تطور الحياة العقلية عند العرب

عودة للموسوعة

تطور الحياة العقلية عند العرب

تطور الحياة العقلية عند العرب – أزمة العقل العربي والموقف من الدين ِ

الدكتور أنيس كنجو

سنستعرض في هذه الفقرة باختصار الملامح الرئيسة لتطور الحياة العقلية عند العرب من الجاهلية إلى عصر النبوة ثم الخلافة الراشدة ، إلى العصر الأموي ثم العصر العباسي .حيث وصلت أوجها ثم أخذت في الانحدار. ونوضح مسقط الثقافة العربية من الثقافات الأخرى التي انطوت عليها الحضارة الإسلامية ونقاط قوتها وضعفها . ومن خلال هذا الاستعراض الموجز نضع اليد على العناصر الرئيسة لأزمة العقل العربي منذ خلافة المتوكل وحتى نهاية الدولة العثمانية ، أوقل حتى يومنا هذا . وما ينبغي الوقوف عنده ومحاولة معالجته في موروثنا الحضاري . ولما كان للعروبة مذ نشأت رسالة إنسانية سامية فلا بد حتى نتطرق لمضمون هذه الرسالة بكل وضوح ونحدد من خلال ذلك مسقطنا من الدين .

يمضى بعض الباحثين إلى حتى الشعراء في الجاهلية " هم أهل الفهم ، ولكن كان في الجاهلية طبقة أخرى هي طبقة الحكام يحكمون بين الناس إذا تشاجروا في الفضل أوالنسب وغير ذلك ، وكان لكل قبيلة حاكم أوأكثر . واشتهر منهم أكثم بن صيفي وحاجب بن زرارة وعامر بن الظرب والطفيل الدوسي الخ... وقديما نطقوا الشعر ديوان العرب فقد سجلوا فيه أخلاقهم وعاداتهم وديانتهم وعقليتهم . والى جانب الشعر كانت هناك الأمثال وكثيرا ما تنبع الأمثال من أفراد الشعب نفسه لا كالشعر الذي يقدمه طبقة من الناس أرقى من العامة . والى جانب الأمثال نجد القصص مثل أيام العرب كيوم داحس والغبراء ويوم الفجار ويوم ذي قار الخ...بصورة عامة لم تنطوجاهلية العرب على فهم أوفلسفة تستحق الذكر واتى الإسلام فحمل المستوى العقلي للعرب إلى درجة كبرى ونهض بمثلهم العليا . وخير ما نسوقه للمقارنة بين المثل الأعلى الجاهلي والمثل الأعلى الإسلامي هوجواب جعفر بن أبي طالب (ر ) للنجاشي إذ اتى فيه " كنا قوم أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي بالفواحش ونبتر الأرحام ونسيء الجوار ويأكل القوي منا الضعيف فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعهد نسبه وصدقه وأمانته وعفافه فنادىنا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد من دونه من الحجارة والأوثان وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء ، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنة وأمرنا حتى نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا الخ...." ويقول گولدزيهر " إذا الإسلام رسم مثلا أعلى للحياة غير المثل الأعلى في الجاهلية وهما لا يتشابهان وكثيرا ما يتناقضان "

ولكن هل امّحت تعاليم الجاهلية ونزعاتها بمجرد دخولهم في الإسلام ،يا ترى؟ الحق حتى الأمر ليس كذلك . فالنزاع بين القديم والجديد قل حتى يتلاشى بتاتا ، وهذا ما كان بين الجاهلية والإسلام . فقد كانت النزعات الجاهلية تظهر من حين إلى حين وتحارب نزعات الإسلام . اتى الإسلام يدعوإلى محوالتعصب للقبيلة والتعصب للجنس فالناس جميعا سواء ، وآخى رسول الله ( ص ) بين المهاجرين والأنصار بعد ما كان بين المكيين والمدنيين من عداء .ومع جميع هذا لم تمت نزعة العصبية وكانت تظهر بقوة إذا بدا ما يهيجها .ولما ولي الأمويون الخلافة عادت العصبية إلى حالها كما كانت في الجاهلية . وكان بينهم وبين بني هاشم في الإسلام كالذي كان بينهم في الجاهلية . وعاد النزاع في الإسلام بين القحطانية والعدنانية ففي خراسان كانت الحرب بين أزد وتميم ( يمني أوقحطاني وعدناني ) ، وفي الشام كانت الحرب بين كلب من اليمن وقيس من عدنان ، ومثل ذلك في الأندلس ومثل ذلك في العراق . وفي حرب الردة عجز الكثير من القبائل عن حتى ينظروا للزكاة كجزء من المال يؤخذ للصرف في الصالح العام وهوما يرمي إليه الإسلام . وعاش يزيد بن معاوية وصحبه من شبان بني أمية عيشة هي إلى الجاهلية أقرب منها إلى الإسلام ، شراب وصيد وغزل وملاهي . ونجد في سيرة الوليد بن عقبة والي الكوفة لعثمان أنه تهتك في الشرب . هذه مجرد أمثلة أوغيض من فيض . وفي اللقاء نرى قوما صاغهم الإسلام صياغة جديدة حتى انبترت الصلة بينهم جاهليين وبينهم مسلمين كالذي نرى في أبي بكر وعمر وعلي وكثير من الصحابة ، ورع وزهد والتزام شديد لأوامر الدين وحياة لا تستطيع حتى ترى فيها مأخذا جاهليا ينافي الإسلام وكأنهم خلقوا في الإسلام خلقا جديدا . وكان خير من تأثر بالإسلام السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار . أولئك وصل الدين إلى أعماق نفوسهم وأخلصوا له وأنفذوا أوامره . وأما من أسلموا يوم الفتح أوبعده وظلوا على كفرهم وعنادهم حتى رأوا النبي وأصحابه ينتصرون ، فلم يسعهم إلا الإسلام فهؤلاء كان دين كثير منهم رقيقا . وكانت فهم الأعراب بالإسلام سطحية . بقيت العقلية المسلمة والإسلام الحق أظهر في المدن خاصة فيمن أسلموا قبل الفتح .

الفتح الإسلامي وعملية المزج بين الأمم

إذا أراد المسلمون غزوبلد وجب عليهم :

1- دعوة أهله إلى الدخول في الإسلام فإذا دخلوه كان الجميع سواء .
2- إن لم يسلموا دعوهم إلى تسليم الحكم للمسلمين في هذه البلاد ويبقوا على دينهم ويدفعوا الجزية فان قبلوا كان لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين وكانوا في ذمة المسلمين يحمونهم ويدافعون عنهم ( أهل الذمة )
3- إن لم يسلموا ولم يقبلوا حكم المسلمين أعربت عليهم الحرب وقوتلوا . والقتل للمحاربين فقط ( يستثنى الشيخ والمرأة والطفل والأعمى والمقعد الخ...)
4- إذا نادى المحاربون إلى صلح أجيبوا إليه متى رأى الإمام ذلك ، وعندئذ تنفذ شروط الصلح .

إذا انتصر المسلمون ولم يكن هناك صلح فهناك أسرى حرب وهناك أهل البلد المفتوح من غير المحاربين . أما الأسرى فإما حتى يمن عليهم الإمام فيطلقهم أويأخذ منهم مالا كفدية ، وأما غير المحاربين فالإمام مخير بين استرقاقهم أوهجرهم أحرارا يدفعون الجزية ( هجر عمر سواد أهل العراق أحرارا مع فرض جزية ) وإذا استرق الأسرى وزعوا على أساس الخمس لليتامى والمساكين وابن السبيل وأربعة أخماس للغانمين ( سهم للراجل وسهمان للفارس ). الفتح الإسلامي إذن كان يستتبع رقا مما أثر بشدة في عملية المزج بين الأمم . ولما انتشر الإسلام لم يعد يقبل من العربي إلا الإسلام أوالقتال فأصبح غير محل للاسترقاق حتى لوسقط أسيرا فإما حتى يسلم أوحتى يقتل . كثر الاسترقاق بعد الفتوح كثرة هائلة وأوجب الإسلام حسن معاملة الرقيق وحبب العتق وجعله كفارة كثير من الآثام . وإذا أعتق المالك عبده أصبح مولى له . وقد تأثر الموالي بالعصبية العربية فكان موالي جميع قبيلة ينتسبون إليها ويحاربون معها ، وفي العصر الأموي نظروا إلى الموالي نظرة دونية وبشيء من الازدراء مما أدى إلى كراهية الموالي للأمويين . وكان لنظام الرق والولاء أكبر الأثر في الحياة العقلية من خلال استيلاد الإماء . ولج البيت العربي عناصر أخرى فارسية أورومانية أوهندية أوهجرية الخ... مما أحال البيت العربي إلى بيت مختلط . ( بنات يزجرد الثلاث وزعن واحدة لعبد الله بن عمروفولدت له سالم والثانية للحسين فولدت له زين العابدين والثالثة لمحمد بن أبي بكر فولدت له القاسم وهؤلاء المواليد الثلاثة فاقوا أهل المدينة فقها وورعا . وعبرة أخرى نتوخاها من ذكر مثل هذا الحادث الجزئي من تاريخنا هوحتى حفيد يزدجرد علي زين العابدين كان الذكر الوحيد من نسل الحسين الذي نجا في ملحمة كربلاء وكان الأئمة الاثني عشر جميعهم من نسله ) . هؤلاء الأرقاء والموالي أنتجوا في الجيل الثاني لعهد الفتح عددا عديدا منهم من يعد من سادات التابعين وخير المسلمين ومن حملة لواء الفهم في الإسلام . والعامل الثاني من عوامل المزج هودخول البلاد المفتوحة في الإسلام فقد دخله كثير من أهل البلاد المفتوحة وامتزجوا بالعرب كأنهم منهم .كان منهم من ولج الإسلام مؤمنا بحسن مبادئه وصدقها ومنهم من ولج فرارا من الجزية أوانتهازا فالإسلام دين الحكام والولاة ورجال الدولة . وكان الاختلاط في السكنى عاملا ثالثا في الامتزاج مما أدى إلى الاشتراك في الحركة الاجتماعية والاقتصادية . يقول ولهاوسن " إذا أكثر من نصف سكان الكوفة كانوا من الموالي وكانوا يحتكرون الحرف والصناعة والتجارة وكان أكثرهم فرسا في جنسهم ولغتهم جاؤوا الكوفة أسرى حرب ثم دخلوا في الإسلام ثم أعتقهم مالكوهم العرب فكانوا موالي لهم وبذلك صاروا أحرارا ولكنهم ظلوا في حاجة إلى حماية سادتهم فهم حاشية العرب وأتباعهم في السلم والحرب " . وفي سائر البلاد المفتوحة أصبح العنصر العربي والعنصر الأجنبي ممتزجين تمام الامتزاج في فارس والعراق والشام ومصر والمغرب حتى جزيرة العرب نفسها لم تعد جزيرة العرب بل صارت جزيرة المسلمين جميعا مع فارق حتى العنصر العربي في جزيرة العرب أكثر والعنصر غير العربي في البلدان المفتوحة أعظم . العادات والقوانين والأحكام والحكم وأنماط الحكم وبالإجمال جميع مرافق الحياة السياسية والاجتماعية والطبائع العقلية تأثرت تأثرا كبيرا بهذا الامتزاج . لقد شكل هذا الامتزاج لقاحا بين العقل العربي والعقل غير العربي كان له نتاجه المتميز بعد قليل من الزمان .حتى العقيدة الإسلامية لم تخل من تأثر بهذا الامتزاج .أولئك الذين دخلوا في الإسلام من الأمم الأخرى لم يفهموه بحذافيره كما فهمه العرب إنما فهمه جميع قوم مشوبا بكثير من تنطقيدهم الدينية القديمة وظهر تأثير هؤلاء القوم في أواخر القرن الهجري الأول بظهور المذاهب المتنوعة . والحق حتى الامتزاج كان قويا شديدا وكان للموالي وأشباههم أثر في جميع مرافق الحياة وكانت هناك حروب في المسائل الاجتماعية كالحروب البدنية أغفلها المؤرخون . حرب بين الإسلام والديانات الأخرى وبين اللغة العربية واللغات الأخرى وحرب بين الآمال العربية وآمال الأمم الأخرى وحرب بين النظم الاجتماعية العربية البسيطة وبين النظم الاجتماعية الفارسية والرومية . لم تعد الدولة الإسلامية دولة أمة عربية لغتها واحدة ودينها واحد وخيالها واحد كما كان الشأن في عهد رسول الله ( ص ) بل كانت الدولة الإسلامية جملة أمم وجملة نزاعات وجملة لغات تتحارب وكانت الحرب سجالا فقد ينتصر العرب وقد ينتصر الفرس وقد ينتصر الروم والحق حتى العرب وان انخذلوا في النظم السياسية والاجتماعية وما إليها من فلسفة وعلوم ونحوذلك فقد انتصروا في شيئين عظيمين اللغة والدين .فأما لغتهم فقد سادت هذه الممالك جميعها وانهزمت أمامها اللغات الأصلية للبلاد وصارت هي لغة السياسة ولغة الفهم كما هي لغة الدين . وكذلك الدين فقد ساد هذه الأقطار واعتنقوه وقل من بقي من سكان هذه البلاد على دينه الأصلي. ومع فوز اللغة فشا فيها اللحن حتى احتاجت إلى قواعد تضبطها . وقل مثل ذلك في الدين فهووان انتصر فقد تأثر فتفرق المسلمون فرقا ووضعت المذاهب المتنوعة وظلت هذه الفرق تتجادل بالقول أحيانا وبالسيف أحيانا . وصف الحركة الفهمية إجمالا

نعني بالحركة الفهمية جميع ما عني المسلمون بالتفكير فيه تفكيرا منظما نوعا ما من تشريع وحديث وتفسير وتاريخ وسير وما إلى ذلك . لم يكن للعرب في الجاهلية فهم ولا فلسفة وكان الجهل فاشيا فيهم والأمية شائعة بينهم . ويروي البلاذري في فتوح البلدان حتى الإسلام ولج وفي قريش سبعة عشر رجلا يعهد الكتابة وقليل من نسائهن كن يخطن . واتى الإسلام وفي الأوس والخزرج أحد عشر يخطون . وقد أفاد الإسلام الحركة الفهمية من وجوه عدة فأولا كان نشر الدين يستتبع الحاجة إلى القارئين المحررين ، بل حث النبي ( ص ) بعض أصحابه حتى يتفهموا لغة غير اللغة العربية لما دعت الحاجة إلى ذلك بعد انتشار الإسلام . ولما فتحت البلدان كان العنصر العربي هوالعنصر الحاكم فكان لا بد حتى يتفهم وأن يقرأ ويخط ، فكثرت القراءة والكتابة وخاصة في عهد التابعين . وكذلك اضطر الداخلون في الإسلام من غير العرب إلى تفهم العربية لدينهم ودنياهم . واستتبع الفتح العربي الحضارة فبنيت في عهد عثمان الدور والقصور وشيدت بالكلس وجعلت أبوابها من الساج . واقتنى كثير من الصحابة الأموال والجنان والعيون كالزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص والمقداد .وثانيا نشر الإسلام بين العرب كثيرا من التعاليم التي حملت مستواهم العقلي ، وكثيرا من أحوال الأمم الأخرى وتاريخها . ثم شرح أحكاما في الزواج والطلاق والشؤون المدنية والجنائية كانت قانونا نظم أمور المسلمين في حياتهم الاجتماعية والاقتصادية واتخذه الفقهاء والمشرعون مرجعهم يستنبطون منه الأحكام ويستهدونه فيما يعرض من حوادث جديدة خلقتها مدنيتهم فكان ذلك أساسا لحركة تشريعية واسعة . ومما كان له ، ثالثا ، أثر كبير في الحياة العقلية هوحتى الإسلام سلك في دعوته إلى الإيمان بالله وصفاته من فهم وقدرة ووحدانية مسلكا يثير العقل ، وهوالدعوة إلى النظر إلى ما في العالم من ظواهر . وكثير من الآيات حثت العقل على النظر في الكون وأسرار الخلق .

إذا نظرنا إلى الحركات الفهمية في صدر الإسلام إلى آخر الدولة الأموية وجدناها اتجهت ثلاثة اتجاهات : حركة دينية ( تفسير، حديث ، تشريع وما إلى ذلك ) وحركة في التاريخ والقصص والسير ونحوها ، وحركة فلسفية في منطق وكيمياء وطب وما إليها .وفهماء الصحابة الذين تفرقوا في الأمصار أنشأوا حركة فهمية في جميع مصر نزلوا فيه وكونوا مدارس وكان لهم تلاميذ ينقلون عنهم الفهم فتخرج عليهم التابعون ثم تابعوهم . وعندئذ ولج عنصر الموالي وأولادهم في الحركة الفهمية واتسع نطاقها فكان منهم كثير من سادة التابعين وتابعي التابعين . تفاوت الصحابة في درجتهم الفهمية تفاوتهم في الفضائل الأخرى واتى في الحديث : إذا مثل ما بعثني به الله من الهدى والفهم كمثل غيث أصاب أرضا فكان منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير ، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا وغرسوا ، وأصاب طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ الخ...

