بهيج عثمان

عودة للموسوعة

بهيج عثمان

بهيج عثمان (فبراير 1921 في بيروت - 15 أغسطس 1985) ناشر لبناني.

والده: سليم عثمان، والدته: بدرية المصري، زوجته: صدوف كمال، أبناؤه: طارف وسيما.

تلقى علومه الابتدائية في مدارس المقاصد، ثم التحق عام 1936 بالكلية الشرعية التي أنشأها مفتي الجمهورية اللبنانية آنذاك الشيخ محمد توفيق خالد، وتخرج منها عام 1939 .

تلقى علومه الجامعية في كلية الآداب بجامعة القاهرة حيث نال ليسانس الآداب بامتياز في عام 1942.

بعد عودته من مصر عمل مذيعاً في الإذاعة اللبنانية وكان اسمها حينذاك راديوالشرق ، ولكنه استنطق منها عندما اعتقل الفرنسيون أعضاء الحكومة اللبنانية عام 1943 .

عمل في الصحافة الأدبية كسكرتير تحرير مجلة الأديب التي أنشأها ألبير أديب . وفي عام 1945 أنشأ مع فريق من إخوانه داراً للنشر باسم دار الفهم للملايين ومجلة أدبية باسم "الآداب". وفي خلال ذلك كان يتولى تدريس الأدب العربي في الكلية الشرعية في بيروت، وفي الكلية الداودية في عبيه، وفي كلية الآداب بالجامعة اللبنانية. وفي عام 1952 اختارته الحكومة اللبنانية رئيساً لمصلحة الشؤون الثقافية في وزارة التربية الوطنية، ولكنه اعتذر عن تولي المنصب مفضلاً ممارسة عمله الحر في تدريس الأدب والنشر. ساهم في انطلاقة مجلة العربي الكويتية التي خدمت الثقافة العربية يلقب ب"رائد النشر الحديث" .

توفي في 15 أغسطس 1985.

ما خط عنه

بدأ بهيج عثمان علومه الأولى في مدارس جمعيّة المقاصد الخيريّة الإسلاميّة في بيروت وبقي في هذه المدارس حتى بلغ فيها الصف الثالث الإبتدائي. وهنا نهجر الكلام للدكتور عمر فرّوخ ليحدثنا عن المنعطف الرئيسي لإنتنطق بهيج عثمان من مدرسة الحرج التابعة لجمعيّة المقاصد الخيريّة الإسلاميّة إلى الكليّة الشرعيّة، المدرسة الدينيّة الإسلاميّة الأولى من نوعها في بيروت. يقول الدكتور عمر فرّوخ تحت عنوان (حياة رجل): في العام الدراسي 1932- 1933 اتى إليّ الشيخ محمد توفيق خالد مفتي الجمهورية اللبنانيّة في ثانوية الحرج ونطق لي إنه يريد إنشاء مدرسة للعلوم الدينيّة تعد الطلاب لدراسة الفقه،لأن المسلمين في لبنان في حاجة إلى نفر من المشايخ الفقهاء. في ذلك الحين اتفق أنه كان في الصف الثالث الإبتدائي من ثانوية الحرج من نفر التلاميذ النجباء.... وقفت قليلاً أتساءل: أي الخيارين أكثر نفعاً للأمة: إخلاء هذا الصف من تلاميذه النجباء في سبيل إعدادهم ليكونوا مشايخ فقهاء، أوالإبقاء عليهم حيث هم! لقد وجدت حتى الشيوخ الفقهاء أكثر نفعاً. فقلت للشيخ محمد توفيق خالد: قارب التلاميذ الموجودين في الصف الثالث الإبتدائي. وكان بهيج عثمان في جملة التلاميذ النجباء الذين سقط عليهم الاختيار ليكونوا طليعة المشايخ الفقهاء، شكّل هؤلاء التلاميذ الرعيل الأول من طلاب الكلية الشرعيّة، التي تحولت فيما بعد إلى كلية فاروق الأول الشرعيّة ثم إلى ما يسمى الآن أزهر لبنان. في هذه الكليّة، وفي سنة 1934 م بالضبط بدأت رحلة بهيج عثمان مع الدراسة الدينيّة وعلى رأسه العمامة وعلى عاتقه الجبة الزي الديني التقليدي. وكان أساتذته في هذه الفترة أعيان الفهماء الذين انتقلوا جميعهم إلى رحمة ربهم وهم:

