب فرنسا وشمال إيطاليا. وكانت محاكم التفتيش البابوية والأسقفية من أولى سلسلة محاكم التفتيش التي ظهرت واستمرت فيما بعد.

الخلفية

لقد سن كتاب العهد القديم قانوناً بسيطا لمعاملة المارقين من الدين ، يقضى بأن يفحص عنهم فحصاً دقيقاً، فإذا شهد ثلاثة شهود عدول بأنهم: "مضىوا وراء آلهة أخرى" أخرج المارقون من المدينة و"رجموا بالحجارة حتى يموتوا" (تثينة التشريع 13: 10) .

إذا قام في وسطك نبي أوحالم وأعطاك آية أوأعجوبة ، ولوحدثت الآية أوالأعجوبة التي حدثك عنها قائلا لنمضى وراء آلهة أخرى لم تعهدها وتعبدها ، فلا تسمع لكلام ذلك النبي أوالحالم ذلك الحلم ، لأن الرب إلهكم يمتحنهم لكي يفهم هل تحبون الرب إلهكم من جميع قلوبكم ومن جميع أنفسكم... وذلك النبي أوالحالم ذلك الحلم يقتل لأنه يتحدث بالزيغ من وراء الرب إلهكم... فتنزعون الشر من بينكم. وإذا أغواك سراً أخوك بن أمك , أوأبنك أوأبنتك، امرأة حضنك، أوصاحبك الذي مثل نفسك قائلا نمضى ونعبد آلهة أخرى لم تعهدها أنت ولا آباؤك... فلا ترض منه ولا تسمع له، ولا تشفق عينك عليه، ولا تستره بل قتلاً تقتله. (تثينة التشريع 13: 1-9). لا تدع ساحرة تعيش (الخروج 22 : 18).

وقد ورد إنجيل يوحنا (15: 6) حتى عيسى عليه السلام ارتضى هذا القول: "إن كان أحد لا يثبت في يطرح خارجاً كالغصن فيجف ، ويجمعونه ويطرحونه في النار فيحترق" وحافظت الجماعات اليهودية في العصور الوسطى من الوجهة النظرية على الشريعة الكتاب المقدس الخاصة بالمروق من الدين، ولكنها قلما عملت بها. واستمسك بها ابن ميمون بلا تحفظ(36).

وكانت قوانين اليونان ترى المروق من الدين - أي الامتناع عن عبادة الآلهة اليونانية جريمة كبرى يعاقب عليها بالإعدام، وهذا هوالقانون الذي حكم به على سقراط بالموت، وفي روما القديمة، حيث كان الآلهة حلفاء الدولة وأصدقاءها الاوفياء، كان الخروج عليهم أوالتجديف في حقهم من جرائم الخيانة العظمى التي يعاقب عليها بالإعدام. فإذا لم يوجد من يتقدم باتهام المذنب، استدعى القاضي الروماني نفسه هذا المتهم وقام بتحقيق القضية (inquisition)، ومن هذا الإجراء أخذت محكمة التفتيش أوالتحقيق العصور الوسطى شكلها وأسمها. وطبق أباطرة الروم القوانين الرومانية في العالم البيزنطي فحكموا بالإعدام على المانويين وغيرهم من المارقين. ثم كثر التسامح في البلاد الغربية خلال العصور المظلمة وهي التي قلما كان أبناؤها يتحدون الكنيسة، ونطق ليوالتاسع حتى الحرمان من الدين يجب حتىقد يكون هوالعقاب الوحيد الذي يسقط على المارقين(37). ولما انتشر الإلحاد في القرن الثاني عشر نطق بعض رجال الكنيسة إذا حرمان الملحدين يجب حتى يعقبه نفي الدولة إياهم أوسجنهم(38). ولما عادت بولونيا في القرن الثاني عشر إلى اتباع القوانين الرومانية اتىت في قانونها نصوص وأساليب، ودوافع، لإنشاء محكمة تحقيق، ونقل قانون الإلحاد الكنسي حدثة من القانون الخامس المعنون Dehereticls (الضلال) في كتاب جستنيان(39). وكان آخر ما عملته الكنيسة حتى أخذت في القرن الثالث عشر قانون ألد أعدائها، فردريك الثاني، وهوحتىقد يكون الإعدام عقوبة الضلال.