والحركة التي لا يجوز إغفالها نظرا لما هجرته من آثار في العقل العربي لا يزال يعاني منها أشد المعاناة حتى الآن هي القصص. يجلس القاص في مسجد وحوله الناس فيذكرهم بالله ويقص عليهم حكايات وأحاديث وقصصا عن الأمم الأخرى وأساطير ونحوذلك لا يعتمد فيها على الصدق بقدر ما يعتمد على الترغيب والترهيب . وقد اتخذ القصص أيام معاوية طابعا سياسيا . إذا سلم الإمام من صلاة الفجر جلس وذكر الله عز وجل وحمده وصلى على النبي ونادى للخليفة ولأهل ولايته وحشمه وجنوده ونادى على أهل حربه وعلى المشركين كافة ( كما يقول الليث بن سعد ) . وقد نما القصص بسرعة لأنه يتفق وميول العامة وأكثر القصاص من الكذب . وارتفع شأن القصص حتى أصبح عملا رسميا فكان كثير من القضاة يعينون قصاصا أيضا .وقد أدخل هذا القصص على المسلمين كثيرا من أساطير الديانات الأخرى كاليهودية والنصرانية ،كما كان بابا ولج منه على الحديث كذب كثير ، وأفسد التاريخ بما تسرب منه من حكاية وقائع وحوادث أتعبت الناقد وأضاعت معالم الحق . ولا بد من الإشارة إلى منبعين كبيرين لهؤلاء القصاص هما وهب بن منبه وكعب الأحبار . ووهب يمني من أصل فارسي وكان من أهل الكتاب الذين أسلموا وله قصص كثيرة تتعلق بأخبار الأول ومبدأ العالم وقصص الأنبياء . وأما كعب الأحبار أوكعب بن ماتع فيهودي من اليمن كذلك ومن أكبر من تسربت منهم أخبار اليهود إلى المسلمين . انتقل إلى المدينة ثم إلى الشام بعد إسلامه . وقد أنحى باللوم كثير من الفهماء على القصاص والوعاظ كما عمل الغزالي في كتابه " الإحياء " فقد عد عملهم من منكرات المساجد لما كانوا يقترفون من الكذب واستثنى الحسن البصري وأمثاله .

أما الحركة الفلسفية وهي ، على ما يظهر ، أقل الحركات انتشارا وكان مظهرها أولا في المدارس السريانية التي كانت منتشرة في أماكن كثيرة من المملكة الإسلامية وعنهم أخذ المسلمون وكان من أثر ذلك ظهور بعض المذاهب الدينية . وقد ظهر في الخلافة الأموية كثير من أطباء النصارى وكانوا أيضا فلاسفة مثل ابن أثال وعبد الملك بن أبجر الكناني ، أسلم على يد عمر بن عبد العزيز عندما كان والي مصر وأصبح طبيبه عندما تولى الخلافة ونقل تدريسه من الإسكندرية إلى إنطاكية وحران وتفرق في البلاد. وفي عهد عمر بن عبد العزيز ظهر ماسرجويه الطبيب البصري وهوسرياني يهودي الممضى . ويظهر حتى الأمويين لم يشجعوا الفلسفة إذ كانت نزعتهم نزعة عربية جاهلية لا تتلذذ من فلسفة أودرس ديني عميق ولكنهم شجعوا القصص الرسمي والحركة الأدبية شرط حتى تكون موالية . إذ كان حكمهم يقوم على الضغط والقهر فكانت حاجتهم إلى الشعراء والقصاص أشد لأنهم هم الذين يبشرون بهم ويشيدون بذكرهم ويقومون في ذلك مقام الصحافة لأحزابها ، وهنا نستثني موقف عمر بن عبد العزيز من الشعراء .

التفسير : أكثر من روي عنه في التفسير علي وابن عباس وابن مسعود وأبي بن كعب . بعد عصر الصحابة اشتهر بعض التابعين في الرواية عن الصحابة هؤلاء ( بالإضافة إلى زيد بن ثابت وأبوموسى الأشعري وعبد الله بن الزبير إلى درجة أقل ) . أكثر من يروي عن ابن عباس مجاهد وعطاء بن أبي رباح وعكرمة مولى ابن عباس وسعيد بن جبير وكلهم من الموالي . وقد تضخم في عصر التابعين التفسير بالإسرائيليات والنصرانيات لكثرة من ولج منهم في الإسلام . وقد اشتهر في الإسرائيليات وهب بن منبه الذي ذكرناه في القصص ونرى الطبري يروي عن ابن جريج كثيرا من تفاسير الآيات التي وردت عن النصارى ، وهونصراني الأصل من أصل رومي . ويقول بعض الفهماء أنه كان يضع الحديث . ويظهر حتى تفسير القرآن كان في جميع عصر من العصور متأثرا بالحركة الفهمية فيه ، وصورة منعكسة لما في هذا العصر من آراء ونظريات فهمية ومذاهب دينية من ابن عباس إلى الأستاذ الشيخ محمد عبده .

الحديث: كثير من آيات القرآن الكريم مجملة أومطلقة أوعامة فاتى قول رسول الله ( ص ) أوعمله فبينها أوقيدها أوخصصها ( تفاصيل الصلاة أوقاتها كيفياتها الخ... ). لم يدون الحديث في عهد الرسول وكان بعض الصحابة يكره كثرة الرواية عن رسول الله ( ص ) خشية الكذب عليه . وقد نشأ من عدم تدوين الحديث في كتاب خاص في العصور الأولى واكتفائهم بالاعتماد على الذاكرة وصعوبة حصر ما نطقه الرسول ( ص ) أوعمله طيلة 23 عاما من بدء الوحي حتى الوفاة حتى استباح قوم لأنفسهم وضع الحديث ونسبته كذبا إلى رسول الله ( ص ) . نطق ابن عدي لما أخذ عبد الكريم بن أبي العواتى الوضّاع ليضرب عنقه نطق لقد وضعت فيكم أربعة آلاف حديث أحرم فيها وأحلل . وكان عبد الكريم هذا خال معن بن زائدة واتهم بالمانوية . وحسبك دليلا على مقدار الوضع حتى كتاب البخاري يشتمل على سبعة آلاف حديث منها نحوثلاثة آلاف مكررة نطقوا انه اختارها وصحت عنده من ستمائة ألف حديث كانت متداولة في عصره .ومن أبرز مسببات الوضع :

  1. الخصومة السياسية فالخصومة بين على وأبي بكر وبين علي ومعاوية وبين عبد الله بن الزبير وعبد الملك بن مروان ثم بين الأمويين والعباسيين ، جميع هذه كانت سببا لوضع كثير من الحديث . إذا أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتعلت أيام بني أمية تقربا إليهم بما يظنون أنهم يرغمون به أنوف بني هاشم .وكذلك وضع الواضعون في تفضيل القبائل العربية وفي فضل العرب على العجم والروم والعكس ، والعصبية لبلد معين فهناك أحاديث في فضل مكة والمدينة وجبل أحد والحجاز واليمن والشام وبيت المقدس ومصر وفارس وغيرها. وعلى الإجمال كانت العصبية الحزبية والقبلية والعصبية للمكان سببا من أبرز مسببات الوضع .
  2. الخلافات الكلامية والفقهية مثلا القدر أوالجبر والاختيار ، فقد أجاز قوم لأنفسهم حتى يؤيدوا ممضىهم بأحاديث يضعونها .
  3. متابعة بعض من يتسمون بسمة الفهم لهوى الأمراء والخلفاء يضعون لهم ما يعجبهم رغبة بما في أيديهم .
  4. تساهل بعضهم في باب الفضائل والترغيب والترهيب ونحوذلك مما لا يترتب عليه تحريم حلال أوتحليل حرام ، واستباحتهم الوضع فيها .

ومن أبرز مسببات الوضع مغالاة الناس إذ ذاك في أنهم لا يقبلون من الفهم إلا على ما اتصل بالكتاب والسنة اتصالا وثيقا وما عدا ذلك ليس بذي شأن . فأحكام الحلال والحرام إذا كانت مؤسسة على الاجتهاد لم يكن لها قيمة ما أسس على الحديث ولا ما يقرب منه ، ومنهم من كان يشنع على من ينحوهذا النحو. فدخلوا على الناس من الباب الوحيد المفتوح على مصراعيه وهوباب الحديث فكان من ذلك حتى ترى في الحديث الحكم الفقهي المصنوع ، والحكمة الهندية ، والفلسفة الزرادشتية ، أوالموعظة الإسرائيلية أوالنصرانية .

روعت هذه الفوضى في الحديث جماعة من الفهماء الصادقين فنهضوا لتنقية الحديث مما ألم به وتمييز جيده من رديئه وسلكوا في ذلك جملة مسالك ، منها أنهم طالبوا بإسناد الحديث ثم أخذوا بالجرح والتعديل . وأكثر هؤلاء النقاد عدلوا الصحابة كلهم فلم يعرضوا لأحد منهم بسؤ ولم ينسبوا لأحد منهم كذبا . وقليل منهم أجرى على الصحابة ما أجرى على غيرهم . ويظهر حتى الصحابة أنفسهم في زمنهم كان يضع بعضهم بعضا موضع النقد وينزلون بعضا منزلة أسمى من بعض . وكان للاختلاف الممضىي من طبيعة الحال أثر في الجرح والتعديل . ولقد عنوا بنقد الإسناد أكثر مما عنوا بنقد المتن . فقل حتى تظفر بنقد من ناحية حتى ما نسب إلى النبي ( ص) لا يتفق والظروف التي قيلت فيه أوحتى الحوادث التاريخية الثابتة تناقضه أوحتى تعبير الحديث نوع من التعبير الفلسفي يخالف المألوف في تعبير النبي أوحتى الحديث يشبه في شروطه وقيوده متون الفقه إلى غير ذلك . ولم نظفر منهم في هذا الباب بعشر معشار ما عنوا به من جرح الرجال وتعديلهم . وأكثر الصحابة حديثا عن رسول الله ( ص ) هم أبوهريرة ثم عائشة أم المؤمنين ثم عبد الله بن عمر ثم عبد الله بن عباس ثم جابر بن عبد الله ثم أنس بن مالك . وقد أكثر بعض الصحابة من نقد أبي هريرة على الإكثار من الحديث وشكوا فيه .

وبعد فقد كان للحديث ( سليما أوموضوعا ) أكبر الأثر في نشر الثقافة في العالم الإسلامي . فقد أقبل الناس عليه إقبالا عظيما ، وكل فهماء الصحابة والتابعين كانت شهرتهم الفهمية مؤسسة على التفسير والحديث ، والحديث كان أوسع دائرة من التفسير . وعلى الجملة فقد كان الحديث أوسع مادة للعمل والثقافة في ذلك العصر .

التشريع : كان التشريع في الجاهلية قائم على العهد والتنطقيد التي كونتها تجاربهم أحيانا ومعتقداتهم أحيانا ، وما وصل إليهم عن طريق اليهودية أحيانا . ويظهر حتى مكة قد بلغت قبيل الإسلام شيئا من الرقي في نظامها الحكومي ومنه القضاء فقد وزعت الأعمال على عشرة رجال من عشرة أبطن كالحجابة والسقاية والرفادة والندوة واللواء وكان هناك شيء من القضاء عهد به إلى أبي بكر في الجاهلية ، فقد ذكر أنه عهد إليه بالأشناق أي الديات والمغارم . كما اجتمع بعض القبائل على حلف الفضول . فقد تحالفوا على حتى لا يظلم بمكة غريب ولا قريب ولا حر ولا عبد إلا كانوا معه حتى يأخذوا له بحقه ويؤيدوا له مظلمته من أنفسهم ومن غيرهم . كذلك كان التشريع في المدينة خاضعا للقانون اليهودي . كان عصر النبي ( ص ) ( 23 سنة 13 منها في مكة و10 في المدينة ) هوعصر التشريع حقا ، ففيه كان ينزل القرآن بالأحكام ، وكان الكتاب والسنة هما أعظم مصادر التشريع الإسلامي . وقد بينت السنة أوأحاديث الرسول كثيرا من آيات القرآن مثل آيات الصلاة والزكاة . وكل ما نطقه النبي أوعمله أووقع أمامه واستحسنه كان تشريعا .

توفي رسول الله ( ص ) وانبتر الوحي واتسعت المملكة الإسلامية اتساعا عظيما وعجيبا ففي 14 سنة من الهجرة فتحت دمشق ، وفي 17 هجرية تم فتح الشام كله والعراق ، وفي عشرين للهجرة تم فتح مصر ، وفي 21 هجرية تم فتح فارس ، وفي 56 هجرية وصل المسلمون إلى سمرقند ، وفي 93 هجرية امتدت الفتوح إلى المغرب وأخذت اسبانيا . ونال المسلمون في المال والرقيق وزخرف الحياة ما لا عهد لهم به من قبل . كانت الممالك المفتوحة ممدنة كأرقى ما وصلت إليه المدنية في ذلك العصر ، تمثلت الحضارة الفارسية في فارس والعراق والحضارة الرومانية في مصر والشام ، ولم يكن الفتح سلبا ونهبا وتدميرا إنما كان فتحا منظما يسير فيه القراء والمفهمون والقانونيون مع الجند الفاتحين ، ويحلون حيث حل الجند ، فقابل المسلمون بهذا الفتح مسائل كثيرة في جميع شأن من شؤون الحياة ( نظام للري أوقل أنظمة في العراق ومصر ومسائل مالية معقدة ومسائل معاملة المغلوبين ، وما يؤخذ من الضرائب ممن أسلم وممن لم يسلم ، وأنواع في الزواج وكيفية التقاضي الخ... ) قابل المشرعون الأولون أمرا عظيما ولم يدع أحد حتى القرآن والسنة نصا على ما كان وما هوكائن في المسائل الجزئية ، فنتج عن هذا حتى كان أصل آخر من أصول التشريع ، وهوالرأي ، الذي نظم فيما بعد وسمي القياس . لجؤوا إلى الرأي في مسألة الخلافة بعد النبي وفي لقاءة الامتناع عن الزكاة وحروب الردة ، وفي مسألة العطاء وتوزيع الغنائم ، هل نسوي بين المهاجرين والأنصار، إذ سوى بينهم أبوبكر ولم يعمل عمر . وقد خط قاضي مصر إلى عمر بن عبد العزيز في مسألة قضائية فرد عمر لم يبلغني في هذا شيء وقد جعلته لك فاقض فيه برأيك . والأمثلة كثيرة جدا في هذا الباب .والمتتبع لما روي عن العصر الأول في مسألة " الرأي " يرى أنهم كانوا يستعملون هذه الحدثة بالمعنى الذي نفهمه اليوم من حدثة " العدالة " ، وبعبارة أخرى مما يرشد إليه الذوق السليم مما في الأمر من عدل أوظلم ، وفسره ابن القيم " بأنه ما يراه القلب بعد فكر وتأمل وطلب لفهم وجه الصواب " .

ولعل عمر ( ر ) كان أظهر الصحابة في استعمال الرأي . فقد قابل عمر من الأمور المحتاجة إلى تشريع ما لم يقابله خليفة قبله ولا بعده ، عملى يده فتحت الفتوح ومصرت الأمصار ، وهي حالة لم يحدث بعد نظير لها . فكان له من التشريع في المسائل الاقتصادية والسياسية والعمرانية ما شكل أصلا وقاعدة للفقهاء من بعده ، ولذلك يقول فيه الفقهاء أنه العمدة في هذا الباب . ولقد تجاوز عمر استعمال الرأي حيث لا نص من كتاب أوسنة ، فكان يجتهد في تعهد المصلحة التي لأجلها كانت الآية أوالحديث ثم يسترشد بتلك المصلحة في أحكامه . وهوقريب مما ندعوه اليوم الاسترشاد بروح القانون لا بحرفيته . ( موضوع المؤلفة قلوبهم ، وعدم البتر في عام المجاعة ) وكان طلاق الثلاث واحدة على عهد الرسول وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر فنطق إذا الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلوأمضيناه لهم فأمضاه ، إلى كثير من أمثال ذلك . وكان عمر يستشير الصحابة مع فقهه ويقول ادعوا لي عليا ، ادعوا لي زيدا ...فكان يستشيرهم ثم يفصل بما اتفقوا عليه . وعن الشعبي كانت القضية تحمل إلى عمر فربما تأمل في ذلك شهرا ، ويستشير أصحابه ، واليوم يفصل في المجلس مائة قضية . وروي عن سعيد بن المسيب عن علي قلت يارسول الله الأمر ينزل بنا لم ينزل فيه قرآن ولم تمض فيه منك سنة نطق : اجمعوا له العالمين من المؤمنين فاجعلوه شورى بينكم ولا تقضوا فيه برأي واحد . وعن شريح نطق عمر بن الخطاب " إذا اقض بما استبان لك من قضاء رسول الله فان لم تفهم جميع أقضية رسول الله فاقض بما استبان لك من أئمة المهتدين فان لم تفهم فاجتهد برأيك واستشر أهل الفهم والصلاح "ولم توضع مع الأسف آلية ملزمة واضحة تبين كيفية الشورى ومن يستشار وقيمة رأي المستشارين الخ... وقد سار الأندلسيون في هذا خطوة سديدة بتكوين مجلس للشورى يعين أعضاؤه من قبل الخليفة . ولما اتىت الدولة الأموية أصبحت دمشق مركز الخلافة وظهر الامتزاج بين العرب والفاتحين ، وسقط تحت أعين المسلمين أنواع من المدنيات والديانات المتنوعة والأنظمة المتنوعة ، جميع هذه طرحت تساؤلات ما حكم الإسلام فيها ،يا ترى؟ ما رأي الإسلام في هذه الجزئيات الكثيرة المطروحة أمام المسلمين وما الذي يرضاه الإسلام وما الذي لا يرضاه فكان موقف الفقهاء أمام هذه المشاكل من أصعب المواقف وأشدها عناء . لم يتأثر التشريع الإسلامي بالقانون الروماني ولكنه أفاد من ناحية عرض المسائل على الفقهاء ليبدوا فيها آراءهم حسب القواعد الكلية للشريعة الإسلامية .كان القانون الروماني يحكم مصر والشام قبل الفتح وكان لا بد من عرض المحاكم القديمة على الإسلام لينظر ما يقر منها وما لا يقر في العهد الأموي لم يهتك الخلفاء بشؤون التشريع ( باستثناء عمر بن عبد العزيز ) ولم تكن المذاهب الأربعة قد تكونت . فالحق حتى الحكم الأموي لم يكن حكما إسلاميا يساوي فيه بين الناس ويكافأ فيه من أحسن عربيا كان أومولى . أنما كان الحكم حكما تسود العرب فيه النزعة الجاهلية لا النزعة الإسلامية ، فكان الحق والباطل يختلفان باختلاف من صدر عنه العمل . فالعمل حق إذا صدر عن عربي من قبيلة وهوهوباطل اذا صدر عن مولى أوعربي من قبيلة أخرى .

