ما هي الدولة المدنية؟ (مقال)

عودة للموسوعة

ما هي الدولة المدنية،يا ترى؟ (منطق)

ما هي الدولة المدنية؟

بقلم المحرر: غازى التوبة

كثر الحديث عن "الدولة المدنية"، فبعض الكتاب اعتبر حتى "الدولة المدنية" تقابل "الدولة العسكرية"، لكن الحقيقة حتى هذا المصطلح أوروبي واتى في لقاء "الدولة الكنسية"، وهوقد اتى نتيجة تطورات غربية في القرون الوسطى في مجال الاجتماع والاقتصاد والسياسة... إلخ، وحتى نستطيع حتى ندرك محتواه بصورة دقيقة علينا حتى نرصد صورة المجتمع الأوروبي في العصور الوسطى، ثم نرصد صورته بعد الثورات الصناعية والاجتماعية والسياسية، أوالتي كونت العصر الحديث في أوروبا بعد الثورة الفرنسية.

""

أوروبا في العصور الوسطى كانت تحكمها الكنيسة، وكان أبرز مفهومين تقوم عليهما المسيحية هما: المقدس والمدنس، فالمقدس هوالله والآخرة والروح، وكان المدنس هوالإنسان والدنيا والجسد والمرأة""


من المعلوم حتى أوروبا في العصور الوسطى كانت تحكمها الكنيسة، وكان أبرز مفهومين تقوم عليهما الديانة المسيحية هما: المقدس والمدنس، فكان المقدس هوالله والآخرة والروح، وكان المدنس هوالإنسان والدنيا والجسد والمرأة، لذلك يجب حتى يتجه الإنسان إلى هذه المقدسات، ويفني ذاته فيها، ويهجر جميع ما عداها.

فيجب حتى يوجه الإنسان عقله إلى الله ذكرا وثناء وتمجيدا وعبادة، ويلغي التفكير فيما سواه، وعليه حتى يوجه قلبه إلى الآخرة ويهمل الدنيا ومتاعها وشهواتها وملذاتها، وعليه حتى يقتل جسده ويدمر حواسه التي تكبل روحه لكي تنطلق هذه الروح وتتخلص من قيودها، والرهبنة خير وسيلة للانتنطق من المدنس إلى المقدس، والرهبنة تعني عدم الزواج، واعتزال الحياة في دير من الأديرة، وممارسة طقوس متنوعة في تعذيب الجسد.

إن القيادة الكنسية التي تزعمت معركة المقدس مع المدنس في المجتمع الأوروبي، قادت معركة أخرى مع فهماء أوروبا الذين طرحوا نظريات وأقوالا تناقض ما نطقت به الكنيسة والخط المقدسة من مثل: حتى الشمس مركز الكون وهوالذي توصل إليه كوبرنيكوس، وهويناقض ما تقول به الكنيسة وهوحتى الأرض مركز الكون، وأدت هذه المعركة إلى عقد محاكمات ومحاسبات لكثير من فهماء أوروبا بتهمة الكفر والزندقة والانحراف عن الدين، وأدت تلك المحاكمات إلى إعدام الكثيرين منهم.

قادت الكنيسة معركتين الأولى: مع الفطرة البشرية في جميع ما تتوق إليه من الدنيا والشهوات والمتاع والملذات، الثانية: مع العقل البشري الذي كان يقرر حقائق واضحة وتأتي الكنيسة لتلغيها بكلام غير ذي قيمة فهمية، وأدت هاتان المعركتان إلى انفجار أوروبا في وجه الكنيسة، وقامت ثورات متعددة لتصحح الوضع الخاطئ عند الكنيسة، فما الذي حدث؟

جعلت الثورات المقدس مدنسا، والمدنس مقدسا، أي إنها قلبت المعادلة، وكان الأولى حتى تصحح موقف الكنيسة من الدنيا والمرأة والشهوات والجسد، وتحمل الدناسة عنها، وتعدها حاجات طبيعية وفطرية، وتقر بخطأ ترذيلها، لكنها مضىت أبعد من ذلك فقدّست الدنيا والجسد والمرأة، بل ألّهتها.