ولقد كان من المبادئ العامة لدى المسيحيين - ولدى كثيرين من الضالين أنفسهم - حتى الكنيسة قد أقامها ابن الله، وتبعا لهذا المبدأ كان جميع هجوم على الممضى الكاثوليكي جريمة موجهة إلى اللّه نفسه، وكانت النظرة التي ينظر بها إلى الضال العاصي هي أنه أداة للشيطان أوفد للقضاء على عمل المسيح، وكل رجل من رجال الحكم بغض النظر عن الضلال إنما يخدم الشيطان بعمله هذا. وإذ كانت الكنيسة نشعر بأنها جزء لا يتجزأ من حكومة أوربا الأخلاقية والسياسية، فقد كانت تنظر إلى الضلال كما تنظر الدولة إلى الخيانة: أي أنه عمل يراد به تقويض أسس النظام الاجتماعي. وفي ذلك يقول إنوسنت الثالث: "إن القانون المدني يعاقب الخونة بمصادرة أملاكهم وإعدامهم ... وهذا يؤكد حقنا في حتى يحرم من الدين من يخونون دين المسيح، وأن تصادر أملاكهم، ذلك بأن الإساءة إلى الذات العلية المقدسة جريمة أشنع من الإساءة إلى جلالة الملك"(40). وكان الضال يظهر في أعين الحكام الدينيين أمثال إنوسنت شراً من المسلم أواليهودي، ذلك حتى هذين يعيشان إما في خارج العالم المسيحي أويخضعان لقانون نظامي - صارم - إذا كانا في داخله؛ يضاف إلى هذا حتى العدوالأجنبي جندي في حرب صريحة، أما الضال فهوخائن في داخل البلاد يقوض أسس المسيحية وهي مشتبكة في حرب طاحنة مع الإسلام، يضاف إلى هذا في رأي رجال الدين، أنه إذا أجيز لكل إنسان حتى يفسر الكتاب المقدس حسب ما يراه عقله (مهما يكن قاصراً)، وينشئ لنفسه الصورة التي يرتضيها من صور المسيحية، فإن الدين الذي حفظ لأوربا قانونها الأخلاقي الضعيف لن يلبث حتى ينهار ويتفرق إلى مائة عقيدة، ويفقد ما له من أثر بوصفه قوة اجتماعية تربط الآدميين المتوحشين بفطرتهم، تخلق منهم مجتمعاً وحضارة.

وكان الشعب نفسه، إلا في جنوبي فرنسا وإيطاليا، أشد الناس حماسة في اضطهاد المخالفين، وقد يحدث هذا لأن الشعب نفسه يعتنق آراء رجال الدين السالفة الذكر دون حتى تكون دون لها في ذهنه صورة واضحة لها، أولأن النفوس الساذجة تخشى بفطرتها جميع مخالف وغريب، أولأن الناس يسرهم حتى يطلقوا في غمار الجماهير المجتمعة المجهولة العنان لغرائزهم المكبوتة بسبب ما عليهم من التبعات بوصفهم أفراداً. وأيا كان السبب فإن "الغوغاء أنفسهم قد عاقبوا الضالين قبل حتى تشرع الكنيسة في اضطهادهم بزمن طويل"(41) بل لقد كان الأهلون المتدينون يشكون لين الكنيسة المفرط مع الضالين(42)، وكانوا في بعض الأحيان "يختطفون المنشقين من أيدي القساوسة الذين يحمونهم"(43)، وشاهد ذلك ما خطه قس من فرنسا الشمالية إلى إنوسنت الثالث يقول: "لقد بلغ من تقوى الناس هذه البلاد أنك لا تراهم على استعداد لأن يبعثوا إلى موضع الحرق بمن ثبت ضلالتهم فحسب، إنهم ليبعثون إليه فوق ذلك بكل من يظنونه ضالا"(44)، وحدث في عام 1114 حتى زج أسقف سواسون ببعض الضالين في سجن، لكن العامة انتهزوا فرصة غيابهم "خافوا حتى يصطنع رجال الدين معهم "فهجموا على السجن وجردوا الضالين منه وحرقوهم أحياء(45). وأصر العامة في ليبج عام 1144 على حتى يحرق بعض الضالين الذين كان الأسقف أدلبروAdlbero لا يزال يأمل في هدايتهم(46). ولما نطق بيير ده بروي Birre de Bruys "إن القساوسة يكذبون حين يدعون أنهم يصنعون جسم المسيح" (وهم يصنعون القربان المقدس) وأحرق كومة من الصلبان في يوم الجمعة الحزينة، قتله العامة في مكانه وأحرقوه لساعته(48).