أما نظر المساواة فقد كان سائدا في الأوساط الدينية والفهمية . وكان الناس من عرب وموال يأخذون عن الفهماء عربا أوموال على حد سواء . كانت الأوساط السياسية وأوساط أشراف القبائل وأوساط البدوتحقر الموالي ، والأوساط الدينية والفهمية ما كانت تتعصب لجنس ولا دم وإنما كانت تتعصب للدين والفهم .كان يقابل هذه العصبية العربية عصبية أخرى من الموالي وخاصة الفرس ، فقد تملكهم العجب كيف من الممكن أن غلبهم العرب ، وأن حكم العرب لهم ضرب من سخرية القدر. ولكن هذه النزعة صدها الأمويون صدا عنيفا وعاقبوا عليها في قوة وجبروت فتحولت من فخر ظاهر إلى دعوة سرية ، وكانت الدعوة العباسية . والنزعة الفارسية لم تكن عامة بين الفرس فمنهم من ولج الإسلام إلى أعماق نفوسهم وأن للعرب نعمة عليهم لا تقدر هي أنهم هدوهم إلى الإسلام واستنقذوهم من ضلالة المجوسية إلى هداية الوحدانية ، ففي الأوساط الفهمية والدينية كان الفرس لا يؤمنون بعربية وفارسية إنما يؤمنون بإسلام سوى بين الناس أجمعين .. ولكن كثيرا من سواد الناس ومن أشراف الفرس كانوا يكرهون العرب وخاصة الحكام والبيت الأموي . كانت خراسان مهد الدعوة العباسية وكانت قطرا عظيما يبلغ ضعف ما يطلق الاسم عليه الآن ، وقد تولاها المهلب بن أبي صفرة وآله عهدا طويلا وهم أزديون وحكموا حكما قبليا مما أجج نار الحقد بين العرب والفرس وبين العرب اليمانيين والعرب المضريين ، فالأزديون يمانيون وتميم وقيس يمثلون المضريين . إذا الانقلاب العباسي جعل كفة الفرس راجحة ولكنه لم يعدم الكفة الأخرى العربية ، وكان من النقباء الذين حاربوا الدولة الأموية كثير من العرب منهم قحطبة الطائي ، مما جعل الصراع يستمر في العصر العباسي أيضا . لقد كان استخدام الموالي نادرا في العصر الأموي وكان يقابل بامتعاض لكن ما كان شاذا في العصر الأموي صار شائعا وهوالمألوف في العصر العباسي . وكان المنصور أول من استخدم مواليه على الأعمال وقدمهم على العرب .

الشعوبية . سادت في العصر العباسي الأول نزعة تمضى إلى حتى العرب خير الأمم وأخرى تساوي بين الشعوب فتقول إذا الناس كلهم من طينة واحدة وسلالة رجل واحد وإنما التفاضل بين الأفراد لا بين الأمم وعامل التفاضل ليس العربية ولا الأعجمية وقد سمي هؤلاء " أهل التسوية " لمساواتهم بين الشعوب وكان الأجدر حتى يسموا الشعوبيين ولكن الشعوبية أطلقت على نزعة ثالثة تميل إلى الحط من شأن العرب وتفضيل غبرهم عليهم . ويمثل هذا الصنف من يحقرون العرب ممن ظلوا على دينهم القديم أوأسلموا ولما يدخل الإيمان في قلوبهم أوغلبت عليهم النزعة الوطنية فكرهوا من العرب حتى أزالوا ملكهم وأضاعوا استقلالهم . بلغت هذه الحركة أوجها في القرن الثالث الهجري ، وساعد على ذلك حتى الخلفاء العباسيين الذين تعصبوا للإسلام ولم يتعصبوا للعربية كثيرا ، فحاربوا الزندقة ولم يحاربوا بشدة النزعة العجمية . أكثر الخلفاء مولدون ولقي العرب من العجم في عهودهم عنتا شديدا فالوزراء أكثرهم عجم والدسائس تدس في القصور لإضعاف شأن العرب ، وإذا ثار العرب في جزيرتهم أوفي الأطراف نكل بهم قواد العجم وجيوشهم أشد تنكيل . ولم يكن شعور الهجر الذين جلبهم المعتصم بأحسن حالا من شعور الفرس . وكثر الشعراء في القرنين الثاني والثالث من الأعاجم الشعوبيين أمثال بشار بن برد وديك الجن والخريمي والمتوكلي وكان من ندماء المتوكل . وللشعوبية مجال فسيح في الحديث فقد وضعوا الأحاديث الكثيرة في فضل الفرس . وحاولوا إفساد الدين بالزندقة وإفساد الفهم بالأكاذيب فخسروا بذلك كثيرا ومقتوا كثيرا .

الثقافات : لقد كان في الأجناس امتزاج وتزاوج وتوليد فكان في الثقافات الفهمية امتزاج وتزاوج وتوليد .كانت عملية التوليد بين الأجناس تنشأ من تلقيح دم بدم فينشأ جيل حديث له مزايا الجنسين وعيوب الدمين ، وله خصائص أخرى ليست في الجنسين . وكذلك الشأن في الثقافات . نشأ عن اللقاح بين الثقافات ثقافات جديدة تحمل صفات هذه وتلك وصفات جديدة ، وأصبح لها طابع خاص يميزها عما سواها . لقد انتشرت في هذا العصر أربع ثقافات كان لها الأثر الكبير في عقول الناس ، وهي الثقافة الفارسية والثقافة اليونانية والثقافة الهندية والثقافة العربية ، كما كان هناك ثقافات دينية أهمها اليهودية والنصرانية والإسلام .

الثقافة الفارسية : انتشرت الثقافة الفارسية في العصر العباسي الأول انتشارا عظيما . وساعد على ذلك أمران . الأول هوإنشاء منصب الوزارة وإسناده غالبا إلى الفرس ، والثاني هوانتنطق عاصمة الخلافة إلى بغداد . كان يشترط في الوزير حتىقد يكون عالما مطلعا ومحررا بليغا . وكان العرب أهل فصاحة لسانية أكثر منهم أهل بلاغة كتابية مما رجح كفة الفرس .والحق حتى القدرة الكتابية كانت عند الفرس أبين منها عند العرب . وحتى في الدولة الأموية كان أظهر الكتاب من الفرس أمثال عبد الحميد المحرر وسالم مولى هشام . وكان العربي يفخر بالسيف لا باللسان والقلم . وكان لكل وزير كتاب يعينونه وكذلك كان لولاة الأنطقيم ورجال الدولة كتاب .وكان أكثر هؤلاء الكتاب فرسا . كانت دائرة معارف المحدث أوالفقيه تدور حول فنه ، وإذا توسع في شيء فإنما يتوسع في وسائل لفنه كاللغة والنحووالصرف . أما المحرر فدائرته أوسع من ذلك ، فهم مضطرون حتى يعهدوا أحوال الناس الاجتماعية وتنطقيدهم وأن يعهدوا من علوم اللغة والأدب وعلوم الدين والفلسفة والجغرافيا والتاريخ طرفا .هؤلاء الوزراء والكتاب نشروا الثقافة العامة وضموا إلى الآداب العربية الآداب الفارسية ، فأصبح مما يتطلبه الأدب حتى تعهد حكم بزرجمهر كما تعهد حكم أكثم بن صيفي ، وتعهد تاريخ الفرس كما تعهد تاريخ العرب ، وتعهد أقوال كسرى وسابور وأبرويز وموبذموبذان كما تعهد أقوال الخلفاء الراشدين . والسبب الثاني هوانتنطق العاصمة إلى بغداد ، فهي متوسطة أكثر وبعيدة عن الروم وقريبة من خراسان ذخيرة العباسيين وعمادهم . ولم يتخذ العباسيون البصرة والكوفة مقرا لهم لأن فيها عدد كبير يتشيع لعلي وأولاده . فاتخذ السفاح مدينة الهاشمية قرب الأنبار ، واختار المنصور مسقط بغداد بين دجلة والفرات ووفق في اختياره . وأصبحت بغداد بعد قليل أبرز مركز للحضارة والثقافة في المملكة الإسلامية بل في العالم كله. وظلت في رقي واتساع وعظمة ( إذا استثنينا أوقات الفتن والاضطرابات ) إلى نهاية القرن الخامس الهجري .

كان لهذا الانتنطق من الشام إلى العراق أثر كبير من الناحية العقلية فقد كان يسكن العراق قبل الفتح بقايا من الأمم القديمة مثل الكلدان والسريان وكان يسكنه العرب من اياد وربيعة وكان يقيم فيه المناذرة الذين أسسوا ملك الحيرة . وكانت مدنية الفرس غالبة عليهم لأن آخر من حكم العراق قبل الفتح  الإسلامي  هم الساسانيون من الفرس ، وظل في أيديهم زمنا طويلا وكانت فيه المدائن عاصمة الساسانيين إلى حتى استولى عليه المسلمون أيام عمر . جميع هذا جعل العراق أكثر ماقد يكون اصطباغا بالفارسية .فلما اتى العباسيون بمعونة الفرس كان من هذا وذاك نفوذ للفرس في المناصب وفي الثقافة . وأخذ المثقفون من الفرس ينقلون إلى العربية تراث آبائهم ، وكانت لهم خط في التنجيم والهندسة والجغرافيا . ومع نشاط الحركة الفهمية في العصر العباسي أخذ طائفة ممن يجيدون اللسانين الفارسي والعربي ينقلون الخط من الفارسية إلى العربية . وكان عبد الله بن المقفع على رأس القائمة .وله الكثير من الترجمات التي نقلت تاريخ ملوك الفرس ونقلت النظم والعادات والعهد والشرائع وخبر الأسلاف وسير الملوك . كما ترجم كتاب زرادشت " أفستا " وما عليه من شروح . وهناك قوم أتقنوا اللغتين وتثقفوا بالخط الفارسية يخرجون باللغة العربية أدبا وشعرا وفهما ، ليس نقلا تاما لكلام فارسي ولكنه منبعث عنه ومتأثر به . مثال ذلك الفضل بن سهل وسهل بن هارون وابن المقفع ، ويقول الجاحظ عن موسى بن سيار الأسواري ( أحد القصاص ) كان من أعاجيب الدنيا . وكان للثقافة الفارسية أثر في الأدب العربي فالأدب ظل الحياة الاجتماعية وكان اللون الفارسي من أظهر ألوان هذه الحياة . فالناس اتخذوا عيد النيروز عيدا لهم ، والقضاة وعظماء الدولة يلبسون القلنسوة كالفرس ، ومجالس اللهووالشراب والغناء هي مجالس الفرس ، ونرى رجالهم في جميع فن من هذه الفنون فإبراهيم الموصلي وابنه إسحاق هما فارسيان وكانا عالمين أديبين شاعرين ، ووضع إسحاق فهم الموسيقى في الدولة العباسية ، وأولع الناس بغنائهما وقلدوهما في فنهما ولهوهما.  لقد كان وراء هذه الثقافة  الفارسية قوى تحميها وتدفعها ، ظاهرة أحيانا وخفية أحيانا . منهم من يريد خدمة الفهم والعمل على نشره يريد وجه الله ، ومنهم من يريد حتى يشيد بالقومية الفارسية والحط من العربية ، بل منهم من يريد الكيد للإسلام وأهله . منهم من ينشر شعوبية ومنهم من ينشر زندقة .

الثقافة الهندية : في أيام الوليد بن عبد الملك قاد محمد بن القاسم الثقفي ، ولم يتجاوز بعد العشرين من عمره ، حملة إلى الهند ففتح جزءا عظيما منها هوالجزء المسمى بالسند . ومن السبي أصبح العنصر السندي من مكونات المجتمع المسلم . وفي عصر المنصور توسع الفتح ليضم كابل وكشمير . برز من الموالي الهنود أبوالعطاء السندي ، وهوشاعر ، وابن الأعرابي من أعلام اللغة والأدب والشعر، ومن المحدثين الهنود أبومعشر نجيح السندي . للهند فهم بالحساب والخط الهندي وأسرار الطب وطبع السيوف والشطرنج . وقد تميزت الفلسفة الهندية عن الفلسفة اليونانية بأنها امتزجت بالدين امتزاجا تاما ، واصطبغت بصبغة شعرية أكثر منها فهمية . ولا بد من الإشارة إلى مسألة كان لها أثر كبير في المسلمين وهي مسألة تناسخ الأرواح . ولعبت نظرية التناسخ دورا هاما في الفلسفة اليونانية والمانوية وبعض المذاهب الإسلامية وفي التصوف والنصرانية . وقد أخذ العرب طرقا مهمة كثيرة النفع ومجهولة لليونان في حل مسائل فلكية باستخدام حساب المثلثات الكروي . وكذلك كان في بغداد أطباء هنود إلى جانب الطب اليوناني . وقد أخذ العرب من القصص الهندي مثل كليلة ودمنة والسندباد الخ... .وما أخذ بكثرة من الهند فهوالحكم ، وهذا يتفق مع الذوق العربي وأشبه بالأمثال العربية . جميع هذه الفلسفة الدينية والتعاليم الرياضية والقصص والحكم الأدبية والشعائر والتنطقيد الاجتماعية ذابت في المملكة الإسلامية وكانت عنصرا هاما من عناصر آداب العربية .

الثقافة اليونانية الرومانية : هنا نضع اليد على كنز لا يفنى وثروة لا تقدر وغنى عظيم في جميع ما ينتجه العقل والعاطفة والذوق في الفلسفة والرياضة والفلك ، في علوم الطبيعة والطب والحياة ، في الأدب والتاريخ والسياسة ، وفي الفنون الجميلة . فاقليدس في الهندسة وبقراط وجالينوس في الطب وسقراط وأفلاطون وأرسطو. فلسفة المسلمين أسست على فلسفتهم والمدنية الحديثة بما فيها من فهم وأدب نهضت على أكتافهم . وكانت فتوح الاسكندر المقدوني لكثير من بلدان آسيا وإفريقيا سببا كبيرا من مسببات انتشار الثقافة اليونانية في الشرق . واشتهرت في الشرق قبل الإسلام إلى ما بعده مدن كانت منبعا للثقافة اليونانية من اشهرها جنديسابور وحران والإسكندرية . وجنديسابور مدينة في خوزستان أسس فيها كسرى أنوشروان مدرسة الطب المشهورة ، وظلت المدرسة قائمة إلى العصر العباسي ، ومسقطها اليوم أطلال شاه أباد . وحران مدينة في شمال العراق عاصرت اليونان والرومان والنصرانية والإسلام . أما الإسكندرية فهي عاصمة مصر اليونانية . ولد فيها ممضى الاسكندرانيين أوالأفلاطونية الحديثة ( مؤسسه مصري يسمى أفلوطين ) امتاز بروحانيته ونقده للممضى المادي . والى جانب هذه الحركة الفلسفية كانت هناك حركة واسعة في الأدب والفهم والفن ، أطلق عليها جميعا مدرسة الإسكندرية التي عاشت من 306 ق . م إلى 624 ب . م وهي سنة فتح العرب للإسكندرية . انتشرت النصرانية في الإسكندرية في العهد الروماني واختلف النصارى فيما بينهم طوائف وشيعا ، وتجادلوا في طبيعة المسيح وناسوته ولاهوته وعلاقة المسيح بالله ، فلجؤوا إلى الفلسفة يستعينون بما لها من منطق وترتيب في الجدل ، وبما لها من أبحاث وراء المادة . ومن ثم اتصلت النصرانية بالفلسفة اليونانية وكانت بداية الاتصال في الإسكندرية.( كما اتصلت اليهودية بالفلسفة اليونانية في الإسكندرية أيضا من قبل على يد فيلون ) وكان من أمائل النصارى في ذلك كليمان الاسكندري فمزج النصرانية بالأفلاطونية ، ثم من بعده أوريجين الذي تلميذ أفلوطين . واضطهد هذا ففر وأنشأ على النمط الاسكندري مدرسة في قيصرية في فلسطين ، ثم أسست بعد مدرسة على هذا النمط في نصيبين ، وأغلقت هذه فانتقلت إلى الرها . إلى غير ذلك انتشر النمط الاسكندري في مزج النصرانية بالفلسفة في أنحاء الشرق . وأصبح كثير من رجال الكنيسة يفهمون النصرانية مفلسفة أوالفلسفة منصّرة ، وجدوا في التوفيق بين ما يتعارض بينهما .