  1. الشيخ محمد توفيق خالد: رئيس الكليّة
  2. الأستاذ محم عمر منيمنة: أستاذ التفسير
  3. الشيخ عبد الرحمن سلام: أستاذ التوحيد
  4. الشيخ أحمد عمر المحمصاني : أستاذ الشيرة النبويّة
  5. الشيخان حسن المكي وتوفيق البابا: للقرآن الكريم، تلاوة وحفظاً
  6. الشيخ رائد عليوان: أستاذ قواعد اللغة العربيّة
  7. الأستاذ منير غندور: أستاذ اللغة الفرنسيًة
  8. الشيخ رائف الفاخوري: أستاذ الأدب العربي
  9. الشيخ صلاح الدين الزعيم: الناظر والمربًي

وجميع هؤلاء الأساتذة من بيروت ما عدا الشيخ صلاح الدين الزعيم فهومن دمشق.

وكانت غاية الكلية كما حددها الشيخ رائف الفاخوري:

أن تنشىء النمط الأوسط من رجال الدين المسلمين الذين يجمعون بين علوم الدين وعلوم الدنيا، بالإضافة إلى تخريج نفر من المشايخ الفقهاء كما كانت غاية مؤسسها الشيخ محمد توفيق خالد رحمه الله. السنوات الأربع التي أمضاها بهيج عثمان في الكليّة الشرعيّة وهويتعثر بثوبه الديني الفضفاض أصبحت في ذمة الماضي عندما إنتقل إلى مصر حيث إختار متابعة الدراسة في كلية الآداب في قسم اللغة العربيّة، في جامعة فؤاد الأول التي أصبح اسمها بعد الثورة 23 يوليوالناصريّة سنة 1952 م (جامعة القاهرة).

وبدلاً من تخرّجه من الجامع الأزهر كما كان مفروضاً فإنه تخرّج من جامعة فؤاد الأول حاملاً إجازة كلية االآداب بامتياز من هذه الجامعة عام 1942م، عاد إلى بيروت لينخرط في جوها الأدبي مبتدئاً رحلته في عالم الوظيفة الحكوميّة مذيعاً في الإذاعة اللبنانيّة وكان اسمها في ذلك الحين راديوالشرق، هجر العمل في هذه الإذاعة بعد حوالي سنة من دخولها في آب 1943م لأن السلطة الفرنسيّة التي كانت تشرف عليها اعتقلت أعضاء الحكومة اللبنانيّة وعلى رأسهم الزعيم رياض بك الصلح ورئيس الجمهورية الشيخ بشارة الخوري.

وإنسجاماً مع تطلعاته الأدبيّة عمل في الصحافة الأدبيّة سكرتيراً لتحرير مجلة الأديب التي أنشأها الأستاذ ألبير أديب. وفي سنة 1945م آثر الاستقلال في ميدان النشاط الأدبي فأنشأ مع فريق من إخوانه دار للنشر باسم (دار الفهم للملايين) ومجلة أدبيّة بأسم (الآداب). وفي خلال تمرسه بالعمل في دار النشر وفي المجلة لبى رغبة مفتي الجمهوريّة اللبنانيّة الشيخ محمد توفيق خالد بالتدريس في الكليّة الشرعيّة بالإضافة إلى الكليًة الداوديّة في منطقة عبيه، وفي كلية الآداب بالجامعة اللبنانيّة حيث كان يفهم في هذه المعاهد المذكورة مادة الأدب العربي.