واشهجرت الدولة على كره منها في اضطهاد الضالين لأنها كانت تخشى ألا تستطيع الحكم بغير مساعدة الكنيسة التي تغرس في قلوب الناس عقيدة دينية موحدة. يضاف إلى هذا خوفها حتىقد يكون الضلال الديني ستاراً يخفي وراءه التطرف السياسي، ولم تكن في ظنها هذا مخطئة على الدوام(49). وقد يحدث للاعتبارات المادية أثر في هذا الشأن لأن الضلال الديني أوالسياسي كان يعرض للخطر أملاك الكنيسة والدولة، ولهذا، كان الرأي العام بين الطبقات العليا - مع استثناء لانجويدك مرة أخرى - يطلب إلى الدولة حتى تقضي على الضلال مهما كفها ذلك(50). ولهذا أمر هنري السادس إمبراطور ألمانيا (1194) حتى ينزل بالضالين أشد أنواع العقاب، وأن تصادر جميع أملاكهم، وأصدر أتوالرابع (1210)، ولويس الثامن ملك فرنسا (1226)، وأصدرت مدينتا فورنس (1227) وميلان (1228)، مراسيم شبيه بمرسوم هنري. وكان أشد قوانين والاضطهاد هوالقانون الذي سنه فردريك الثاني فيما بين عامي 1220 و1239 وقضى بأن يسلم الضالون الذين تحكم عليهم الكنيسة إلى " اليد الزمنية - أي إلى ولاة الأمور المحليين - وأن يحرقوا أحياء، فإذا ما رجعوا عن ضلالهم نجوا من الموت وحكم عليهم بالسجن مدى الحياة، ثم صودرت جميع أملاكهم، وحرم ورثتهم من ميراثهم، وظل أبناؤهم محرومين من حق الاختبار إلى أي منصب ذي ولج أوكرامة، إلا إذا كفروا عن ذنب آبائهم بالتبليغ عن غيرهم من الضالين . وقضى القانون بأن تحرق بيوت الضالين ولا يعاد بناؤها قط(51). وأضاف لويس التاسع الرقيق الظريف أحكاماً شبيهة بهذه الأحكام إلى قوانين فرنسا والحق حتى الملوك هم الذين كانوا ينازعون الشعب فضل البداية في اضطهاد الضالين. وحسبنا حتى نذكر غير ما تجاوز حتى روبرت ملك فرنسا أمر بإحراق ثلاثة عشر ضالاً في أورليان عام 1022؛ وكان هذا أول حادث معروف من حوادث إعدام الضالين بعد إعدام برسليان priscilian بأيدي السلطات الزمنية في عام 385. وبعد ذلك شنق هنري الثالث إمبراطور ألمانيا عدداً من المانويين أوالكاثاريين في جسلار غير عابئ باحتجاج وازوWazo أسقف ليبج وقوله إذا في الحرمان من الدين عقاباً كافياً للضالين(52). وفي عام 1183 "بعث الكونت فليب صاحب فلاندرز هوورئيس أساقفة ريمس "عدداً كبيراً من النبلاء، ورجال الدين، والفرسان ، والفلاحين، والفتيات، والنساء المتزوجات، والأرامل إلى حيث أحرقوا وهم أحياء بعد حتى صادرا أملاكهم واقتسماها بينهما".