جعلت الثورات الأوروبية المدنس مقدسا، فنشأت "الدولة المدنية" التي اهتمت فقط بجسد الإنسان وشهواته ولذاته ومنافعه، واهتمت فقط بالدنيا وزراعتها واقتصادها وصناعتها، وجعلت الثورات المقدّس مدنسا، فنشأت "الدولة المدنية" التي اعتبرت الحياة مادة في أصلها ووجودها وتفرعاتها، واعتبرت جميع حديث عن الروح وعن الجنة والنار والملائكة إنما هوحديث خرافة وأوهام، ومن الواضح حتى هذه المواقف إنما اتىت ردود أفعال على المواقف الكنسية الخاطئة.

وقد ولدت تلك الثورات التي قامت في القرن الثامن عشر نوعين من الدول في القرن العشرين جسدتا مقولة "تدنيس المقدس وتقديس المدنس" خير تجسيد وهما: الاتحاد السوفياتي ، والعالم الحر.

1-الاتحاد السوفياتي والشيوعية: لقد جسد الاتحاد السوفياتي الشيوعي ثنائية الأزمة التي انتهت إليها أوروبا وهو“تدنيس المقدس وتقديس المدنس” خير تجسيد ، فأصبح الإلحاد هوالأصل الذي يقوم عليه، وأصبح يعلن حتى الدين خرافة وأوهام، وأنه أفيون الشعوب، وأنه ليس هناك عالم غيب، وأن الملائكة والشياطين والجنة والنار أوهام من اختراع الأغنياء لاستغلال الفقراء.

ومن الجدير بالذكر حتى المجتمعات البشرية لم تعهد مجتمعا قام على الإلحاد، سليم أنها عهدت بعض الملحدين، لكنها لم تعهد مجتمعا خاليا من الإقرار بوجود إله، بغض النظر عمن هوالإله، فقد يحدث كوكبا أوشجرة أوشخصا أوجبلا. ولم تعهد مجتمعا خاليا من دور العبادة، وربما كان المجتمع الأول الذي قام على الإلحاد في التاريخ هوالمجتمع الشيوعي في الاتحاد السوفياتي، وهذا تعبير صارخ عن الشق الأول من الثنائية وهو"تدنيس المقدس" حتى يصل مجتمع إلى هذا الوضع من الإلحاد والتنكر لركن أساسي وكبير من أسس الفطرة وهوركن (التعبد).

أما في مجال "تقديس المدنس" وهي الدنيا والمرأة والشهوات، فإن الشيوعية قد اعتبرت حتى الحياة مادة وليس وراء المادة شيء، واعتبرت على لسان "إنجلز" حتى ستر العورة طريقة صريحة لامتلاك النساء، واعتبرت كذلك حتى ولادة الحجاب اتىت مترافقة مع ولادة الملكية الفردية، لذلك سينتهي الحجاب عند انتهاء الملكية الفردية، وستعود العلاقات الجنسية مشاعة كما كانت في المجتمع القديم: جميع النساء لكل الرجال.

""

ولدت الثورات التي قامت في القرن الثامن عشر في وجه الكنيسة نوعين من الدول في القرن العشرين جسدتا مقولة "تدنيس المقدس وتقديس المدنس" خير تجسيد وهما: الاتحاد السوفيتي، والعالم الحر " "


2- العالم الحر والرأسمالية: فإنه يقوم على نفس الأسس المادية التي يقوم عليها المعسكر الشيوعي في مجال "تدنيس المقدس"، فهو يتنكر للغيوب من: إله وملائكة وآخرة وروح... إلخ، ويستهزئ بها، ويرذّل الإيمان بها، ويسفّل جميع القيم المتعلقة بها ويعدَّها خرافة وأوهاماً وشعوذة، أما في مجال (تقديس المدنس) فإن هذا المعسكر يعلي ويعظّم بل ويؤلّه جميع مفردات المدنس من: الدنيا والجسد والمرأة والشهوة، ومما يؤكد ذلك حجم الإنفاق على الجنس في الإنترنت، والصورة التي تستغل بها المرأة في النادىية والإعلان، وحجم العري الذي يسود المجتمع الغربي، والتشريع للشذوذ الجنسي بشقيه: اللواط والسحاق، وقبوله حتى في الكنائس.