نقل إلى العربية في هذا العصر أبرز تآليف أرسطووبعض مؤلفات أفلاطون وأهم خط جالينوس في الطب ، وعلى الجملة أبرز ما وصل إليه العقل اليوناني في الفهم والفلسفة . ويمكن تقسيم الترجمة إلى أدوار ثلاثة : الدور الأول من خلافة المنصور إلى عهد الرشيد ترجم فيها ابن المقفع من الفارسية وجورجيس بن جبرائيل ويوحنا بن ماسويه وفيه اتصلت المعتزلة بالخط التي ترجمت ، فنجد الأولين منهم كالنظام عهد أرسطووتأثرت أبحاثهم بالمنطق . والدور الثاني من عهد المأمون 198 هجرية حتى عام 300 هجرية . وقد ترجم في هذا الدور أبرز الخط اليونانية في جميع فن ، وكان من أشهر المترجمين حنين بن إسحاق ثم حنين بن إسحاق والدور الثالث ترجمت فيه الخط المنطقية والطبيعية لأرسطووتفسيرها . وأشهر المترجمين متى بن يونس وسنان بن ثابت بن قره ويحي بن عدي وابن غرسة ، وكان من أبرز ما ترجموا الخط المنطقية والطبيعية لأرسطووتفسيرها . وكان الباعث على هذه الترجمة ونشاطها في العصر العباسي أمور أهمها : أولا في العصر العباسي كان قد ارتقى العرب في سلم الحضارة ورأوا حتى حياة الحضارة لا بد حتى تستند إلى الفهم ، فمالية الدولة بحاجة إلى حساب دقيق ، وعيشة الحضارة المركبة بحاجة إلى أدوية مركبة وعلاج مركب ، ومتى مست الحاجة إلى نوع أونوعين من العلوم وأخذوا يعالجونه عن الأمم الأخرى نادىهم الشغف إلى تعهد ما عند الأمم المتنوعة من العلوم جميعها ولولم يكن لهم بها حاجة ماسة مباشرة .وثانيا بلغت الحركة الدينية في آخر الدولة الأموية شأوا بعيدا ، وجرهم البحث إلى التحدث في القضاء والقدر والجبر والاختيار وتجادلوا فيها . ثم تجادل المسلمون مع النصارى واليهود وكان المعتزلة يحملون لواء الدفاع عن الإسلام . ومع ما تسلح به اليهود والنصارى من قبل بالمنطق اليوناني والفلسفة اليونانية يستخدمونها في الجدل ، أحس المسلمون حتى لا بد من مقارعتهم بآلاتهم ، فعكفوا على المنطق والفلسفة يستخدمونها في أغراضهم . وفيما هم كذلك شعروا بلذة عقلية من دراسة الفلسفة ، وبعد حتى كانت تطلب على أنها وسيلة للدفاع عن الدين أصبحت غاية تطلب لذاتها . وثالثا نقتبس ما نطقه ناللينو" في أواخر الدولة الأموية ثبتت سلطة الإسلام على جميع الأمصار والأقطار التي دخلتها ألويته عنوة أوصلحا أثناء المغازي المتواصلة والفتوح من أقصى بلاد ما وراء النهر وهجرستان إلى منتهى الغرب والأندلس ، فعمت اللغة العربية الشريفة أهل تلك الولايات والبلدان وغلبت على ألسنتهم الأصلية فأخذ المسلمون كلهم من أي جنس أوأمة لا يستخدمون في الإنشاء والتأليف إلا لغة العرب . فابتدأت وحدة الدين تستوجب وحدة اللسان والحضارة والعمران ، فصار الفرس وأهل العراق والشام ومصر يدخلون علومهم القديمة في التمدن الإسلامي الجديد "ورابعا نذكر ميل بعض خلفاء العصر العباسي إلى العلوم الفلسفية مثل المنصور والرشيد والمأمون . فالمنصور كان ممعودا مما حمله على العناية في علوم الطب ، والرشيد رباه البرامكة على حب الفهم ، والمأمون رباه الرشيد والبرامكة . وقد حذا حذوالخلفاء كثير من أفراد الشعب ، والخلفاء عادة أقدر الناس على الترغيب فيما أحبوا ، والناس أسرع ماقد يكون إلى تحقيق أغراضهم والولوع بما أولعوا به.

ومما لا ريب فيه حتى العرب أوالمسلمين استخدموا ما أخذوا من الثقافة اليونانية استخداما صالحا . وأخذوا منها ما أخذوا ثم بنوا عليه ، وزادوا فيه ، وابتكروا ، ولم يكن موقفهم موقف الناقل فحسب . كان كثير منهم ينظر بإحدى عينيه إلى الثقافة اليونانية وبالعين الأخرى إلى التعاليم الإسلامية والثقافة العربية ، فيختار من الأولى ما يتفق والثانية ، ويؤلف منهما مزيجا لا هويوناني بحت ولا إسلامي بحت ، وكان أظهر ذلك ما اتى في العصر العباسي الثاني ، فقد تمت الترجمة آنذاك وبني عليها ، وظهر أمثال إخوان الصفا والفارابي وابن سينا وابن رشد وأمثالهم .

وهناك نوع خفيف من الثقافة اليونانية الرومانية وهي الناتجة عن امتزاج الجنس العربي بالجنس اليوناني الروماني في الحياة الاجتماعية . فكان هؤلاء الرومان يعيشون بين سمع العرب وبصرهم ولهم عادات وتنطقيد وأفكار وآراء في نظم الحكم ، وفنون من غناء وتصوير وما إلى ذلك . فكان العرب يقتبسون عن طريق المشاهدة والنظر والحديث والمشافهة . ولئن كان العراق أبرز منبع للثقافة اليونانية الفهمية فقد كان الشام على ما يظهر أبرز منبع لهذا النوع من الثقافة الاجتماعية ، فقد حكم الرومان الشام وحررهم الفتح الإسلامي منه ، وكان في الشام عرب كثيرون ورومان كثيرون اختلطوا اختلاطا تاما ، وهجر الرومان عند خروجهم عادات وتنطقيد وفنونا ونظما اقتبس منها العرب .

كان تأثير الأدب اليوناني ضعيفا فالفلسفة والعلوم عالمية والأدب قومي . ذلك حتى الفلسفة والفهم نتاج العقل ، وقواعد الهندسة والطب تطبق على الناس جميعا ، والمنطق الذي يضبط هذه العلوم يسيغه عقل الناس جميعا . أما الأدب فلغة العواطف وليس للعواطف منطق يضبطها ، والأدب ظل الحياة الاجتماعية ولكل أمة حياة اجتماعية خاصة بها تمتاز به عن حياة الأمم الأخرى وأشكالها ومراميها ، ومن أجل ذلك تذوق العرب منطق أرسطووطب جالينوس ولم يتذوقوا إلياذة هوميروس .

ولا بد أخيرا من الإشارة إلى دور حنين بن إسحاق ويلقب بأبي زيد في نقل الثقافة اليونانية . وهوعربي من قبيلة عباد التي تسكن الحيرة وكان أبوه إسحاق نصرانيا نسطوريا فنشأ ابنه كذلك . وكان يجيد أربع لغات ، العربية والفارسية واليونانية والسريانية . وامتاز بالترجمة من اليونانية إلى العربية والسريانية ، وقد عينه المأمون في بيت الحكمة ، وترجم للمأمون والمعتصم والواثق والمتوكل . عمر نحوسبعين عاما بذل فيها من الجهد الفهمي ما لا يستطيع غيره حتى ينهض به في مئات السنين . لقد كان حنين ومدرسته خير من يمثل الثقافة اليونانية ، وخير من قدم لقراء العربية نتائج القرائح اليونانية .

الثقافة العربية: للثقافة العربية ناحيتان هامتان . الناحية الأولى دينية ، من قرآن وحديث وفقه، وانتشار للثقافة الإسلامية بين أهل المملكة وأثرها في عقولهم وأرواحهم . والناحية الثانية لغوية أدبية مما سنتناوله الآن . محمد ( ص ) عربي والقرآن عربي ونادىة الأمم الأولون إلى الإسلام عرب ، فمن الواضح بعد حتى ينسب الدين واللغة وما لهما من فضل إلى العرب حتى نسمي ما نتج عنهما ثقافة عربية.


اللغة

اللغة العربية هي أرقى اللغات السامية كما يقرر دارسوهذه اللغات ، فلا تعادلها الآرامية ولا العبرية ولا غيرهما . وهي كذلك من أرقى لغات العالم ، فهي تمتاز حتى عن اللغات الآرية بكثرة مرونتها وسعة اشتقاقها . فإذا قيس ما يشتق من حدثة عربية من صيغ متعددة ، ولكل صيغة دلالة على معنى خاص ، بما يقابلها من حدثة إفرنجية وما يشتق منها ، كانت اللغة العربية في ذلك أوفر وأغنى ، في الغالب . واللغة العربية غنية غنى تاما في الاشتقاق والمجاز قل حتى تجاريها فيهما لغة أخرى . وتتعدد طرقها في القلب والإبدال والنحت الخ.... هذه المرونة التامة هوالذي جعل في استطاعة اللغة العربية حتى تكون لغة القرآن والحديث ، وما فيهما من معان في منتهى السمووالحملة ، وما فيهما من تعبيرات دينية واجتماعية وتشريعية لا عهد للعرب بها في جاهليتهم . كما استطاعت بعد حتى تكون أداة لكل ما نقل من علوم الفرس والهند واليونان وغيرهم . وفي نحوثمانين سنة من بدء العهد العباسي كانت خلاصة هذه الثقافات مدونة باللغة العربية . والعرب الذين لمقد يكونوا يفهمون شيئا من مصطلحات الحساب والهندسة والطب ، ولا شيئا من منطق أرسطووفلسفته أصبحوا في قليل من الزمن يعبرون عن أدق نظريات اقليدس وحساب الجيب الهندي وما وراء المادة لأرسطوونظريات الهيئة لبطليموس ، وطب جالينوس وحكم بزرجمهر وسياسة كسرى . وما كانت تستطيع ذلك كله لولا ما بها من حياة ومرونة ورقي . قابل العرب . وقد تضخم المعجم العربي في العصر العباسي من طريقين أولهما التوسع في مدلول الحدثات العربية فالعربي لم يكن يفهم الفاعل والمفعول بالمعنى الذي يعهده النحوي ، ولا يعهد القضية ولا الموضوع والمحمول بالمعنى الذي يعهده المنطقي ، ولا يعرب الطويل والخفيف والمديد بالمعنى الذي يفهمه العروضي . إلى غير ذلك تقرأ النحووالصرف والفقه فلا تجد فيها لفظا أعجميا بل تقرأ المنطق كله فلا تكاد تجد فيه حدثة خارجية إلا مثل سفسطة .وكذلك الشأن في الفلسفة والرياضيات فاستخدموا كيفية وكمية وجوهر وعرض والمثلث والمربع والزاوية الخ...ولم ينقلوا الحدثات الأعجمية إلى اللغة العربية . وثانيهما نقل الحدثات الأعجمية نفسها إلى العربية ، وأكثر ما كان ذلك في البلدان والنباتات والحيوانات والآلات والأمراض والمآكل التي لمقد يكونوا يعهدونها من قبل . وفي هذا تصرفوا تصرفات مختلفة طوعا للسانهم ولم يجروا في ذلك على سنن واحد .خرجت اللغة العربية من هذا المأزق سليمة قوية واسعة ، فهي لغة الدين ولغة الفهم والفلسفة ولغة الأدب ، واضمحلت إلى جانبها جميع لغات البلاد المفتوحة . فاللغة السريانية أخذت تتدهور بعد حتى نقل ما فيها إلى اللغة العربية ، والفرس أصبحت لغتهم الأدبية والفهمية هي اللغة العربية . إذا ألفوا أوشعروا أوخطوا فبالعربية ، وحياة اللغة الفارسية إنما كانت عند التحدث العادي أوفي أوساط الديانة المجوسية ، وكذلك اللغات الأخرى رومانية وقبطية في الشام ومصر . وكسبت اللغة العربية من ذلك أنها أصبحت في تآليفها وآدابها وعلومها نتاج جميع هذه الأمم تلبس جميع أفكارهم وتعبر عن قرائحهم ، وكسبوا هم منها ما لها من ثقافة إسلامية وأدبية .كما بدأ يطرأ على اللغة فساد في ذلك العصر ( القرن الثاني للهجرة ) وبدأقد يكون للناس لغتان لغة عامية هي التي يسميها الجاحظ لغت المولدين ( بتشديد اللام وفتحها ) والبلديين وهذه لها ألفاظ غير منتقاة وتتسامح في الإعراب وتميل إلى إسكان أواخر الحدثات .. ومن ثم لم يكن فهماء اللغة يأخذون إلا عن سكان البادية لأنهم رأوا الحضر فسد بالاختلاط . بل كانوا لا يأخذون عن البدوي إلا إذا لم يفسده الحضر . فكانوا لا يأخذون عن الأعرابي إذا فهم القول الملحون .كان الناس إذ ذاك يتلذذون من سماع حديث الأعراب لخفة روحهم وعذوبة نطقهم وبساطتهم . يقول الجاحظ في كتابه البيان والتبيين " ليس في الأرض كلام هوأمتع ولا أنفع ولا آنق ولا ألذ في الأسماع ولا أشد اتصالا بالعقول السليمة ولا أفتق للسان ولا أجود تقويما للبيان من طول استماع حديث الأعراب الفصحاء العقلاء والفهماء البلغاء " ويقول ابن عبد ربه في كلام الأعراب " هوأشرف الكلام حسبا وأكثره رونقا وأحسنه ديباجا وأقله كلفة وأوضحه طريقة " كره أعرابي البصرة وأهلها فنطق " دخلت البصرة فرأيت ثياب أحرار على أجساد عبيد ، إقبال حظهم إدبار حظ الكرام ،شجر أصله عند فروعه ، شغلهم عن المعروف رغبتهم في المنكر " ثم لهم الحكمة الرائعة يجرون فيها على سنن حكم أكثم بن صيفي والأحنف بن قيس هي أشبه ماقد يكون بالأمثال ، نطق أعرابي " الدنيا تنطق بغير لسان ، فتخبر عماقد يكون بما قد كان " والعجيب إذا هذه العبارة تلخص فلسفة فهم الإحصاء الحديث . ولهم القصص عن حروبهم وأيامهم فكانوا يروون أيام العرب في جاهليتها وإسلامها وما كان فيها من أحداث ، فيتحدثون بيوم الفجار ويوم ذي قار وحروب قيس في الجاهلية وحرب داحس والغبراء ومقتل كليب بن وائل ، كما يتحدثون بسيرة النبي وغزواته ، والصحابة وما كان بينهم ، ويروون شعر الشعراء من جاهليين وإسلاميين وخطب الخطباء وأمثال الحكماء ونوادر الظرفاء . جميع هذا كان في البادية فهم رواة الأدب القديم ولهم إنشاء في الأدب الحديث ، لذلك قصدهم الفهماء يأخذون عنهم جميع ذلك . كان العربي الذي يعبر بلسانه خريج الطبيعة والبيئة ، فأصبح الذي يخط بقلمه وليد التربية الفهمية وخريج الخط والدفاتر والمحابر . ثروة متعددة النواحي ، فشعر تدهشك كثرته حتى ليخيل إليك حتى جميع عربي شاعر وأن لسانه ينطق بالشعر كما ينطق بالكلام ، وثروة من الخطب لا تقل شأنا عن الشعر ، يستعينون بها لتهييج القبائل في الجاهلية ، وفي تنظيم الأحزاب السياسية في الإسلام . ويصلون بها إلى تحقيق أغراضهم سواء في الجاهلية أوفي الإسلام .ولهم الأمثال والحكم وقد برعوا فيها وأكثروا منها ، وقامت لهم مقام الفلسفة لليونان . ولهم الأخبار الكثيرة عن أبطالهم في الكرم والحرب والوفاء والقيافة والكهانة الخ... ولهم القصص عن وفودهم وأسواقهم وحكامهم وفرسانهم ، ولهم أساطيرهم وخرافاتهم وتخيلاتهم . ولهم الأخبار الطويلة عن أيامهم وأصنامهم وعباداتهم وحنفائهم ويهودهم ونصاراهم . ولما اتى الإسلام اتصلت به الثقافة العربية اتصالا وثيقا ، حتى كان من الدين التثقف بها والفهم بلغتها وأخبارها ، بل عمل الإسلام عملا كبيرا في رقيها وتقنينها ، ذلك حتى القرآن والحديث عربيان ومن حسن الإسلام تفهم لغته ، فكان الإسلام أكبر البواعث على نشر هذه الثقافة والعناية بها . يقول الثعالبي ( وهوفارسي ) في كتابه فقه اللغة " أما بعد فان من أحب الله أحب رسوله ( ص ) ومن أحب النبي العربي أحب العرب ، ومن أحب العرب أحب اللغة العربية التي بها هبط أفضل الخط على أفضل العجم والعرب ، ومن أحب العربية عني بها وثابر عليها وصرف همته إليها " ويقول " العربية هي خير اللغات والألسنة والإقبال على تفهمها من الديانة إذ هي أداة الفهم ومفتاح الفقه في الدين " ونطق ابن عباس " الشعر ديوان العرب " فإذا خفي علينا الحرف من القرآن الذي أنزله الله بلغة العرب رجعنا إلى ديوانها فالتمسنا فهم ذلك منه " وسئل عن قوله تعالى " عن اليمين وعن الشمال عزين " نطق عزين الحلق الرقاق ، نطق عبيد بن الأبرص: فجاؤوا يهرعون إليه حتىقد يكونوا حول منبره عزينا.