وكان البحث عن الضالين قبل القرن الثالث عشر يهجر في الأحوال العادية للأساقفة. وإنا ليصعب علينا حتى نسمي هؤلاء الأساقفة باحثين، لأنهم كانوا ينتظرون الشائعات العامة أوالضجيج الذي يدلهم على الضالين، فيستدعونهم ولكنهم يصعب عليهم حتى يحملوهم بطريق التحقيق على الاعتراف بذنوبهم. ولمقد يكونوا يرتضون حتى يلجئوا إلى التعذيب، فكانوا لذلك يعمدون إلى طريق التحكيم الإلهي، وهم مخلصون في ظاهر الأمر في اعتقادهم حتى اللّه سيرسل المعجزات لحماية البريئين. وأيد القديس برنار هذه الوسيلة ووصفها مجلس من الأساقفة عقد في ريمس (1257) بأنها إجراء عادي في محاكمة الضالين، ولكن إنوسنت الثالث حرمها. وساء البابا لوسيوس الثالث إهمال الأساقفة في محاربة الضلال، بأن يزوروا أسقفياتهم مرة في جميع عام على الأقل، وأن يقبضوا على جميع من تحوم حولهم الشبهات وأن يسلكوا جميع من لا يقسم يمين الولاء التام للكنيسة في زمرة الضالين (وقد رفض الكاثاري حتى يقسموا هذا القسم)، ثم عليهم بعد ذلك حتى يسلموا هؤلاء العصاة إلى ولاة الأمور المحليين. وخول مندوبوالبابا حق خلع الأساقفة الذين يتوانون في القضاء على الضلال(54). وطلب إنوسنت الثالث في عام 1215 إلى جميع ولاة الأمور المدنيين حتى يقسموا فهماً بأن "يبيدوا من الأراضي الخاضعة لطاعتهم جميع الضالين الذين عينتهم الكنيسة ليلقوا ما يستحقون من العقاب" فإذا لم يعملوا هذا كانوا هم أنفسهم ضالين. وكل أمير يهمل في أداء هذا الواجب يخلع ويعفي البابا رعاياه من طاعته(55) ولم يكن " العقاب الذي يستحقونه" حتى ذلك الوقت يزيد على النفي ومصادرة الأملاك(56).

ولما ارتقى جريجوري التاسع عرش البابوية (1227) عثر حتى الضلال آخذ في الازدياد رغم المحاكمات الشعبية، والحكومية، والأسقفية. فقد كانت جميع بلاد البلقان، وكان الجزء الأكبر من إيطاليا، وغير قليل من فرنسا، كانت هذه البلاد مرتعاً للزيغ والضلال، حتى لقد أضحت الكنيسة، ولما يمض على سلطات إنوسنت الرائع إلا زمن وجيز، يتهددها خطر الانقسام والتفكك. وكانت المسألة، كما يراها الحبر الطاعن في السن، حتى الكنيسة وهي تقاتل فردريك والضلال في وقت واحد، إنما تقاتل في سبيل المحافظة على حياتها، وأنها يحق لها من أجل المبادئ الأخلاقية والأساليب التي تحتمها حالة الحرب. وروع جريجوري حتى عهد حتى الأسقف فلبوباترنون Fillippo Paterrenon الذي تمتد أسقفيته من بيزا إلى أرزوقد اعتنق ممضى الكاثاري، فعين لجنة للتحقيق يرأسها راهب من الدمنيك تعقد جلساتها في فلورنس وتقدم الضالين إلى المحاكمة (1227). وكانت هذه اللجنة في واقع الأمر بداية محكمة التحقيق البابوية، وإن كان المحققون فيها خاضعين من الوجهة الرسمية لسلطات الأسقف المحلى . فلما كان عام 1231 أدخل جريجوري في قانون الكنيسة الشرائع التي سنها فرردريك في عام 1224، وبذلك اتفقت الكنيسة والدولة من ذلك الوقت على حتى الضالين الذين لا يتوبون عن ضلالهم خونة يجب حتى يعاقبوا بالإعدام، وبهذا أنشئت محكمة (التفتيش) رسميا تحت سلطات البابوات.