وفي سنة 1952م أصدرت الحكومة اللبنانيّة مرسوماً بتعيين بهيج عثمان رئيساً لمصلحة الدوائر الإداريّة بوزارة التربية الوطنيّة إلا أنه إعتذر عن قبول هذا المنصب الحكومي مؤثراً الإستمرار في ممارسة عمله الحرّ في التدريس والإهتمام بمجلة الآداب إلى جانب عمله مع زميله ورفيق دربه الأستاذ منير البعلبكي في مؤسسة دار الفهم للملايين. وعندما قرأ في الصحف نبأ تعيينه رئيساً لمصلحة الدوائر الإداريّة في وزارة التربية الوطنيّة بادر على الفور إلى إعلان رفضه لهذه الوظيفة بالبيان التالي:

(قرأت في التشكيلات الحكوميّة الجديدة نبأ تعييني رئيساً لمصلحة الدوائر الإداريّة في وزارة التربية الوطنيّة وإني إذ أشكر صديقي الدكتور سليم حيدر، وزير التربيّة الوطنيّة، والدكتور نجيب صدقة، مدير الوزارة، على حسن ظنهما فيّ، أعتذر عن قبول أي منصب من المناصب الحكوميّة التي أراني زاهداً فيها جميع الزهد. وخاصة إذا كان هذا المنصب يختلف عن نوع اختصاصي وطبيعة عملي. وعلى جميع حال إذ أواصل العمل في دار الفهم للملايين أؤدي رسالة لعلها لا تقل خطراً وأثراً عن وزارة التربية الوطنيّة فيما تنشر الدار من خط ومجلات. وما يلتقي على صفحاتها من قراء ينهلون أطيب ألوان الفهم وأنضجها ثمراً وأصدقها توجيهاً). وقد لبت الحكومة رغبته وصرفت النظر عن تكليفه بالوظيفة التي اعتذر عن قبولها.

ولقد رأى فيما بعد حتى يتخلى نهائيّاً عن ممارسة التدريس سواء في الكليّة الشرعيّة في بيروت أوالمدرسة الداوديّة في عبيه أوكليّة الأداب في الجامعة اللبنانيّة لينصرف كلياً إلى إدارة دار الفهم للملايين والتعاون مع بعض نظرائه من الفهماء والأدباء في إصدار بعض المؤلفات المدرسيّة، وقد كان له عدة مؤلفات في هذا الميدان أصدرها بالإشتراك مع الأستاذ منير البعلبكي والأستاذ شفيق جحا، ومن أبرز هذه المؤلفات كتاب (المصور في التاريخ) في أحد عشر جزءاً. وهذا الكتاب إعتمدته وزارة التربيّة الوطنيّة ليدّرس بصورة رسميّة في المدارس الحكوميّة. لقد كان لبهيج عثمان التفاتة ملحّة نحوالعمل الاجتماعي من خلال نزعته الإنسانيًة النابعة من ضميره الديني. وكانت مؤسسات الرعايا الاجتماعيًة التي أسسًها ورأسها رجل البر والخير الدكتور محمد خالد الميدان الذي اطمأن إلى العمل فيه ولم يهجر هذا الميدان إلى حتى هجر الحياة الدنيا. وإن من يقلب نظره في سجل الأعمال الإنسانيّة والخيريّة لهذه المؤسسة فهويجد فيها البصمات الدالة على جهود بهيج عثمان في مسيرتها وهي تؤدي رسالتها البارّة في خدمة الذين هم في حاجة إلى هذه الخدمة.