وبعد فإذا حاولنا حتى نختار من يمثل هذه الثقافة العربية بفروعها خير تمثيل يقع اختيارنا على كتاب " الكامل " للمبرد وهومحمد بن يزيد أزدي من اليمن . ويقول في صدر الكتاب " هذا كتاب ألفناه يجمع ضروبا من الآداب ما بين كلام منثور وشعر مرصوف ، ومثل ثائر وموعظة بالغة واختيار من خطبة شريفة ورسالة بليغة " ومهما يكن من شيء فالثقافة العربية كانت ركنا من أركان الثقافات في ذلك العصر وعنصرا هاما من عناصرها لا تقل عن غيرها من العناصر إذا لم تزد عليها لأن لسانها لسان الحاكمين ولغتها لغة الدين . الثقافات الدينية : اليهودية والنصرانية . يقول الأستاذ " ميتز " : " إذا ما يميز المملكة الإسلامية عن أوروبا في القرون الوسطى حتى الأولى يقطنها عدد كبير من معتنقي الأديان الأخرى غير الإسلام ، وليست كذلك الثانية ، وأن الكنائس والبيع ظلت كأنها خارجة عن سلطان الحكومة ، معتمدة في ذلك على العهود وما أكسبتهم من حقوق ، وقضت الضرورة حتى يعيش اليهود والنصارى بجانب المسلمين فأعان ذلك على خلق جومن التسامح لا تعهده أوروبا في القرون الوسطى . كان اليهودي أوالنصراني حرا حتى يدين بدينه ، ولكنه إذا أسلم ثم ارتد عوقب بالقتل وفي المملكة البيزنطية كان عقاب من أسلم القتل " كان كثير من المسلمين يتزوجون يهوديات أونصرانيات ومنهن من تسلم ومنهن من تظل على دينها ، وكان هذا من مسببات اتصال المسلمين باليهود والنصارى .

اليهودية

أهم منبع للثقافة اليهودية التوراة . وكان لليهود بجانب ذلك سنن ونصائح وشروح تدوول نقلها شفاها عن موسى ونمت على تعاقب الأجيال ثم دونت بعد وهوما يسمى بالتلمود . يقبله الربانيون ولا تقبله طائفة القرائين . وحول هذه الخط نسج كثير من الأدب اليهودي والقصص والتاريخ والتشريع والأساطير . قابل اليهود في الإسكندرية معضلة إلى أي حد يقبلون تعاليم اليونان مع الاحتفاظ بأصول اليهودية . وحاول فيلوحتى يوفق بين المعتقدات اليهودية والفهم اليوناني فكان من ذلك يهودية مفلسفة ، واقتبس من أفلاطون والرواقيين . وقد تسربت اليهودية إلى المسلمين من طرق أهمها من ولج الإسلام من اليهود وخاصة مسلمة اليمن ككعب الأحبار ووهب بن منبه وأمثالهما . ومن أنواع المعارف التي تأثرت باليهودية تفسير القرآن . لم يتعرض القرآن لتفاصيل سيرة آدم وهبوطه من الجنة ولكن التوراة تقص التفاصيل ، وقد ذكرها بعض المفسرين . إلى غير ذلك عملوا في جميع ما ورد في القرآن من قصص وردت في التوراة . وعني المسلمون بنقل تاريخ بني إسرائيل وأنبيائهم ، كما عمل الطبري في تاريخه وابن قتيبة في كتابه " المعارف " . وقد أثبت الفهم حتى كثيرا مما نقل من تاريخ بني إسرائيل غير سليم ، وكان لليهود أثر غير قليل في بعض المذاهب الإسلامية .


النصرانية

اختلف المسلمون في الإنجيل اختلافهم في التوراة . كان للنصرانية ثقافة أهمها الإنجيل وما أحاط به من شروح وما زاد عليه من قصص وأخبار . وقد تسرب ذلك كله إلى المسلمين من طرق أهمها نصارى العرب ، فقد انتشرت النصرانية بين بعض قبائلهم لاسيما قبيلة تغلب ونجران ولخم وجذام وغيرها . وكذلك عن طريق من أسلم من النصارى . وقد تسرب ،على الجملة ، في العصر العباسي شيء غير قليل من اليهودية والنصرانية في التفسير والحديث والمذاهب الدينية والعادات والتنطقيد وكانتا عنصرين من عناصر الثقافة العامة في ذلك العصر.

الإسلام

لم يضف العباسيون الكثير إلى رقعة المملكة الإسلامية ، وكان العهد الأموي أكثر فتحا وأعظم نشرا للإسلام . ففيه فتح السند وبخارى وسمرقند إلى كاشغر في حدود الصين ، وفتحت الأندلس . وكان أكبر هم العباسيين حتى يبقوا على التراث الذي ورثوه عن الأمويين ، ويحافظوا على وحدته فنجحوا بعض النجاح أولا وفشلوا أخيرا . ولكن مع هذا كان للعباسيين أثر كبير في دخول عدد عديد في الإسلام من اليهود والنصارى والمجوس وغيرهم ، مما فتح في عهد الخلفاء الراشدين والأمويين . وباستثناء عمر بن عبد العزيز بذل العباسيون في هذا الباب جهدا أكثر من الخلفاء الأمويين . فقد كان نشر الدعوة في العهد الأموي عمل قادة وفهماء وأفراد متدينين أكثر منه عمل حكومة ، ولم يكن للخلفاء الأمويين غالبا مظهر ديني من هذا القبيل . أما الخلفاء العباسيون فقد صبغوا صبغة دينية ظاهرة ، ونظر إليهم كأنهم حماة الإسلام . وكان أثر هذا حتى الخلفاء العباسيين لما ضعف نفوذهم المادي وفقدوا السلطان على الرعية ظلت لهم هذه السلطة الروحية ، يستغلها القواد والأمراء والوزراء وأصحاب السلطان المادي ، فيستجلبون رضى العامة بإعلان رضى الخليفة عنهم وإمداده الروحي لهم . نرى المهدي يتعقب الزنادقة ويحث الفهماء لوضع الخط في الرد عليهم ، ونرى الرشيد يتصل بالقضاة والفهماء اتصالا لم نعهده في العهد الأموي ( أبويوسف القاضي ومنزلته من الرشيد وقد وضع له كتاب الخراج ) . وعمل بجد في نشر الدعوة في ذلك العصر المتحدثون من المسلمين ، وعلى رأسهم المعتزلة , عللوا آراء الإسلام وتعاليمه من طريق العقل ، على حين حتى المحدثين والمفسرين وأمثالهم كانوا يخدمون الإسلام عن طريق النقل . واستعان المتحدثون والمعتزلة بالمنطق اليوناني يصوغون في قوالبه قضاياهم . وعهدوا آداب الجدل والمناظرة وأصولها وتقيدوا بقوانينها .( يروى حتى جعفر البرمكي ذكر أرسطوفنطق النظام قد نقضت عليه كتابه ، فنطق جعفر كيف من الممكن أن وأنت لا تحسن حتى تقرأه ، فنطق أيهما أحب إليك حتى اقرأه من أوله إلى آخره أم من آخره إلى أوله ، ثم اندفع يذكر شيئا فشيئا وينقضه عليه فتعجب منه جعفر ، وكان النظام يحفظ القرآن والإنجيل وتفسيرهما ) . ووصف رجل واصل بن عطاء فنطق ( ليس أحد أفهم بكلام غالية الشيعة ومارقة الخوارج وكلام الزنادقة والدهرية والمرجئة وسائر المخالفين والرد عليهم منه ) . نازلوا الطوائف الأخرى الإسلامية المخالفة لهم يجادلونهم ويردون عليهم ، فالمعتزلة ، فالمعتزلة حاربوا المجبرة ونازلوا الرافضة ، وقد تجادل الجميع في الجبر والاختيار ، في صفات الله ، في التجسيم ، وفي الثواب والعقاب ، ونازلوا أهل الديانات الأخرى من مجوس ويهود ونصارى ودعوهم إلى الإسلام . وكانت هذه الحركة عنيفة في العصر العباسي الأول ، على أشد ماقد يكون من العنف ، مانوية يدعون إلى دينهم ويظهرون محاسنه ويهاجمون الإسلام ويأتون بالحجج ، ويهود ونصارى كذلك ، ولم يكن المحدثون وأمثالهم يستطيعون القيام بمناهضتهم ، إنما الذين استطاعوا ذلك وانتدبوا أنفسهم للقيام به هم المتحدثون . عهد المعتزلة المانوية واليهودية والنصرانية فهم واسعة ، كما عهد فهماء هؤلاء الطوائف الإسلام ، وبذل جميع فريق الجهد في الدعوة إلى دينه والرد على مخالفيه ، فأسلم على يد المعتزلة كثيرون . يقول المرتضى ( أسلم على يد أبي هذيل العلاف ، شيخ المعتزلة ، أكثر من ثلاثة آلاف رجل ). كان الخلفاء العباسيون من أنشط الخلفاء في الدعوة إلى الإسلام للصبغة الدينية التي لبستهم ، وكان المأمون أحرصهم على ذلك. ويقول الأستاذ ( فنسنك) ( ومع حتى نصارى الشرق كان يقل عددهم باعتناقهم الإسلام فقل منهم من أسلم كرها ) . وكما أثر النصارى في المذاهب الإسلامية والعادات ، أثر المسلمون في النصارى . ففي القرن الثامن الميلادي ( ثاني وثالث هجري ) نجد في سيبتمانيا جنوب غرب فرنسا حركة تدعوإلى إنكار الاعتراف أمام القس . وكذلك كانت حركة تدعوإلى تحطيم الصور والتماثيل الدينية في القرن الثامن والتاسع الميلادي. وكذلك وجدت طائفة من النصارى شرحت عقيدة التثليث بما يقرب من الوحدانية . وحق ما ينطق إذا الأمم وان اتحدت دينا فكل أمة يختلف نظرها إلى تفاصيل دينها عن الأمم الأخرى ، وهي تنظر إلى الدين من خلال تاريخها ونظمها الاجتماعية ، ومن خلال أديانها المتعاقبة ، ومن خلال لغاتها وتنطقيدها ، ومن خلال ثقافتها وتربيتها إلى غير ذلك . جميع المسلمين ينطقون بالشهادة ، ولكن نظر العالم واسع الثقافة إلى الإسلام غير نظر العامي الجاهل ، وكلاهما غير نظر الصوفي ،إلى غير ذلك . بل نظر المسلمين المصريين إلى الإسلام يختلف في تفاصيله عن نظر الهنود المسلمين والأتراك المسلمين ، لأن جميع أمة تداول عليها من العوامل ما يخالف غيرها ، وذلك من غير شك خالف بين أنظارهم وعقلياتهم .وأهم من ذلك حتى الناس في عصر النبي ( ص ) وبعده كانوا يعنون بتفهم روح القرآن ، فان عني فهماؤهم بشيء بعد ذلك فبما يوضح الآية من سبب للنزول ، أواستشهاد بأبيات شعر للعرب تفسر لفظا غريبا أوأسلوبا غامضا . وما عهدنا في العصر الأول انحياز الصحابة إلى مذاهب دينية وآراء في الملل والنحل . وفي آخر العصر الأموي رأينا الكلام في القدر ورأينا المتحدثين ينظرون إلى القرآن من خلال عقيدتهم فالجبريون يؤولون جميع آيات الاختيار والعكس . وسال السيل بعد ذلك في العصر العباسي فصارت جميع طائفة وأصحاب جميع ممضى ينظرون إلى القرآن من خلال ممضىهم . أبرز غرض للقرآن الكريم حتى يحيي الشعور ببيان علاقة الإنسان القوية بالله والعالم ، وأن يعمل على ذلك بتغذية الحياة الروحية . أما المتحدثون فأرادوا حتى يصلوا إلى ذلك عن طريق المنطق ، وشتان بين الطريقين . فحياة المنطق لا تملأ القلب حماسة ولا تبعث في النفس حرارة إيمان ، إنما تعمل ذلك الحياة الروحية .لقد كثرت المذاهب والنحل في ذلك العصر كثرة مدهشة . ونتعهد أسماء الفرق والمذاهب في كتاب الملل والنحل للشهرستاني فندهش لكثرتها واختلافاتها . القرآن يدعوإلى الإيمان عن طريقين : طريق النظر إلى العالم نفسه وطريق التاريخ . ففي الرياح المسخر بين السماء والأرض الخ... والنظر إلى آيات الله في خلقه يدعم إيمانه ويقوي يقينه . كما حتى في الأحداث التاريخية عن الأنبياء وأممهم ما يدعوإلى العبرة والإيمان . وهذا النظر يناسب الناس على اختلافهم ، ففي استطاعة العالم والجاهل حتى ينال الإيمان من هذا الطريق ، والدعوة إلى الحياة الروحية وحدها هي الدعوة التي يمكن حتى توجه إلى الناس كافة . فلما أولع الناس بالفلسفة اليونانية في العصر العباسي حولوا اتجاه القرآن نفسه إلى نوع من الثقافة العقلية والبراهين المنطقية ، ودرسوا القرآن على النحوالذي يدرسون به الحساب والهندسة والهيئة، فكان في ذلك إضرار بالدين من ناحيته القلبية ، ونتج عن ذلك تعقيد العقيدة الإسلامية السهلة السمحة ، حتى صار يمثلها تعاليم المتحدثين من معتزلة وأشعرية . وشعر بهذا النقص قوم من الصوفية المخلصين فدعوا إلى الإسلام من منهجه الأول، ولكن سرعان ما تحول بعضهم أيضا إلى الفلسفة يستمد منها . ولكن إذا كانت هذه نقطة ضعف في الفلسفة والعلوم من ناحية الدين فقد كان لها فضل كبير من الناحية الدينية أيضا ، ففي العصر العباسي تعهد الناس على مدنيات عظيمة لأمم مختلفة ورثتها المملكة الإسلامية ، ورأوا عادات مختلفة لأمم متعددة في جميع مناحي الحياة . ورأوا من ناحية أخرى حتى الإسلام أتى بأصول يجب المحافظة عليها ، ولكن في جميع عصر تحدث من القضايا والأحداث ما لم يكن وقع من قبل ، ولم يرد فيه نص ، وكان لا بد للفهماء حتى يطبقوا قواعد الإسلام على تلك الأحداث . نعم عرضت هذه المشكلة من قبل وقابلها عمر بن الخطاب ( ر ) بعد حتى فتحت الفتوح ومّصرت الأمصار ، وبذل من الجهد هوومن حوله من الفهماء ما لا يقدر ، وضرب مثلا صالحا لمن يأتي بعده . ولكن المشكلة أمام العباسيين كانت أعقد . فدهشة الفتح قد زالت ، واستقرت الأمم التي دخلت في الإسلام ، ونسلت نسلا جديدا ورث من آبائه وورث من المسلمين .ولم يشأ العباسيون حتى يعيشوا عيشة ساذجة كمن قبلهم من الأمويين ، وتغلبت العناصر الأخرى كالفرس ذات الحضارة المركبة ، فكان من ذلك كله حتى أرادوا حتى يضعوا نظما كاملة شاملة وأن يقابلوا هذه المشاكل ويحلوها بقوانين ومباديء لا بأمر جزئي ، ولا برأي فرعي ، فأعانتهم العلوم في ذلك العصر على هذا كله ، ولولا العلوم ما استطاعوا . فرأينا أبا يوسف في كتاب " الخراج" يضع النظام المالي لدولة الرشيد ، فيقرر نظام الأرض ومسحها وما يؤخذ منها وكيفقد يكون ذلك . ويضع نظام الضرائب لغير الأرض مما يخرج البحر ونحوه ، ويضع نظام الري من الآبار والأنهار .

ونجد الأئمة الأربعة وغيرهم يجتهدون في وضع القوانين من مالية وجنائية ، وما يسمى بالأحوال الشخصية ، وغير الفقهاء يضعون نظما إدارية كنظام الشرطة والجند والجيش ، ويوضع نظام البريد والمصانع والتجارة ونحوها . ويمكن القول انه في هذا العصر قنّن الإسلام وأصبح هوالنظام لدولة ممدنة بالمعنى العصري آنذاك . ولولا اشتغال المسلمين بالفهم في فروعه المتنوعة ما كان ذلك ممكنا . هذا بالرغم مما كان هناك من خروج عن الإسلام في بعض التصرفات ونقص في تطبيق الأحكام القضائية ، ونقص في إعطاء الأحكام الفقهية سلطة القانون . ولكن الروح العامة في التشريع ووضع النظم كانت تتقيد بأصول الإسلام . وهذا الإسلام بتعاليمه ونظم حكمه أظل جميع الأمم الإسلامية على اختلاف أنواعها من آريين وساميين وحاميين، يخضعون لسلطانه ويجرون في نظامهم وقضائهم ومعاملاتهم على ما قنن من أحكامه . وكانت الوحدة الإسلامية متجلية في العصر العباسي أكثر مما كانت في العهد الأموي ، ودخل الإسلام في الحياة العامة وفي السياسة وفي الإدارة ، وتأثر التشريع بعادات الناس وتأثرت عادات الناس بالتشريع . كان الإسلام دينا في مكة ، وكان دينا وحكما في المدينة ، وكان دينا وحكما ومدنية في بغداد وسائر المملكة الإسلامية في العصر العباسي .