المفتشون

المفتش، كان مسئول محكمة التفتيش، وهي هيئة أوبرنامج الغرض منه القضاء على بدعة أوضلالة لا ترضى عنها الكنيسة الكاثوليكية. وحرفياً، المفتش هوإنسان "يبحث في" أو"يستجوب" (اللاتينية inquirere < quaerere، "يبحث"). كبير المفتشين في محكمة تفتيش، كثيرا ما كان يشار إليه بلقب المفتش الأعظم.

النتائج

لقد حققت محاكم التحقيق في العصور الوسطى أغراضها العاجلة، فقد قضت على الكثارية. فرنسا، ولم تبق من الولدنسيين إلا عدداً قليلا من المتحمسين المتفرقين في أماكن مختلفة، وأعادت جنوبي إيطاليا إلى الدين القويم، وأجلت تمزق المسيحية الغربية مدى ثلاثة قرون. وبها انتقلت زعامة أوربا الثقافية من فرنسا إلى إيطاليا، ولكن الملكية الفرنسية المطلقة، بعد حتى قويت باستيلائها على لانجويدك، بلغت من السلطان مبلغاً استطاعت به حتى تخضع البابوية لأمرها في أيام بنيفاس الثامن، وأن تزجها في السجن في عهد حدثنت الخامس. ولم يكن لمحاكم التحقيق في أسبانيا قبل عام 1300 إلا شأن صغير، وترجع نشأتها فيها إلى عام 1232 حين استطاع ريمند البنيافورتي Raymond of panafort الراهب الدمنيكي عند جيمس الأول ملك أرغونة، ان يقنع هذا الملك بإدخال محاكم التحقيق في بلده. ولعل هذا الملك أراد حتى يقلل من شطط محاكم التحقيق فسن في عام 1233 قانوناً يجعل الدولة هي التي تؤول إليها أملاك الضالين المصادرة، وإن أصبح هذا العمل نفسه في القرون التالية حافزاً قوياً للملوك وجدوا حتى التحقيق والاستيلاء عملان شديدا الاتصال أحدهما بالآخر.

وفي شمال إيطاليا ضل الضالون كثيري العدد فلم يكن أتباع الدين القويم يعنون كثيراً بالاشتراك في اصطياد الضالين، وكان الطغاة المستقلون أمثال إزلينوEzzelino في فيشنزا Vicenza وبلافيشينوPallaviclno في كرمونا وميلان يحمون الضالين سراً أوجهراً. وفي فلورنس أنشأ الراهب روجيري Ruggieri جماعة عسكرية من النبلاء المتمسكين بالدين لتأييد محكمة التحقيق، واشتبك معهم البارتيون في معارك دموية في الشوارع ولكنهم هزموا فيها (1245)، ثم أخفت الضلالة في فلورنس رأسها فيما بعد، وحدث في عام 1252 حتى اغتال بعض الضالين الراهب بيرودافرونا Piero da Verona في ميلان، فلما اغتال سلكته الكنيسة في عداد القديسين الشهداء وأسمته الشهيد بطرس، وكان لعملها هذا الأثر في مقاومة الضلالة في شمالي إيطاليا أكثر مما كان لجميع فظائع المحققين. وشنت البابوية حروباً صليبية على إزلينووبلافنسينو، وقضى على أولها في عام 1259 وعلى الثاني في عام 1268، وبهذا كان فوز الكنيسة في إيطاليا نصراً حاسماً في ظاهر الأمر.