هذه هي الظروف التاريخية التي ولّدت مصطلح "الدولة المدنية" لقاء "الدولة الكنسية" فأصبح مصطلح "الدولة المدنية" يعني التمركز حول الإنسان وجسده ولذاته وشهواته، لقاء التمركز السابق حول الله في "الدولة الكنسية"، وأصبح يعني الاهتمام بالدنيا وشؤونها وتطويرها في "الدولة المدنية" لقاء الاهتمام بالآخرة والروح في "الدولة الكنسية". ومن الواضح حتى القصور في مصطلح "الدولة المدنية" اتى من أنه قصر اهتمام الدولة على جسد الإنسان وشهواته وملذاته ومنافعه دون الاهتمام بالجانب الروحي عند الإنسان، وبالجانب العبادي الذي يصله بربه، ومن أنه قصر اهتمام الدولة بشؤون الدنيا من اقتصاد وزراعة وإعمار من جهة ثانية مع التنكر وعدم الاهتمام لما يتعلق بالله والآخرة وما ينتج عنها.

من الواضح حتى إرثنا الديني والثقافي لم يعهد ثنائية المقدس والمدنس، بل وجه ديننا المسلم إلى الدنيا والآخرة، وإلى الاهتمام بالجسد والروح، ويؤكد ذلك آيات القرآن الكريم، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد اعتبر الإسلام حتى الدنيا هدف في حد ذاتها، وطلب حتى يسأل العبد ربه حتى يؤتيه الحسنات منها، فنطق تعالى "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار" (البقرة، 206)

وعدّ الإسلام إعمار الأرض هدفا من أهداف خلق الإنسان فنطق تعالى "هوأنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إذا ربي قريب مجيب" (سورة هود، 61).

ويتضح استهداف إعمار الأرض في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليعمل" (رواه أحمد)، فالرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث يحض المسلم على حتى يغرس الفسيلة التي بيده مع إدراكه قرب قيام الساعة، وانتهاء دورة الحياة، وهذا يشير على تعظيم الإسلام لإعمار الدنيا.

وقد تميز الإسلام بين أديان الأرض جميعا في أنه اعتبر أي عمل دنيوي شهوي عبادة، فقد نطق رسول الله صلى الله عليه وسلم في جمع من الصحابة: "في بضع أحدكم صدقة" فاستغرب الصحابة ذلك ونطقوا: " يا رسول الله: أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟" فنطق: "أرأيتم لووضعها في حرام أكان عليه فيها وزر،يا ترى؟ وكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر" (رواه مسلم).

وقد اهتم الإسلام بالجسد واعتبره قيمة في حد ذاته، يجب حتى يحافظ عليها، والمسلم يحاسب عليها يوم القيامة أمام الله، لذلك نطق الرسول صلى الله عليه وسلم "إن لجسدك عليك حقاً" ورفض الإسلام أي تعذيب للجسد تحت دعوى العبادة، فقد ذكرت الأحاديث حتى الرسول صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً واقفاً تحت الشمس، فسأل عنه: فنطقوا: "أبوإسرائيل، نذر حتى يقوم في الشمس ولا يقعد ولا يستظل ولا يتحدث، ويصوم، فنطق النبي صلى الله عليه وسلم: "مروه فليتحدث وليستظل وليقعد وليتم صومه" (رواه البخاري).

واتى في حديث آخر عن أنس أنه نطق: ولج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد فإذا حبل ممدود بين الساريتين، فنطق: ما هذا الحبل،يا ترى؟ نطقوا: هذا الحبل لزينب، فإذا فترت تعلّقت، فنطق النبي صلى الله عليه وسلم: حلّوه، ليصل أحدكم نشاطه فإذا فتر فليقعد" (متفق عليه).