بعد عصر النبوة كانت الخلافة الراشدة هي الحقبة التي تمثل القدوة التي تحتذى ويقتدى بها في التاريخ الإسلامي برمته . كان الحكم مكرسا لخدمة الدين . وفي العهد الأموي صار الدين مكرسا لخدمة الحكم بكل المقاييس ، وفي العصر العباسي حتى نهاية خلافة المتوكل المؤسفة واضمحلال دور الخليفة كانت المعادلة تعمل في الاتجاهين مع غلبة مطلقة لاتجاه الدين في خدمة الحكم . مما يجيز لنا القول إذا الدولة العباسية التي اكتملت أركان مدنيتها لا تتمتع بصفة القداسة ، ولا يوجد ما يسبغ عليها هذه الصفة ، وليست صالحة بتمامها لكل زمان ومكان ، وإنما كانت تجربة ناجحة في تاريخنا فحسب ، توفرت لها عناصر الاستفادة من العلوم المعروفة آنذاك ، وتوفرت لها العقول الفلسفية والفهمية والفقهية التي وضعت هذا النظام المدني شبه المتكامل . فلم لا تقوم العقول المعاصرة والفقهاء المعاصرون ، ما توفر منهم وما يتوفر في مقبل الأيام ، بإنجاز مماثل يجتهد فيه أهل الفهم لتحديث موروثنا الحضاري حدثا اقتضت الحاجة . يأخذون من أعمال السابقين روحها لا حرفيتها ، ويستخدمون عقولهم في مجال الرأي والقياس والاجتهاد ، ويحاولون وضع معايير لأعمالهم هذه تهتدي بها الأجيال اللاحقة في عملية التجديد والتحديث المستمرتين ، وفي عملية إخضاع تحديات الحضارة المعاصرة لثوابت الإسلام ومطلقاته . أما أولئك الذين يقدسون الجمود ولا تمتد عقولهم لأكثر من النسخ والنقل والتقليد فهم مصيبة الإسلام في عصرنا هذا ، سواء من هذا الوجه ، أومن وجه آخر هواستخدام الدين للوصول إلى الحكم ، وكأنهم يعيدون معادلة الدين في خدمة الحكم التي عانى منها الدين طويلا ، وعانى منها المسلمون ما لا يمكن تقديره من المآسي ، ومن الخضوع لسلطان يتراوح بين مستغل وجائر .


امتزاج الثقافات

تلك الثقافات من فارسية وهندية ويونانية وعربية ومن يهودية ونصرانية وإسلام ، التقت كلها في العراق في القرن الثاني للهجرة . ولكن جميع ثقافة ، في أول أمرها كانت تشق لنفسها جدولا خاصا بها . له لونه وطعمه ، ثم لم تلبث قليلا حتى تلاقت وكونت نهرا عظيما تصب فيه جداول مختلفة الألوان والطعوم ، مختلفة العناصر. والفهماء على اختلاف أنواعهم لمقد يكونوا كلهم يستسيغون ماء النهر الأعظم ، ولا يتذوقون طعمه ، فكان منهم من يخرج إلى بادية العراق يرد الجدول العربي صافيا قبل حتى تكدره الحضارة ، يستقي منه ما شاء حتى يستقي ، ويعود إلى الحضر وقد تزود مما استساغه من ماء يعيش عليه ولا يشرب إلا منه . وإذا استسقي لا يسقي إلا منه. أولئك أمثال الأصمعي الذي حفظ كما يقولون اثني عشر ألف أرجوزة من أراجيز العرب ، وحفظ الكثير من قصائدهم ونوادر لغتهم . وكأبي زيد الأنصاري الذي يجيد نوادر اللغة وغريبها ، وكحماد الراوية وخلف الأحمر والمفضل الضبي وأبي عمروالشيباني ومحمد بن سلام الجمحي . فهؤلاء كان لا يعجبهم إلا الجدول العربي ، يرحلون إليه ويأخذون منه . ومنهم من كان لا يحب إلا الجدول اليوناني كأطباء السريان في ذلك العصر ، وقس على ذلك .ومع هذا كان لا بد لهذه الثقافات جميعها حتى تمتزج في العراق ، ويروي الأغاني " أنه كان في مسجد البصرة حلقة قوم من أهل الجدل يتصايحون في الموضوعات والحجج فيها ، وبجانبهم حلقة للشعر والأدب إلى غير ذلك . وكان الذين يحضرون هذه الحلقات من أجناس وديانات وآراء مختلفة . ويتلاقون في المسجد وفي المنازل وفي قصور الولاة والخلفاء ، ويتحاجون ويتجادلون . يخرج الجاحظ صباحا إلى المسجد لطلب الحديث ويلتقي بعد بحنين بن إسحاق وسلمويه ، ويلقى النصراني واليهودي فيجادلهما، ويلقى البدوي العربي فيأخذ عنه . يتقابل أصحاب الديانات فيحكي جميع ما ورد في خطه عن خلق العالم ، ويتجادلون في رؤية الله ، هل تكون أولا تكون ، وفي صفات الله هل هي زائدة على الذات أولا،يا ترى؟ على حين يتجادل آخرون في أي الأمم خير ، ويتعصب هذا للعرب وهذا للعجم ، فكان من هذا كله حركة عنيفة لم تدع نوعا من المذاهب والأديان واللغات والآداب يعيش وحده . بل لم تدع جزءا من الأجزاء إلا مزجته بأجزاء أخرى ، حتى قاسي على الباحث حتى يرد الأمور إلى أصولها . ولم تكن هذه العملية كعملية مزج الزيت بالماء ، بل كامتزاج السكر بالماء أونفحات الأزهار بالهواء .تمتزج فتبقى أبدا ، وتتلاقى فلا تفترق أبدا . وكذلك كانت الثقافات التقت في هذا العصر فكان أول تلاق ، وصارت على توالي العصور أشد تلاقيا وأكثر امتزاجا . وكان للإسلام أثر كبير في هذا الامتزاج . فمن أسلم من الأمم الأخرى ( ونعني الخاصة ) يرى حتى لا يكمل دينه ولا يقوى إيمانه إلا إذا قرأ القرآن ودرسه ، مما يدعوه إلى تفهم العربية والتثقف بآدابها .

وبذلك يجمع بين ثقافته القومية وثقافته العربية ، مما يجمع ويمزج بين ثقافتين وعقليتين . فكثير من الفرس والروم والهنود والأنباط تعربوا ، أي أفسحوا رؤوسهم وألسنتهم لثقافة عربية ، وأفسحوا صدورهم للإسلام ليحل محل دين ولدوا عليه وعاشوا حينا في شعائره وتنطقيده . جميع هذا وذاك كان سببا في التزاوج والإنتاج . ومن أجل هذا لا تكاد ترى في هذا العصر ثقافة مدنية أودينية عاشت وحدها في عزلة عما حولها ، بل كان جميع مؤثرا متأثرا ، وفاعلا قابلا ، وان اختلفت فيما بينها في مقدار فاعليتها وانفعالها ، ونواحي تأثيرها وتأثرها . وإذا أردنا حتى نقدم نماذج ممن يمثلون هذه الثقافات ممتزجة ، لا نجد خيرا من الجاحظ وابن قتيبة وأبي حنيفة الدينوري . جميع واسع الإطلاع غزير الفهم كثير التأليف . أولهم أبوعثمان عمروبن بحر بن محبوب الكناني زعيم المتحدثين من المعتزلة عاصر الخلفاء العباسيين من الرشيد مرورا بالمأمون فالمعتصم فالواثق فالمتوكل فالمنتصر فالمستعين ومات في خلافة المهدي ، فتاريخه هوتاريخ قرن تام وأهم خطه " البيان والتبيين" و"الحيوان" . وثانيهما (ابن قتيبة ) أبومحمد عبد الله بن مسلم ، أصله فارسي من مرو، كان يكره الجاحظ المتحدث المعتزلي ، وهومن أبرز أهل السنة كما يقول ابن تيمية ، وأهم خطه "عيون الأخبار" . وثالثهم أحمد بن داوود بن ونند، ولد بدينور ،ويظهر حتى ثقافته اليونانية الهندية كانت أوسع منها في صاحبيه الجاحظ وابن قتيبة واشتهر بالكتابة في النبات . وكل أديب وعالم ولغوي ومؤرخ . وعلى الجملة كانوا ثلاثتهم " دائرة معارف" زمنهم .

كانت الحالة الفهمية في أواخر القرن الثالث وفي القرن الرابع الهجري أنضج منها في العصر الذي قبله . وقد ظهر في مطلع القرن الثالث الهجري في المملكة الإسلامية عنصر كبير حديث إلى جانب العرب والفرس وهوعنصر الأتراك ، وكان له أثر كبير في تاريخ الدولة الإسلامية وحياتها السياسية والاجتماعية ، وكان ذلك مع خلافة المعتصم . وأخذ التاريخ الإسلامي يصطبغ بالصبغة الهجرية . وبعد حتى كانت الأحداث تتصل بأعلام الفرس كأبي مسلم الخراساني والبرامكة والحسن بن سهل وأمثالهم ، ظهر التاريخ مرتبطة أحداثه بأشناس واتاخ وبغا الكبير وبغا الصغير وابن طولون وأمثالهم من الأتراك . إذ كانوا القابضين على زمام الدولة والمتصرفين بشؤونها . ومن الناحية العقلية نرى حتى ابتداء سلطان الأتراك ، وكان ذلك في عهد المتوكل ، قد صحبته مظاهر جديدة تخالف جميع المخالفة ما كان من قبل وأهمها إلغاء سلطان المعتزلة وإعلاء شأن المحدثين . حمل محنة خلق القرآن في سنة 234 هجرية واستقدم المحدثين إلى سامراء وأجزل عطاياهم ، وأمرهم بأن يحدثوا بأحاديث الصفات والرؤية . واضطهد رؤساء المعتزلة وضيق عليهم . كانت طبيعة الاعتزال تدعوإلى التفلسف واتجاه العقل في مناح شتى من الحياة ، وتحريره من كثير من القيود بعد الإيمان بالله ورسوله ، والإيمان بالقرآن ، وحصر الحديث في دائرة ضيقة ، وإشعار الإنسان بالمسؤولية لأن أعماله صادرة عنه . ولكنهم مع الأسف آمنوا بهذه الحرية وأرادوا حتى ينفذوها بالقوة والسلطان فكانت حرية بالإكراه . وفي اللقاء كانت طبيعة المحدثين تدعوإلى الوقوف عند النصوص والتزامها وتضييق دائرة العقل واحترام الرواية إلى أقصى حد ، وهذا يستتبع نمطا في التفكير خاصا يسود فيه تقديس النقل أكثر من تقديس العقل ، والتقليد دون الاجتهاد ، والوقوف عند النصوص دون التعمق في مغازيها ومراميها ، والنظر إلى الفلسفة والبحث العقلي في الكليات نظر البغض والكراهية ، واعتبار المفكر على هذا النمط ملحدا أوزنديقا الخ... وكان هذا هوالذي ساد الحياة العقلية مذ خنق الاعتزال . فاحترمت نصوص الخط أكثر مما احترم نقد العقل ، واحترم العالم واسع الإطلاع بالنصوص الدينية واللغوية أكثر مما احترم قليل الحفظ واسع أفق العقل ، وأكرم العالم المقلد أكثر مما أكرم العالم المجتهد ، ونظر إلى المحدث والفقيه بخير ما نظر إلى الفيلسوف والمفكر الناقد ، وضاقت دائرة التفلسف إذا قيست بدوائر الفهم في الفروع الأخرى . وربما كان الأتراك مسؤولين لدرجة كبيرة عن هذا ، فطبيعة عامتهم لا تقبل الجدل الكلامي ولا كثرة المذاهب الدينية . ويقول أحمد أمين " الأتراك في جميع عصورهم قل حتى ترى منهم من اعتنق ممضىا في الأصول غير ممضى أهل السنة ، وفي الفروع غير ممضى أبي حنيفة ، وقل حتى ترى بين فهمائهم خصومة في المذاهب كالتي نراها في العراق من خوارج وشيعة ومرجئة ومعتزلة ونحوذلك ، إنما هوممضى واحد يسود غالبا ويتوارث " .

لا بد في ختام هذا الاستعراض لتطور الحياة العقلية عند العرب من استعراض موجز ، قدر الممكن ، للفترة التي تلت انقسام الدولة العباسية , ففي سنة 324 هجرية كانت البصرة في يد ابن رائق ، وفارس في يد علي بن بويه ، واصبهان والري والجبل في يد أبي علي الحسن بن بويه ، والموصل وديار بكر وربيعة في أيدي بني حمدان ، ومصر والشام في أيدي الاخشيديين ، وافريقية والمغرب في يد الفاطميين ، وخراسان وما وراء النهر في يد السامانيين ، وطبرستان وجرجان في يد الديلم ، وخوزستان بيد البريدي ، والبحرين واليمامة وهجر بيد القرامطة ، ولم يبق للخليفة إلا بغداد وما حولها وحتى هذه لم يكن له فيها إلا الاسم . ولوسلمنا حتى الحياة السياسية بعد الانقسام كانت شرا منها قبله ، فلا نسلم ذلك في الفهم والأدب . فالحالة الفهمية في أواخر القرن الثالث وفي القرن الرابع كانت أنضج منها في العصر الذي قبله . فقد أخذ فهماء هذا العصر ما نقله المترجمون قبلهم فشرحوه وهضموه ، وأخذوا النظريات المبعثرة فرتبوها ، وورثوا ثروة من قبلهم في جميع فرع من فروع الفهم فاستغلوها . وكأن البذور التي بذرت في القرن الثاني آتت ذروة ثمرها في القرن الرابع ، مع كونه القرن الذي بلغ الانقسام السياسي ، وانحطاط سلطة الخليفة في بغداد ذروتيهما .