وفي ذلك يقول زميله ورفيق دربه منير البعلبكي وهويبكيه بعد وفاته....(..... وفي مجال الخدمة العامة، سلخت نحواً من أربعين عاماً في خدمة الإنسان في لبنان، فكفكفت دموع اليتامى وبلسمت جراح المنكوبين، وخففت آلام المعذبين في الأرض. وإن في جميع ركن من أركان مؤسسة الخدمات الاجتماعيّة، وكل زاوية من زواياها أثراً يشير عليك وإنطباعة تذكّرك بك). أما الكتاب، فإن بهيج عثمان كان من أفضل المبتكرين لسدانته ورعايته في ميدان طبعه ونشره وترويجه. وعلى الرغم من حتى هذا الميدان كان يكتظ باللاهين وراء الثراء المادي الذين وجدوا فيه ما يحرض له لعاب طمعهم إلى المال بصرف النظر عن القواسم المشهجرة بين موضوع الكتاب نفسه وبين رسالة هذا الموضوع وفائدته للصالح العام، خلافاً لبهيج عثمان الذي كان عمله في مؤسسة دار الفهم للملايين تجسيداً صادقاً لإيمانه الوطيد بأن هذه المؤسسة ليست دكاناً تجارية تهدف إلى إنماء ثروة أصحابها وإنما هي وسيلة شريفة لخدمة مثلثة الجوانح والجوانب، خدمة المؤلف ةخدمة القارىء الذي ترتفع به ثقافته إلى مستوى الفهم المحصنة بالأخلاق الفاضلة والفكر الناضج.

هذا هوالبزرخ الذي عاشه بهيج عثمان منذ حتى أسس مع رفيق عمره ودربه الأستاذ منير البعلبكي دار الفهم للملايين سنة 1945 م حيث سلخ أربعين عاماً في خدمة الكتاب العربي، فوفق بجهده الذي لا يتعب إلى حتى يجعل من هذه الدار صرحاً شامخاً من صروح الفهم والثقافة، وحقق ما كان يحلم به من صيرورة الكتاب العربي عالمي السمّات مشعّاً كمثل ضياء الشمس، في جميع صقع من أصقاع الدنيا.

وهنا لا بد للحق والإنصاف من قولة نسجلها لمؤسسة دار الفهم للملايين في أنها غدت من معالم بيروت في الوثبة العصريّة لهذه المدينة الدهريّة، ذلك حتى هذه المؤسسة بمستوى التأليف الذي بلغت إليه خطها وبالإنتشار الذي لقيته تلك الخط في العالم العربي، باتت من أكبر دور النشر العربيّة وفي طليعتها أثراً، وإن هذه المكانة التي ارتفعت إليها دار الفهم للملايين كانت راجعة أولاً بالذات، إلى الإحترام المتبادل بين صاحبيها بهيج عثمان ومنير البعلبكي وبين الأدباء والفهماء الذي يعهدون إلى مؤسستهما بما يؤلفونه من خط وهم مطمئنون إلى حسن الرعاية لها وأمانة التعاون معهم. كان بهيج عثمان في مؤسسة دار الفهم للملايين ناقداً للكتاب أكثر مما كان متاجراً به، ولذلك كان يتلهف لنشر الكتاب الجيد، ويحنق على الرقيب الحكومي الذي يحرم منه القارىء، هكذا وصفه زميله في الدراسة ورفيقه في دروب الفكر والفهم والأدب الدكتور حسن قاسي رحمه الله.

إن الشعلة الوضاءة بالعطاء الخيّر والجهد الدؤوب من أجل الحفاظ على مستوى الكتاب في لبنان والبلاد العربيّة انطفأت على حين فجأة نتيجة نوبة قلبيّة حادة أصابت بهيج عثمان وهوفي جزيرة قبرص حيث ادركه رب المنون في 15 آب سنة 1985م وتم دفنه في تراب البلد الذي بادله الحب والوفاء بيروت مشيعّاً في مأتم مهيب شارك فيه جمهور كبير من أهل الفهم والأدب والهيئتات الاجتماعيّة الذين افتقدوا فيه واحداً من أبرز رموز النهضة الثقافيّة في هذا البلد.


محاضرة ألقاها د. روحي بعلبكي في كلية الدراسات الإسلامية، بيــروتسبعة شباط 2008 بدعوة من المعهد العالي للدراسات الإسلامية بجامعة المقاصد في بيروت

رجل كالبرق: يخطف الأبصار تلألؤا بجوهر ساطع، ويشيع الرهبة في نفوس السامعين بصراحة القول الجامع، ويتغلغل في البواطن بثاقبيته حتى ليصل إلى بعدها الرابع، ويوحي بتدفق الخيرات وانهمار البشائر مدرارة، وينسحب مسرعا قبل حتى ينقلب الهمس ثرثرة والبتّ تكرارا.