ومن الجلي حتى الدولة في التاريخ الإسلامي لم يتوجه اهتمامها فقط إلى شؤون المساجد والعبادة والتعليم الديني وتحفيظ القرآن، بل توجه اهتمامها -بالإضافة إلى ما سبق- إلى شؤون الدنيا بمختلف صنوفها من زراعة وتجارة واقتصاد وإدارة وأسرة وتعليم ..، ومما يؤكد اهتمام الدولة الإسلامية بالدنيا حتى القرآن الكريم أمر بأن تصرف أموال الزكاة إلى الفقراء والمساكين، وفي إعتاق العبيد، وفي تأليف القلوب، ولم يصرف منها شيء لدور العبادة أوللفهماء والمشايخ القائمين على المساجد.

""

الدولة الكنسية" تمركزت حول الإنسان دون الالتفات إلى ما يتعلق بالله، والاهتمام بالدنيا فقط، دون أي اعتبار للآخرة، أما الدولة الإسلامية فتقوم على أداء الواجبات نحوالله والإنسان " "

وعلى الأصح أنه لا يجوز حتى تصرف أموال الزكاة على بناء دور العبادة أوالقائمين عليها، بل يجب حتى تكون من مصادر أخرى، فقد نطق تعالى "إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم." (التوبة،60).

لقد اهتمت الدولة الإسلامية بأمور الله والإنسان، والآخرة والدنيا، والروح والجسد، وقد اتضح ذلك من مقاصد الشريعة التي توصّل إليها فهم أصول الفقه الإسلامي، فقد استقرأ الفقهاء أحكام الشريعة فوجدوا حتى جميع تلك الأحكام تهدف إلى تحقيق خمسة مقاصد هي: حفظ الدين، حفظ العقل، حفظ النفس، حفظ المال، حفظ النسل، ومن البيّن حتى هناك مقصدا واحدا من مقاصد الشريعة تتعلق بالدين، وهناك أربع مقاصد تتعلق بالإنسان وعقله وماله ونفسه وعرضه، وهذا يشير على مدى اهتمام الشرع الإسلامي والدولة الإسلامية بالإنسان والدنيا.

الخلاصة: قد اتى مصطلح "الدولة المدنية" لقاء "الدولة الكنسية" وهومصطلح له مضامين محددة منها: التمركز حول الإنسان دون الالتفات إلى ما يتعلق بالله، والاهتمام بالدنيا فقط، دون أي اعتبار للآخرة، وإطلاق شهوات الجسد وملذاته دون أي اعتبار للروح، لكن دولتنا الإسلامية على مدار التاريخ الماضي قامت على أداء الواجبات نحوالله والإنسان، والدنيا والآخرة، والروح والجسد. وكذلك يجب حتى تهتم الدول المعاصرة التي تتشكل بعد الربيع العربي، يجب حتى تهتم بالجانبين: الله والإنسان، الدنيا والآخرة، الروح والجسد، وليس بجانب واحد كما هوحاصل في الغرب الآن.

المصدر:الجزيرة

تاريخ النشر: 2020-06-04 11:16:45
التصنيفات: مقالات الجزيرة, الجزيرة, الثورات العربية

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

بودكاست التغيير: المثقفون وتأييد الجيش

المصدر: صحيفة التغيير - السودان التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-10-26 21:24:52
مستوى الصحة: 49% الأهمية: 53%

السويد تقرر منع تجديد إقامة حارق القرآن وترحيله إلى العراق السعودية

المصدر: جريدة الوطن - السعودية التصنيف: إقتصاد
تاريخ الخبر: 2023-10-26 21:26:01
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 69%

الحكمي إلى «الثالثة عشرة» - أخبار السعودية

المصدر: صحيفة عكاظ - السعودية التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2023-10-26 21:25:56
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 63%

في دروس وعبر إنقلاب 25 أكتوبر

المصدر: صحيفة التغيير - السودان التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-10-26 21:24:54
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 60%

تحميل تطبيق المنصة العربية