ففي مصر تحت الحكم الفاطمي بني الجامع الأزهر ، وعنيت الدولة الفاطمية بالخط عناية كبيرة ، فكان من أشهر خزائن القصور الفاطمية خزانة الخط وفيه ما يزيد على مائتي ألف كتاب ، وفيها خط الفقه على سائر المذاهب ، والنحوواللغة وخط الحديث والتواريخ وسير الملوك والنجامة والروحانية والكيمياء الخ. وأسس الحاكم بأمر الله دار الحكمة ، وفي زمنه انتقل إلى مصر أبوعلي الحسن بن الهيثم وأصله من البصرة ، وقد ألف نحومائتي كتاب في الرياضيات والطبيعة ( الفيزياء ) والفلسفة ، ظلت عماد الناس في الشرق والغرب . وفي الدولة الحمدانية في حلب والموصل نجد الفيلسوف الكبير الفارابي ، وهوهجري الأصل ، عاش في كنف سيف الدولة لا يأخذ من المال إلا ما يسد رمقه( أربعة دراهم في اليوم ) ويعيش عيشة التصوف ، وخط في المنطق والإلهيات والسياسة والرياضيات والكيمياء والموسيقى . وابن خالويه من أكبر الأئمة في زمنه في اللغة والنحووالأدب وعلوم القرآن . وابن جني في النحووالصرف ، والشاعر المتنبي وأبوالعلاء المعري . أما البويهيون في العراق وجنوبي فارس فقد شجعوا مع فارسيتهم الأدب العربي واللسان العربي والعلوم العربية . وكان ممن نبغ من الفهماء والأدباء والفلاسفة في عهدهم ، في الجزء العراقي ، من يعد بحق فخر المملكة الإسلامية في العصور المتنوعة . نبغ أبوعلي الجبائي وكان إمام المعتزلة في بغداد ، وتتلمذ له أبوالحسن الأشعري ، أخذ ممضى الاعتزال على الجبائي ثم خرج على الاعتزال وحاربه وألف في ذلك الخط الكثيرة . كان شافعيا وقد ناصر ممضىه جماعة من أكبر الفهماء ومن أشهرهم الباقلاني وابن فورك والاسفرائيني والقشيري والجويني ثم الغزالي . كما ظهر محمد بن جرير الطبري صاحب التفسير والتاريخ . واشتهر من الحنفية الكرخي . واشتهر من فقهاء المالكية إسماعيل بن إسحاق بن حماد ، وكان من نظراء المبرد في النحو. واشتهر من رجال الشافعية أحمد بن عمر بن سريج القاضي ، نشأ في شيراز ثم بغداد وألف نحوأربعمائة كتاب . ثم أبوالحسن الماوردي وألف " الحاوي " في الفقه الشافعي والأحكام السلطانية شرح فيه مناصب الدولة من الناحية الدينية كالإمامة وشروطها والوزارة وأقسامها والقضاء والحسبة وولاية الخراج الخ... وله كتاب آخر في قانون الوزارة وسياسة الملك ، وله كتاب " أدب الدنيا والدين "في الأخلاق على الأصول الدينية . وكان للحنابلة سلطان كبير في العراق ، واشتهر من فهمائهم عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل . ومن أعلام الفقه الحنبلي ظهر أحمد بن هاني الطائي البغدادي ، وأبوإسحاق الحربي ، والسجستاني . وقد أتعب الحنابلة الحكومات المتعاقبة أكثر من غيرهم من أهل المذاهب الأخرى لشدة عصبيتهم والميل إلى تطبيق آرائهم بالقوة ،والتعدي على خصومهم من أهل المذاهب ، وصبرهم على ما يلقون من محن تقليدا لأستاذهم الأكبر أحمد بن حنبل . وفي هذا العهد نما في العراق التصوف والدعوة إلى الاهتمام بباطن النفس لا بالظواهر ، والوصول إلى الفهم عن طريق الوحي والإلهام . ونشطت حركة الفلسفة والنقل في العراق في العهد البويهي نشاطا كبيرا . وكان من أكبر فلاسفة بغداد أبوسليمان المنطقي شيخ رجال الفكر في بغداد، وكان بيته مدرسة تنشط فيها الحركات الفكرية .ونجد ممن عنوا بالفلسفة في هذا العهد ، وهم كثر ، الرياضي المشهور أبا الوفاء البوزجاني، وإخوان الصفا الذين ظهروا في البصرة في القرن الرابع الهجري . وكان الشريف الرضي من أكبر شعراء هذا العصر في بغداد.كما نبغ في العهد البويهي في العراق من كبار الكتاب أبوإسحاق الصابي صاحب الرسائل المشهورة ( وابن العميد والصاحب بن عباد في الجزء الفارسي من الدولة البويهية) ، وأبوحيان التوحيدي وقد لقبوه بالجاحظ الثاني . ونبغ في الأدب واللغة ، في العراق ، أبوبكر الأزدي وأبوعلي النطقي ، وأبوالفرج الأصفهاني مؤلف كتاب الأغاني متعة الأدباء على اختلاف العصور . ومن أئمة فهم الكلام والأدب والشعر الشريف المرتضى ، وهوأخوالشريف الرضي ، وأبوسعيد السيرافي خط إليه ملك سجستان يخاطبه بالشيخ الفرد ، سأله عن سبعين مسألة في القرآن ومائة حدثة في العربية وثلاثمائة بيت من الشعر وأربعين مسألة في الأحكام وثلاثين مسألة في الأصول على طريق المتحدثين ، فأجاب عنها كلها ، وتقع الأسئلة والأجوبة في نحوألف وخمسمائة ورقة . ومن خير ما أخرجته بغداد في هذا العصر ابن النديم وهوصاحب الفهرست المشهور ، والناظر في كتاب الفهرست يعجب لهذا النشاط الفهمي الذي قام به المسلمون في هذه العصور وكثرة المؤلفين والمترجمين في جميع نواحي الفهم ، كما يعجب لسعة إطلاع ابن النديم . وإذا انتقلنا من العراق إلى الجزء الجنوبي من فارس وكان أيضا تحت حكم البويهيين ، وجدنا ثروة كبيرة في الفهم في جميع فروعه وفي الأدب والشعر . وقد أخرجت هذه البلاد من المحدثين والفقهاء والنحاة والفلاسفة والصوفية والأدباء ما لا يحصى كثرة . وكان على رأس الفلاسفة أبوبكر الرازي الكيميائي المشهور . ثم إذا ابن العميد والصاحب بن عباد أوجدا في هذا الإقليم حركة أدبية رائعة، فهما وزيران خطيران وسياسيان كبيران وأديبان عظيمان ، وقد استخدما جميع ذلك في إعلاء شأن الأدب . وعلى الجملة فقد خدمت الدولة البويهية الفهم والأدب خدمة كبرى . والمركز الثالث من مراكز الحياة العقلية ، بعد الشام ومصر ثم العراق وجنوب فارس ، نجد خراسان وما وراء النهر ، وقامت فيهما الدولة السامانية . وقد أخرجت هذه البلاد ما يصعب حصره من رجال الحديث والفقه ، وعلى رأس المحدثين نجد البخاري وهومن بخارى ، ومسلم من نيسابور . وكان في هذه الأنطقيم كثير من عظماء الشافعية والحنفية . كما أخرجت هذه البلاد كثيرا ممن بلغوا مبلغ الاجتهاد في الفقه ، مثل السمرقندي والنيسابوري وأبوبكر بن فورك ، الأصفهاني الأصل ومن أنصار الأشعري ، والبيهقي الحافظ الشافعي أكثر من التصنيف بعد طول ترحال حتى نطقوا أنها تبلغ نحوألف جزء. كما اشتهر من الحنفية الإمام أبومنصور الماتريدي وهوللحنفية في فهم الكلام كالأشعري للشافعية . . وهذا نموذج صغير جدا مما أخرجت هذه البلاد من المحدثين والفقهاء . فحيثما قرأت في خط المحدثين والفقهاء راعتك كثرة ما ترى منهم ودلالة نسبتهم عليهم كالبلخي والسرخسي والخوارزمي والسمرقندي والفارابي والبخاري والترمذي والصاغاني والأبيوردي والقاشاني والشاشاني والنيسابوري والمروزي والرازي والهروي والفرغاني والزمخشري والصعدي والبيهقي والبستي الخ... . وكان في هذه البلاد حركة فلسفية قوية يرجع الفضل فيها إلى شخصيتين هما أبوزيد البلخي وأبوالقاسم الكعبي . وقد نشرا في هذا الإقليم حركة فلسفية وعقلية كبيرة ، توجت بالفيلسوف الكبير ابن سينا درة الدولة السامانية . وأنتج هذا الإقليم من أعلام النثر الأديبين الكبيرين الشهيرين أبا بكر الخوارزمي وبديع الزمان الهمذاني . وعلى الجملة فهاتان الدولتان البويهية والسامانية ، مع فارسية ملوكهما ، وأعجمية لغاتهما الأصلية ، قد خدمتا اللغة العربية والأدب العربي والعلوم الإسلامية العربية والفلسفة الإسلامية العربية خدمة لا تقدر . والمركز الرابع للحياة العقلية هوالسند وأفغانستان وقد تولى هذا الإقليم الدولة الغزنوية( 351- 582 هجرية ) وهي دولة هجرية . وكان طبيعيا حتى تكون الحركة الفهمية والأدبية في البلاد الجديدة التي فتحتها الدولة الغزنوية في الهند ضعيفة ، فقد بدأت تنشر فيها الإسلام والعربية ، ومن الطبيعي حتى لا تخرج فهماء . أما القسم الثاني الذي استولت عليه من الدولة السامانية وغيرها مما تأصل فيه الإسلام من عهد بعيد ، فقد استمرت فيه الحركة في العهد الغزنوي كما كانت في العهد الساماني . وكان من الغزنويين من شجع الحركة الدينية والفهمية والأدبية ، وخاصة محمود بن سبكتكين ، فقد سار على أسلوب العصر في حتى يزّين مملكته بالفهماء والأدباء كما يزين تاجه باللآلئ . وكان البيروني درة في تاج الدولة الغزنوية كابن سينا في الدولة السامانية ، وقد نبغ في كثير من العلوم وخاصة الرياضيات والفلك .

وربما كان هذا العصر خاتمة الفهم الإسلامي . نعم كان بعده فهم ولكن ليس إلا ترديدا لفهم القرن الرابع الهجري ، وربما كان السبب إقفال باب الاجتهاد في فضم الخمود والجمود جميع فهم وأدب .

إن ما نقرؤه في هذه الفقرة حتى الآن يعود في معظمه إلى أفكار ومعلومات وتحليلات وردت هنا وهناك في الأجزاء الخمسة الأولى من " موسوعة الحضارة الإسلامية " للمفكر العربي الكبير المرحوم أحمد أمين . وميزة ما اتى به أحمد أمين أنه جد وتعب كثيرا تعبا يتصف بالمثابرة والصبر والعزيمة ، بالإضافة إلى ما يمتاز به من الفهم والخبرة والكفاءة في جمع ما اتى في موسوعته وتقصيه من مراجع عديدة متفرقة ومخطوطات نادرة ، ونجح في حتى يؤلف من مجموعة المعلومات التي وقف عليها شكلا منظما يسره للقارىء العربي للمرة الأولى بأسلوب شيق وعقلانية مشهودة وحياد موضوعي محترم . ويقول عميد الأدب العربي طه حسين في تقديمه للجزء الأول من الموسوعة " فجر الإسلام " ما يلي : " أخذ زميلنا الأستاذ أحمد أمين نفسه بأن يحلل هذه الحياة العقلية العربية تحليلا ليس أقل دقة واستقصاء من تحليل صاحب الكيمياء في معمله . نعم وأخذ زميلنا نفسه بأن يرد هذه الحياة العقلية العربية ما استطاع إلى عناصرها المتنوعة المكونة لها ، وبأن يعهد إلى أي حد امتزجت هذه العناصر وتداخلت وما مقادير هذه العناصر في هذا المزاج العام . " ونسوق فيما يلي ،حرفيا ، ما اتى في ختام بحثه عن المعتزلة . وهويجيب عن تساؤل طرحه : هل كان في مصلحة المسلمين موت الاعتزال وفوز المحدثين ،يا ترى؟ يقول أحمد أمين :

" في رأيي حتى ذلك لم يكن في مصلحتهم ، وأنه كان خيرا للمسلمين ألا يدخل المعتزلة في أحضان الدولة، وأن يعيشوا كما عاشوا في عهد المنصور ، وأول عهد المأمون ، فلوساروا على هذا النهج ، وسار المحدثون على النهج الذي وضعوه لأنفسهم ، لانتفع المسلمون من ذلك أكبر نفع ، ولتغير تاريخ الإسلام . فحزب المعتزلة يمثل حزب الأحرار، وحزب المحدثين يمثل حزب المحافظين . ومن مصلحة الأمة حتىقد يكون الحزبان . يدفع المعتزلة الناس إلى إعمال العقل وإطلاق الفكر ، ويتقدمون الناس بمشاعلهم وأضوائهم ، ينيرون السبيل أمامهم. ويحافظ المحدثون على العادات والتنطقيد الموروثة، ويتعلقون بأذيال المعتزلة يمنعونهم حتى يندفعوا في السير حتى لا ينبتوا ، فتسير الأمة سيرا هينا ، ولكن إلى الأمام دائما . وإخلاء السبيل أمام طائفة من الطائفتين وفقدان الأخرى ضار ضررا بليغا.

فلما مضى ضوء المعتزلة سقط الناس تحت سلطان المحدثين وأمثالهم من الفقهاء وظلوا تحت هذا السلطان من عهد المتوكل إلى ما قبل اليوم بقليل ، فكانت النتيجة جمودا بحتا ، فهم العالم حتى يحفظ الأحاديث ويرويها كما سمعها ، ويفسرها تفسيرا لغويا ويشرح رجال السند كما شرحه الأقدمون ، هذا ثقة ، وهذا ضعيف ، من غير نقد عقلي . وفقه الفقيه حتى يروي أقوال الأئمة قبله ، فإذا عرضت مسألة جديدة لم تكن ، فقصارى جهد المجتهد حتى يخرجها على أصول إمامه . وتعجبني تعبير المسعودي وهي حتى المتوكل أمر الناس بالتسليم والتقليد . فهذه هي طبائع الفهماء من عهد المتوكل ، تسليم بالقضاء والقدر ، وتسليم بما كان وماقد يكون ، وتقليد للسابقين ، وتقليد في الفتاوى والآراء ، ومن ثم تكاد تكون الخط المؤلفة في الحديث والفقه والتفسير ، بل والنحوواللغة من عهد المتوكل صورة واحدة ، إذا اختلفت في شيء فاختلاف في الإطناب والإيجاز والبسط والاختصار .أما الترتيب فواحد ، وأما الأمثلة فواحدة ، وأما العبارة الغامضة في الكتاب الأول فغامضة في الكتاب الأخير . كلها خضعت لأمر المتوكل بالتسليم والتقليد ، وانعدمت فيها كلها الشخصية لأن الشخصية عدوّة التسليم والتقليد . ولوبقي الاعتزال لتلون المسلمون بلون آخر أجمل من لونهم الذي تلونوا به.

نعم عثر في الإسلام فرقة الفلاسفة وقاموا على أنقاض المعتزلة ، وكان من هؤلاء الفلاسفة أمثال الفارابي وابن سينا وابن رشد وأمثالهم ، ولكنهم في الحقيقة لم يغنوا غناء المعتزلة . لقد كان الفلاسفة فلاسفة أولا ودينيين آخرا ، لا ينظرون إلى الدين إلا عندما تتعارض نظرية فلسفية مع الدين فيجّدون للتوفيق بينهما ، أما المعتزلة فكانوا دينيين أولا وفلاسفة آخرا ، همهم الأول تعاليم الدين مفلسفا ، والقرآن معقولا . وهمّ الفلاسفة آراء أرسطووأفلاطون بحيث لا تتعارض مع الإسلام، وشتان بين النظرتين وبين الصيغتين . من أجل ذلك تعرض المعتزلة لمسائل الدين عن قرب ، وتعرضوا للمحدثين وصدموهم ، وللفقهاء ونازلوهم ، وكانوا يقررون الأصل الديني ويردون على مخالفيهم في وضوح وجلاء . أما الفلاسفة فأرادوا حتىقد يكونوا في سمائهم الفلسفية ، وودوا لونحّوا الدين جانبا ، فإذا كان ولا بد فمحاولة للتوفيق حتى لا يثور عليهم رجال الدين . لذلك أرى حتى الفلاسفة لم يمسوا الحياة الواقعية للمسلمين ، وكانوا في فلسفتهم اليونانية كالمفوضية اليونانية في البلاد الإسلامية، لا تمس مصالح الأمة التي تقيم فيها إلا عند التعارض مع مصلحتها . أما المعتزلة فتريد احتلالا وتريد إصلاحا وتريد توجيها ، ولا تطمئن لعيشة العزلة . وناحية أخرى ، وهي حتى المعتزلة كانوا أئمة البيان في الأمة العربية ، وعلى رأسهم النظّام والجاحظ وبشر بن المعتمر وثمامة وأحمد بن أبي دؤاد . جميع منهم إمام البيان في عصره ، قد تثقفوا ثقافة عربية واسعة . يعهدون أشعار العرب وأخبارهم وآدابهم ، ويعهدون المعاني العميقة التي هداهم إليها فهم الكلام ، فكانوا أدباء من نوع عميق لا يدانيه فيه غيرهم . ومن ثم اخترعوا فهم البلاغة – كما أشرت من قبل – فكانوا من هذه الناحية أكثر اتصالا بالأمة الإسلامية وأبعد تأثيرا، إذا لم يقرا الناس كلامهم لاعتزالهم فرأوه لأدبهم وبلاغتهم ، فكان الاعتزال يندس في ثنايا قولهم العذب ، ومنطقهم الفصيح ، ومعانيهم السائغة . أما تعبير الفلاسفة فعبارة جافة غامضة ، كأنها رموز وإشارات ، قد ملئت بالمصطلحات الثقيلة والعبارات الركيكة ، فكانت وقفا عليهم وعلى من تتلمذ لهم لا تعدوهم ، فكأنهم ألفوها واشترطوا في فهمها حتىقد يكونوا معها ليشرحوها ،فكانوا بذلك أمة وحدهم في عقليتهم وعباراتهم ، فضاقت دائرتهم ن وضعف أثرهم .

ومن اجل هذا لا أرى حتى فلاسفة المسلمين سدوا مسد المعتزلة ، بل ظلت سلطة المحدثين كما هي لم تتأثر بالفلاسفة أبدا . والفلاسفة كانوا يحمدون الله على السلامة منهم ، ويرجونه حتى يديم عليهم السعادة التي يشعرون بها في تفكيرهم السماوي الميتافيزيقي.

لقد أدى المعتزلة للإسلام خدمة لا تقدر، فقد اتىت الدولة العباسية تحمي الفرس لأنها قامت على أكتافهم ، وطارت من على عاتقهم . ولكن مذاهب الفرس ثنوية وتشبيه وتجسيم ونحوذلك ، وفي إعطاء الحرية للفرس خطر في دخول هذه المذاهب وتسربها إلى المسلمين. وقرب العباسيون اليهود والنصارى واستخدموهم في الطب وغير الطب ، وكلفوهم الترجمة إلى العربية ،فكان ذلك داعيا إلى تقريبهم واختلاط المسلمين بهم أكثر من اختلاطهم في العصر الأموي .فشعور الفرس واليهود والنصارى بهذه الحرية مكن طائفة منهم حتى يتسللوا بأديانهم القديمة يريدون نشرها ، ولذلك نجد في هذا العصر نادىة كثيرين يدعون إلى ثنوية الفرس ومانوية الفرس ، وبعض تعاليم اليهودية والنصرانية ،وبعض تعاليم الهنود الأقدمين . وبعض هؤلاء النادىة تستّروا بالإسلام ، وبعضهم نادى دعوته في علانية ، وأبيح الجدل والمناظرة في أدق المسائل وأعمقها ، ولم يكن الفقهاء والمحدثون يستطيعون حتى يقفوا أمامهم ، لأن المحدثين وأمثالهم مهرة في النصوص ، والذي ينكر الإسلام لا يقتنع بمجرد ذكر آية أورواية حديث ، إنما يريدون دلائل عقلية على وجود الله وعلى نبوة محمد ( ص ) وعلى صحة حتى القرآن هومن عند الله ، كما يريدون دلائل عقلية على بطلان مذاهبهم . وكان هؤلاء جميعا من ثنوية ويهود ونصارى قد تسلحوا بالفلسفة اليونانية ، واستخدموا منطقها فكونوا منه براهين على مذاهبهم، واستخدموا اللاهوت اليوناني يدعمون به معتقداتهم . فكان لا بد لمن يقنعهم ويرد عليهم حتى يتسلح بسلاحهم ، وأنقد يكون على فهم تامة بأساليبهم وأسرار مذاهبهم ، فيقرع حجة عقلية بحجة عقلية ، ويحمي المسلمين من هجومهم وبث دعوا تهم ، فلم يقم بهذه المهمة ، ويحمل هذا العبء في ذلك العصر إلا المعتزلة . فقد نازلوا الثنوية والديصانية والدهرية ، واضطهدوا بشارا وجرير بن حازم السّمني في البصرة ، وجعلوا قوما من الثنوية يدخلون في الإسلام بناء على دعوتهم ، وألفوا الخط الكثيرة في الرد عليهم ، ونازلوا اليهود والنصارى وردوا عليهم ، وألفوا في إثبات النبوة عامة ، وفي إثبات نبوة محمد خاصة ، وأبلوا في ذلك بلاء حسنا . ولعل هذا هوالسبب في أنّا لا نجد –فيما وصل إلينا- لتعاليم المعتزلة نظاما عاما في البحث شاملا مرتبا ، ولكن مسألة من هنا ومسألة من هناك حسب الجدل والمناظرة ،لا حسب العقل الهاديء الذي يرتب في حجرته الأبواب والفصول ترتيبا منطقيا . فالمسائل تثار حسبما اتفق ، إما في الجوالوثني أواليهودي أوالنصراني ، أوفي جومجالس الخلفاء ، أومجالس الفهماء ، ويرد عليها المعتزلة ، وتدوّن فيها آراؤهم من غير نظام إلا النظام الزمني في ظهور المسالة .