قوة منطبعة في سلوك، عرَّفَته كيف من الممكن أن يمحوالأنا الفارغة: ثقة في القول، واخلاص في العمل، ووضوح في الهدف- تحديدًا له، وتصويبًا عليه، وبلوغًا اياه: ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن، إذا ربك هوأفهم بمن ضل عن سبيله، وهوأفهم بالمهتدين{ (النحل:125).

بهيج عثمان رمز للمسلم القوي الواضح، العازم الثبت، المطمئن السمح، الكيّس الودود، يجاريك ما دمت في حكمه على صواب، ويميل عنك إذا حدت إلى خطأ، لا يُسخط الله في رضى الناس بل يُرضيه تعالى في سخطهم. من إذا جادلته أفحمك، وإذا عاملته أكرمك. إذا قويت عليه طلع، وان قوي عليك اتّضع. أبيّ الشكيمة، مستحكم العزيمة، على نجدة ونخوة. شديد الغيرة، ثوار الحمية، على شهامة تنزوإلى سَوْرة همة.

إنه اليقيني الجاهد، الإكسيري النافح، بلا تردد، المنجمر العود من طينة الجود، المنتصر على المآسي كصانع للظروف أكثر مما هومصنوع منها، المنعش للمحيط حينما يؤج الحرج، آويًا إلى ركن شديد باستقامة مطلقة المروءة، وجرأة لا تنتهك الحرمات، وعفّة رضوانية إشراقية تجافي مصيدة الدنيا، وتمجّ الاعوجاج، وتسامي مسيرتها بسلامة القلب، وبإنجازات واقعية راسخة، وبالتزام بمحامد القيم وآلاء الخير.

عهدته منذ حتى عهدت الحياة، شريكًا لوالدي منير وصديقا لآل البعـلـبكي. وأسرني وأنا ابن سنوات معدودة أتدرج ممسكًا يد والدي، إلى دار الفهم للملايين، لأمضي فيها أطول الساعات منكبّا على قراءة جميع حرف من جميع كتاب صادر عنها أوموزع من خلالها. ولازمته مراهقا ويافعا أهتم بالكتاب فأؤلف وأترجم وأنشر. ولا أنسى ذات يوم كان على أهبة السفر إذ نطق لي: "أرجوك حتى تجلس مكاني خلف طاولتي وتدير المؤسسة في غيابي، فأنت أهل لذلك!".

تابعته وتأسّيت به، وهويُسرّ لي من لواعجه الكثير، ويُسَرَّ بوجودي جنبه وجنب والدي سرورًا سمّاه سرور استقبال الدم الجديد الواعد، حتى صرت أرى فيه مرآة نفسي وصدى خواطري، وحتى غدا الأب الصديق، بل الأخ القريب، والناصح الشارح لكل ما تختزنه الصناعة الثقافية من أغوار، فوجدتني ازاءه في وضع ظاهري التناقض بمفارقته، كلّي التساوق بموافقته، إذ كنت في الوقت نفسه الموجَّه والمستشار، والمفوّض ومخبأ الأسرار.

بهيج عثمان نخلة باسقة نشرت الحدثة الطيبة، أصلها ثابت في عمق بيروت، وفرعها في سماء الثقافة العربية عبر الآلاف من عناوين الخط المنشورة فهمًا للملايين. كان الأستاذ بهيج عثمان عنوانًا للنجاح في جميع مضمار ولجه: الصحافة الأدبية، تدريس الأدب العربي، النشر، رئاسة نقابة الناشرين، نيابة رئاسة شركة النشر التربوي، تأليف الخط وبخاصة المدرسية منها كالمصور في تاريخ لبنان، عضوية جمعية أصدقاء الكتاب، إدارة جمعية خدمة القرآن الكريم، ورئاسة مؤسسات د. محمد خالد الخيرية الاجتماعية، وسواها من منتديات الرعاية والعمل الاجتماعي التطوعي.