ولم تثبت محكمة التحقيق قدمها في إنجلترا. نعم إذا هنري الثاني حرص على إثبات تمسكه بدينه في أثناء نزاعه مع بكت بأن جلد واحداً وعشرين من الضالين وكواهم بالنار في أكسفورد عام 1266 (84). ولكننا لا نكاد نسمع عن ضلالة في إنجلترا قبل أيام ويكلف Wycalf. وفي ألمانيا ترعرعت محكمة التحقيق وأقدمت على أعمال جنونية زمناً قصيراً، ثم ماتت. فقد وقع في عام 1212 حتى أحرق هنري أسقف أسترسبرج ثمانين ضالاً في يوم واحد، وكان معظمهم ولديين،وأعرب زعيمهم القس يوحنا عدم إيمانه بالغفران، وبالمطهر، وببقاء رجال الدين بلا زواج، ونطق إذا رجال الدين يجب إلا تكون لهم أملاك. وفي عام 1227 عين جريجوري التاسع كنراد Gonard قس ماربرج Marburg رئيساً لمحاكم التحقيق في ألمانيا وأمره ألا يكتفي بالقضاء على الضلال ، بل حتى يصلح أحوال رجال الدين بعد حتى وصمهم البابا بالفساد، ونطق إذا فسادهم هوأبرز مسببات ضعف الإيمان بين الناس. واضطلع كنراد بكلا الواجبين بمنتهى القسوة، وخير جميع من اتهموا بالضلال بين واحدة من اثنتين: إما الاعتراف فالعقاب، أوالإنكار فالموت حرقاً. ولما حتى سار في إصلاح رجال الدين على هذا النحومن الجد، انضم المتمسكون بدينهم والضالون بعضهم إلى بعض في مقاومته، وانتهى الأمر بأن قتله أصدقاء ضحاياه (1233)، وتولى الأساقفة الألمان أعمال محاكم التحقيق، وخففوا من غلوائها، وجعلوا إجراءاتها أقرب إلى العدالة من ذي قبل. وبقيت بعض الشيع الدينية، بعضها شيع ضالة وبعضها صوفية، بوهيميا وألمانيا، ومهدت السبيل إلى هوس Huss ولوثرLuther.

وبعد فإنا حين نصدر حكماً على محاكم التحقيق يجب حتى ننظر إليها على ضوء عصر اعتاد الوحشية، ولعل عصرنا الحاضر الذي اغتال في الحروب وأزهق من الأرواح البريئة دون أية محاكمة، أكثر من أمثالهم بين أيام قيصر ونابليون، أقدر من غيره على فهم هذه المحاكم. إذا التعصب يلازم الإيمان القوي على الدوام، والتسامح لا ينشأ إلا حين يفقد الإيمان يقينه، أما اليقين فسيف بتار. ولقد أقر أفلاطون التعصب في "قوانينه"، وأقره المصلحون في القرن السادس عشر، وإن بعض من ينتقدون محكمة التحقيق ليدافعون عن أساليبها إذا جرت عليها الدول الحديثة. ولقد تضمنت قوانين كثير من الحكومات الأساليب التي سارت عليها محاكم التحقيق، ولعل ما يحدث من تعذيب المشتبه فيهم سراً في هذه الأيام يسير على نمط محاكم التحقيق أكثر مما يسير على نمط القانون الروماني. وإذا وازنا بين اضطهاد المسيحيين للضالين في أوربا من 1227 إلى 1492، وبين اضطهاد الرومان للمسيحيين في الثلاثة القرون الأولى بعد المسيح، حكمنا من فورنا بأن هذا أخف وطأة وأكثر رحمة من ذاك. وإذا ما أسقطنا من حسابنا جميع ما يطلب إلى المؤرخ من اعتدال في حكمه، وما يسمح به للمسيحي من تمسك بدينه. إذا أسقطنا من حسابنا هذا وذاك، فلا بد لنا حتى نضع محاكم التحقيق في مستوى حروب هذه الأيام واضطهاداتها، ونحكم عليها جميعاً بأنها أشنع الوصمات في سجل البشرية كله، وبأنها تكشف عن وحشية لا نعهد لها نضيراً عند أي وحش من الوحوش.