ولا يدري إلا الله ماذا كانقد يكون من الشر على المسلمين لولم يقف المعتزلة هذا الموقف وقت هجوم خصوم الإسلام بهذه القوة التي هجموا بها ، بل إذا الأسلحة التي تسلح بها المسلمون بعد من فهم الكلام على النمط الذي وضعه أبوالحسن الأشعري وخلفه ، هي – من غير شك – وليدة الاعتزال ، وترتيب لآراء المعتزلة ، وتعديل لبعضها ، وما كانت تكون لولاهم .

فلما ضعف شأن المعتزلة بعد المحنة ظل المسلمون تحت تأثير حزب المحافظين نحوا من ألف سنة ، حتى اتى ت النهضة الحديثة . وفي الواقع حتى فيها لون من ألوان الاعتزال ، ففيها الشك والتجربة وهما منهجان من مناهج الاعتزال ، كما رأيت في النّظام والجاحظ، وفيها الإيمان بسلطة العقل ، وحرية الإرادة ، وبعبارة أخرى خلق الإنسان لأفعال نفسه ، وما يتبع ذلك من مسؤولية ، وفيها حرية الجدل والبحث والمناظرة ، وفيها شعور الإنسان بشخصيته ، وعدم تحميل القدر جميع تبعة ومسؤولية ، إلى كثير من أمثال ذلك ، وكلها مبادىء – كما رأينا – قد نطق بها المعتزلة وجروا عليها .وربما كان الفارق الوحيد بين تعاليم المعتزلة وتعاليم النهضة الحديثة حتى تعاليم المعتزلة لهذه المبادىء كانت مؤسسة على أساس الدين ، وتعاليم النهضة الحديثة مؤسسة على العقل الصرف . وبعبارة أخرى كان المعتزلة يرون هذه المبادىء دينا ، والنهضة الحديثة تراها عقلا، فاتصلت هذه المبادىء عند المعتزلة بالدين أتمّ الاتصال ، ولم تتصل بالدين في النهضة الحديثة ، بل كانت في كثير من المظاهر والأحوال خروجا على الدين .

في رأيي حتى أكبر مصائب المسلمين موت المعتزلة ، وعلى أنفسهم جنوا . "

ويلخص هذا الموضوع المقتبس لأحمد أمين الجانب الأهم من أزمة العقل العربي التي تتلخص في التسليم والتقليد ، في تقديس النقل وتقييد العقل ، في غلبة أهل الرواية على أهل الدراية عبر ليل طويل امتد من خلافة المتوكل حتى نهاية الدولة العثمانية . واتى الجانب الآخر من أزمة العقل العربي المعاصر فيما جنح إليه كثير من مثقفي العرب تحت راية القومية ، أوتحت راية الليبرالية ، أوتحت راية الماركسية ، من انفلات غير منضبط واستسلام دون قيد أوشرط لحضارة الغرب المادية سواء في شقها الرأسمالي أوفي شقها الماركسي ، معتبرين حتى ثوبنا الحضاري ثوب رث قديم مهلهل يجب حتى نخلعه عنا ونسير في ركب الحضارة الغربية بكل ماديتها في جانبها الفكري والثقافي والاجتماعي . ويستتبع هذا من طبيعة الحال الاستسلام لجانبها السياسي مع جميع ما في هذا الجانب من العداء لكل ما عربي أومسلم . لقد نسوا أوتناسوا مقولة ذلك الرجل العبقري عمر بن الخطاب عندما نطق " نحن قوم أعزنا الله بالإسلام ومهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله "

وهناك قوم في اللقاء حملوا شعار الإسلام وزجوا به في معهجر السياسة وهم في ثقافتهم وتربيتهم داخل تنظيماتهم السياسية بأنواعها الثلاثة ، تلك التي يقودها رجال يتسمون بالفهم عقولهم غير مغلقة وصدورهم قد تتسع للحوار الهادف ، وتلك المنغلقة على نفسها تجد إذا نهاية التاريخ كانت في السلف ، وتلك الظلامية الفتاكة التي اعتمدت صناعة الموت أسلوبا للدعوة، نجدهم جميعا يخضعون لإسلام النقل دون العقل والجمود دون التقدم ، إسلاما يخضع في حقيقة أمره لكافة القيود التي فرضتها خلافة المتوكل ، وهي بداية فترة أفول الدولة العباسية.

ولعل ما اتى في هذه الفقرة من مشروعنا النهضوي يضع النقاط على الحروف ، ويبين لكل مواطن عربي مسقط العروبة من الإسلام ومسقط الإسلام من العروبة . بين العروبة والإسلام تلازم تاريخي لا يمكن تجاوزه، وتلاحم عضوي لا يمكن إنكاره . العرب قبل الإسلام جاهلية لا تحمل في طياتها مضمونا إنسانيا يستحق الذكر . والعرب هم حاضنة الإسلام وأرضه، وحامله إلى بقاع الأرض ، وهوالعنوان الرئيس لتطورهم الحضاري ولوجودهم كدولة . ومن هنا كانت العروبة بحكم نشأتها تحمل رسالة. وهي رسالة إنسانية في محتواها وأهدافها . ورسالة العروبة ، كما نراها، هي جميع رسالة إنسانية ظهرت على الأرض المسماة اليم بالأرض العربية . وبهذا المعنى فقد حملها هود وصالح وشعيب، وحملها إبراهيم وموسى وعيسى ، ثم حملها في آخر تجلياتها محمد ( عليهم جميعا أفضل الصلاة والتسليم ) في رسالة الإسلام التي ينفرد القرآن الكريم معجزة لغتنا العربية ، وسر بقائها وخلودها، في التعبير عنها . وإذ يبقى المضمون الإنساني للخط المقدسة، في جوهره، واحدا، ويتخطى النسبية في اتجاه المطلق المشهجر المتمثل في التوحيد والعدل ومكارم الأخلاق ، إلا حتى المضامين الاجتماعية الشرعية فيها مختلفة ( لكل منكم جعلنا شرعة ومنهاجا ) ،وبالتالي فهي نسبية وتخضع للتطوير حتى تكون في جميع عصر منسجمة مع مستوى التطور الحضاري للبشرية في ذلك العصر، ومستوعبة لكافة معطياته الايجابية ، وبما لا يتنافى إطلاقا مع المضمون الإنساني الثابت أويخرج عليه. من هنا نريد للعروبة حتى تكون تجديدا مستمرا في ثوبنا الحضاري الموروث ، وتحديثا متميزا له، يحتضن معطيات العصر المعاش ، ويخضعها للمضمون الإنساني المطلق ، مضمون التوحيد والعدل ومكارم الأخلاق.

العروبة في رسالتها شجرة طيبة أصولها الثابتة راسخة في تراب هذا الوطن الفسيح ، وفروعها سامقة تطال السماء . إنها شجرة تصل الأرض بالسماء ، وهي مصباح رئيس من المصابيح التي تنير طريق البشرية إلى التوازن المطلوب بين ماديتها وروحانيتها ، توازن تسودها من خلاله الروحانية والعدالة ، وتظلّها مكارم الأخلاق.

إن أي دعوة للعرب ذات طابع سياسي ستبقى في عزلة عن جماهير الأرض العربية إذا تنكرت للدين ، وخاصة الإسلام ، ولا يمكن لها حتى تفرض نفسها عليهم إلا بالعسف والعنف ، بينما تتسع ساحة قبولها بالرضى وملء الاختيار حدثا كانت في غاية الوضوح والايجابية في رسالتها كما حددناها آنفا.

لقد صدرت العروبة اليهودية والمسيحية والإسلام إلى العالم، فأرضها هي مهد الديانات السماوية جميعها . والتزامها بالمضامين الإنسانية العظيمة للديانات التي نشأت في أرضها وعلى ترابها سيحفظ لها مسقط الريادة الإنسانية على ظهر هذا الكوكب . العروبة بهذا المعنى هي زخم الماضي المجيد واستغاثة الحاضر المهين ووعد المستقبل الناهض . وهي في دولتها كما نراها ليست عرقا وإنما مواطنة يتساوى فيها كافة المواطنين في الحقوق والواجبات .وتبقى لغات الأقليات بكافة مسمياتها وثقافاتهم وتراثهم مكونا أصيلا من مكونات الثقافة القومية.

إن الفهمانية التي ظهرت في الغرب ، وفيها استئصال أوإغفال للثوابت المهمة في قوميتنا وفي تاريخنا وفي تكويننا النفسي والعقلي ، هوشيء غير مقبول وغير واقعي . دولتنا فهمانية ، ولكن فهمانيتنا لا تنكر الدين ولا تحاربه ، ولكنها لا توظف نفسها في مسقط الدعوة له ، أوالتعصب له أوعليه . احترام الدين والالتزام بالجانب المطلق فيه شيء ، والجمود في تفاصيل موروثنا الحضاري كما آل إلينا من السلف شيء آخر . انه ، في جانب منه ، الفارق بين احترام حقوق المواطن وحريا ته الأساسية ، ومنها حرية العبادة وإقامة الشعائر ، وبين محاولة قولبته ، حتى في أخص أموره الذاتية ، بما قد لا يرتضيه لنفسه . فهمانيتنا هي عدم زج الدين في السياسة . فالسياسة أحزاب ومنظمات وآراء واجتهادات ، وخطط تنموية ، ومذاهب اقتصادية ، وما إلى ذلك . والدين للجميع يهتدي به جميع على طريقته بالقدر الذي يشاء وبالشكل الذي يشاء . ولا يمكن لحزب أومنظمة أوفريق حتى يدّعي احتكاره للدين ، ففي هذا تضليل للشعب واستغلال واضح للوصول إلى السلطة . مرجعية الدين مشهجرة للجميع ، والدين الإسلامي ، على وجه الخصوص ، هوبالنسبة إلى المسلم عقيدة وحضارة وتراث متجدد ، وبالنسبة لغير المسلم ، تراث غني في مضمونه الحضاري والإنساني ، ولا وجود للأمة من دونه. أما المسيحية فهي أيضا ، في مضمونها الإنساني ، مرجعية مشهجرة ، عملى أرضنا نشأت المسيحية وعمّت رسالتها بكل مضامينها الإنسانية العميقة أراتى العالم . وأولئك الحواريون والّرسل التاريخيون الذين حملوا المسيحية إلى أوروبا ، ساروا إليها من دمشق ، أوتربوا ونشأوا في دمشق أوالقدس.

إن عداء الغرب لنا لا يمكن حتىقد يكون من خلال البعد المسيحي في سمات ومكونات الحضارة الغربية ، لأن البعد السماوي هذا ، الذي خرج عليه الغرب وتنكّر لخلوده ، وللجانب الروحي منه ، هوبالضبط نقطة لقاء مع المجتمعات الغربية تذكرهم أولا حتى الأصل والمنشأ لهذا الجانب الروحاني ، الذي افتقدوه تماما عندما غرقوا في ماديتهم ، هوالأرض العربية . وأن محادثة العقل والانفتاح بين المسيحية والإسلام قد يسهم في ردم الهوة القائمة بيننا وبين الغرب ، أويمنعها من التفاقم ، على الأقل ، ويشكل ردا على المسيحية المتصهينة التي ترغب حتى تعطي للتحالف الصهيوني الإمبريالي الغاشم بعدا حضاريا .

ونردد هنا مع المرحوم الأستاذ ميشيل عفلق، أحد أبرز المفكرين القوميين العرب في القرن العشرين ، ومؤسس مدرسة البعث العربي ، بعض مقولاته المتعلقة مباشرة بموضوعنا :

" العداء الغربي للإسلام هوالذي جعل الغرب يوجه جهودا كبيرة ضمن غزوه الفكري لمحاولات إعاقة التجديد الإسلامي الذي يجدد هذه الحضارة ذات الامكانات العالية المنافسة لحضارته الغربية. انه عدوالإحياء العربي والبعث القومي والتجديد الإسلامي ، بينما لا يؤرقه ولا يقلقه التدين الشكلي أوذلك التفسير الإفرنجي للإسلام ."

ويقول :

" ونرى أيضا ونعتقد بأن نشوء حركات إصلاحية وثورية في الدين ، تنفض الغبار عن حقيقة الدين ، وتعيد إليه إشعاعه وحيويته ، افترض حتى هذا ضروري في حركة الثورة العربية ، واعتقد أنه سيحصل بشكل حتمي . النهضة العربية ستكون نهضة شاملة ، نهضة في الفكر ونهضة في الدين ونهضة في الفن ونهضة في البناء المادي والاقتصادي "

ويقول:

" ونعتقد حتى أية أمة من الأمم معرضة لأن تجنح إلى الإلحاد ما عدا الأمة العربية ، التي يدخل الإسلام في نسيج شخصيتها وتاريخها ، لأن الإسلام بالنسبة إليها هودين وقومية وحضارة . وهل يستطيع شعب حتى يهرب من شخصيته ، ويتمرد على قوميته ، ويتنكر لحضارته . ولئن وجدت شعوبا تنشد الحرية بالانعتاق من الدين ، فالأمة العربية تجد حريتها في الفهم المتجدد للإسلام . ولذلك فان الدفاع عن الإسلام هومهمة القوميين الذين يريدون حتى يبقى للأمة العربية سبب وجيه للبقاء . " ونختم بالقول إذا مسألة التصدي لقوى باغية ، امتلكت القدرة المادية المحصنة بأرقى ما توصل إليه العقل البشري من توظيف للفهم في مجال التقنية توظيفا منفلتا لا يخضع لأية قيم إنسانية ، هي مهمة الأجيال العربية الشابة المتسمة بالعزم والثبات ، الملتزمة بمكارم الأخلاق ، المؤمنة بالوحدة والعدالة والديمقراطية . أ. د . أنيس كنجو.

تاريخ النشر: 2020-06-04 11:33:05
التصنيفات:

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

وكالة إيرانية: مباحثات قطر حول النووي انتهت بلا نتائج

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-06-29 15:16:19
مستوى الصحة: 85% الأهمية: 91%

مستجدات المأساة التي حاقت بمراهقين في ملهى ليلي بجنوب إفريقيا

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-06-29 15:16:25
مستوى الصحة: 95% الأهمية: 100%

برلين: لا نريد التخلي عن الاتفاق الأساسي بين روسيا والحلف

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-06-29 15:16:25
مستوى الصحة: 76% الأهمية: 95%

الداخلية السورية تصادر 2,3 طن من حبوب الكبتاغون

المصدر: فرانس 24 - فرنسا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-06-29 15:16:13
مستوى الصحة: 86% الأهمية: 98%

سوريا تستلم 100 باص من الصين (صور)

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-06-29 15:16:27
مستوى الصحة: 94% الأهمية: 93%

النرويج ترسل مساعدات عسكرية إلى أوكرانيا

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-06-29 15:16:21
مستوى الصحة: 92% الأهمية: 98%

نيويورك تايمز: اتهام سعودي بتهديد معارضين من حسابات وهمية

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-06-29 15:16:23
مستوى الصحة: 77% الأهمية: 85%

على حدود هونغ كونغ بوادر مشاريع الاندماج مع الصين

المصدر: فرانس 24 - فرنسا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-06-29 15:16:11
مستوى الصحة: 93% الأهمية: 86%

موسكو تحذر دول العالم من التصرف بالأصول الروسية

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-06-29 15:16:26
مستوى الصحة: 76% الأهمية: 91%

"روس أتوم" تصدر نظائر مشعة لمصر

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-06-29 15:16:28
مستوى الصحة: 94% الأهمية: 85%

ارتفاع أسعار النفط وسط مخاوف حول الإمدادات

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-06-29 15:16:24
مستوى الصحة: 88% الأهمية: 91%

المملكة المتحدة توسع عقوباتها ضد روسيا لتطال شخصيات جديدة

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-06-29 15:16:22
مستوى الصحة: 78% الأهمية: 94%

تحميل تطبيق المنصة العربية