غير حتى غرسته المتنامية هي دار الفهم للملايين، غرسها وتعهدها بيديه ويدي رفيق عمره وشريك كدحه والدي الأستاذ منير البعلـبـكي، رحمهما الله، منذ عام 1945، فشكّلا أروع ثنائي نشري عربي مثـقف يضرب بهما المثل في الأمانة العملية، والتعاطي العادل، والاحترام المخلص للقارئ والمؤلف والعاملين في المهنة، وتعميم الفهم وتعزيز النهضة الثقافية العربية، يوم لم يكن النشر معروفًا، ولم تكن حدثة "دار" بمعنى "ناشر" مألوفة. وقتذاك أكبّ الأستاذان المكافحان على العمل، يخطان، يطبعان، يصحّحان، يوزّعان، يبيعان باليد، ويقبضان باليد.. ثم موظف، فاثنان، فعشرة، فمئة.. وإذا بالشركة تصبح مؤسسة كبرى تمتلك مؤسسات تابعة من مطابع، ودور متخصصة، وشركات، وممحرر، ومراكز.. والتواضع على ازدياد، والشغف على اندفاع، والبذل لا ينضب.

أجيال نشأت على خطها، وطلاب تخرجوا بمعارفها، ولا يزالون، وهي ما برحت تتطور وتزدهر بإدارة ثنائي متناغم لعل تآلفه يتفوق على التآلف الأول لأنه نابع من تحويل الصدفة إلى عمل تلاق متطابق، دونما قرار إرادي باختيار سابق. وقد فازت دار الفهم منذ شهرين بجائزة أفضل دار نشر عربية وتُوّجت في حفل كبير أقامه حاكم الشارقة الشيخ د. سلطان القاسمي، تقديرًا لدورها الأساسي في نهضة جميع بيت عربي وتكوين الشخصية المعهدية لكل من يقرأ العربية برصانة نشرية تتسم بالتفوق، والريادة، والاتقان، والصدق، والموضوعية، على أعلى المستويات.

نجح المؤسسان أبوروحي وأبوطارف، وهم صاحبا الفضل الأول، بإرساء منارة وتأصيلها بديناميكيّة الرواد، فإذا بدار الفهم للملايين قلعة طليعية حدثا خطت خطوة باتت قاعدة، وحدثا أقدمت على عمل هجر بصمة، وحدثا أصدرت إنتاجًا أضحى معلَما يهتدى به سواء بعمومية التداول أم باستباحته من المزورين قرصنة ونسخا وتقليدا. وككل منارة قدوة، ينتظر منها الباقون حركة لتصبح لديهم توجها، حتى لكأنّ جميع أبناء المهنة يرصدون جميع إشارة تنبئ باتجاه لديها لكي ينحوا نحوها في السياسة والنهج والأسلوب. لكن التميز والأصالة يتعذر تقليدهما. والفذ بهيج عثمان كان رائدهما. فهوبحق صاحب مدرسة في النشر والإدارة، تُوائم حسن الاشراف ببراعة التطوير، والمثابرة الجادة بنزاهة الصنعة، وشمولية البرمجة بنبل التعامل.

لازمته الطرافة في جميع أموره، بعد حتى اختارها صنوًا، حتى في تسمية طارف وسيما (للمرة الأولى في ابتكار الأسماء)، ومازجها بمزاح لماح نابع من روح نكتة، وطلاوة حديث، ودماثة خلق، فكان في جميع مجلس الساحر الساخر، اللاذع الباهر، النادر الثائر، السالب للعقول، المحرك للمشاعر. وإلى نادىبته، كان اسم بهيج عثمان مرادفًا للجد والهيبة والرصانة، والمثابرة الدؤوب بلا لغوب، أَحر به شاق طريق، ككشاف أومحارب، بل كمخترع في مختبره، يبرع في اكتشاف تلوالآخر، يجترحه على ضوء منهجية متطورة، منصّتها الإتقان وموثوبتها الحداثة، مبّرزا في جميع مآثره، خلاّقا ابداعيا يصوغ الابتكار بروح الانقلاب حتى على الابتكار، ويطور الافكار بنفسية المتمرد على الافكار. فكان بتجديده المكرّس لمعيار، لا يضارع في عنقدة الجوهر وشق الغمار.