طالع أيضاً

اقرأ نصاً ذا علاقة في

A History of the Inquisition of the Middle Ages/Volume I/Chapter I


  • محاكم التفتيش الإسپانية
  • محاكم التفتيش الپرتغالية
  • محاكم التفتيش الرومانية
  • محاكم التفتيش الگوية
  • Nicolau Aymerich
  • غرفة التعذيب


المصادر

  1. ^ *Page of the painting at Prado Museum.
  2. ^ ول ديورانت. سيرة الحضارة. ترجمة بقيادة زكي نجيب محمود. Unknown parameter |coauthors= ignored (|author= suggested) (help)

وصلات خارجية

  • Catholic Encyclopedia: "Inquisition"
  • Catholic Answers: "The Inquisition"
تاريخ النشر: 2020-06-04 10:54:41
التصنيفات: Pages with citations using unsupported parameters, محاكم التفتيش, العصور الوسطى, كاثارية

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

تشكيل الأهلى .. محمد محمود وميدو نبيل أساسيان وحسام حسن فى الهجوم

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-08-17 21:22:03
مستوى الصحة: 35% الأهمية: 37%

تنسيق الجامعات الخاصة والأهلية.. تعرف على الحدود الدنيا للقبول

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-08-17 21:22:14
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 39%

القوات الجوية للناتو تجري تدريبات طيران مشتركة فوق بلغاريا

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-08-17 21:22:18
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 63%

لرفضها الإجهاض... وفاة لبنانية أحرقها زوجها وهي حامل

المصدر: ألشرق الأوسط - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-17 21:23:17
مستوى الصحة: 81% الأهمية: 89%

تنسيق الجامعات الخاصة والأهلية.. 82% الطب والصيدلة 74%.. و55% للإعلام

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-08-17 21:22:15
مستوى الصحة: 37% الأهمية: 37%

انقطاع التيار الكهربائي عن ملايين السكان في الصين بسبب موجة

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-08-17 21:22:34
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 59%

رابطة الأندية تعلن موعد مباريات الجولتين 32 و33 فى الدورى

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-08-17 21:22:11
مستوى الصحة: 39% الأهمية: 39%

روسيا: محادثات فيينا بشأن "الاتفاق النووي الإيراني" أوشكت عل

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-08-17 21:22:43
مستوى الصحة: 48% الأهمية: 64%

أمين عام الناتو يشدد على الالتزام بالاستقرار الإقليمي في كوس

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-08-17 21:22:49
مستوى الصحة: 59% الأهمية: 65%

عماد ميهوب وفراس يقودان هجوم إيسترن كومبانى أمام الأهلى فى الدورى

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-08-17 21:22:04
مستوى الصحة: 33% الأهمية: 36%

تنسيق المرحلة الثانية.. رابط موقع التنسيق الإلكترونى لتسجيل الرغبات

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-08-17 21:22:10
مستوى الصحة: 44% الأهمية: 44%

حرائق الغابات في إسبانيا تحاصر قطارًا وتصيب عددا من الركاب

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-08-17 21:22:26
مستوى الصحة: 56% الأهمية: 70%

الديوان الملكي الأردني يعلن خطوبة ولي العهد

المصدر: ألشرق الأوسط - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-17 21:23:16
مستوى الصحة: 89% الأهمية: 100%

مهاجم سلمان رشدي «يحترم» الخميني وقرأ صفحتين فقط من «آيات شيطانية»

المصدر: ألشرق الأوسط - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-17 21:23:15
مستوى الصحة: 94% الأهمية: 87%

أتلتيكو مدريد يرفض 130 مليون يورو لبيع جواو فيليكس إلى مانشستر يونايتد

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-08-17 21:22:09
مستوى الصحة: 43% الأهمية: 46%

الصحة العالمية: لقاح جدري القرود ليس "علاجًا حاسمًا"

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-08-17 21:22:23
مستوى الصحة: 54% الأهمية: 50%

خدمة وشوشة: "شاكك إن خطيبتى مادية وشروطها مخوفانى أتصرف إزاى؟"

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-08-17 21:22:06
مستوى الصحة: 41% الأهمية: 43%

الناتو: سيطرة روسيا على محطة زابوريزهزهيا النووية يزيد مخاطر

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-08-17 21:22:46
مستوى الصحة: 49% الأهمية: 60%

تحميل تطبيق المنصة العربية