انظر إليه: مبادر سبّاق، حدثته عهد ووقفته مصداق، يشرقط الخاطرة فتخترق الآفاق، ويطارد الزمن فيكسب السباق، لرأيت إذ رنيت عالما يجمع العملانية إلى برور الميثاق، برشاقة الجائز إلى مستقبل خفاق، يحركه من داخل مفاعل وقّاد ذونشاط ألاق، ينمّ عن قديد محنّك مارد عملاق. عُرف بأنه صاحب رأي ثاقب، وقرار حاسم، وموقف جريء، بالارتكاز إلى تقنية مشيقة، لحكها صوابية، ولفرجارها شفافية. فقبل الرمي يراش السهم. إداري مميز، عدّته انضباط مقونن في جميع مسلك، وقسطاس صدقية يعطي جميع ذي حق حقه، ومتابعة تفصيلية في اطار تنظيم مبرمج وتخطيط ممنهج.

حلاّل مشاكل بتجرد وحصافة، ومفكك أزمات بحرفية ورهافة، ومقنع بمنطق ذاتي الحجة والبيان. عملي إلى أقصى الحدود مع التزام بالمبدأ، ومقدام جسور دون اخلال بالاستقامة. رضي الأخلاق، سَبْط الحواشي، مسارع إلى غض الطرف، عفوّ عند المقدرة. ولا أنسى حين شكا لي موقفا مستغربًا وتصرفا سيئا من أحد المقربين، خلال اتصالنا الهاتفي اليومي قبيل وفاته في قبرص، إذ ما إذا محضته الرأي ولوإلماعًا بالقيام بالرد المناسب حتى بادرني قائلا: "الآن..يا دكتور..ومع أحد أقرب الناس.. لم أعملها في حياتي.. واليوم، وبعد هذا العمر، ما عادت تحرز!".

مكللاً كان بحس عال بالمسؤولية النابعة من وجدان، فلا يجبن ولا ينزوي، حتى إذا ما استعرت المعارك واحتدم التقاصف المدفعي وانبترت شرايين التواصل، عمد إلى إيصال راتب جميع موظف إليه بيده نقدًا في أي منطقة كان شهرًا بعد شهر. وهل هذا بمستغرب من الذي لم يردّ طلبا لسائل، ولم يخيب صاحب حاجة ملهوف، باستثناء بعض السطحيين من "المؤلفين" السمجين الذين يتوهمون حتى مخطوطتهم البلهاء ستمزق الحجب وتلهب الشهب؟!. هكذا بلور نصاعة الأداء، انطلاقًا من خشية الله، وعدم العمل إلا بما يرضيه تعالى عند جميع خطوة. ولذا، كان يتحاشى التذمر والمتذمرين، والنقّ والنقاّقين، حتى كانت عبارته الشهيرة: " إذا زاد التشدد فقدت البركة".

وتطبيقًا لها، وتقديرًا لنعم الله حق قدرها، داوم على الحمد والشكر قولاً وعملاً، فسارع إلى مشاركة الغير بالإكثار من الهدايا والتوزيعات بين مكافأة وهبة وزكاة ونحر وخدمة، مُتَوخيًا تعميق روح الجماعة وتحفيز الهمم. أينما ثـقفته، ألفيته شمولي المكرمات، نبيل المبرات، رافضًا حتى يغذي كبرياء الإنسان فيه بنهم السلطة والاستحواذ، مع أنه كان الأول والأشد فاعلية في محيطه، والموجّه لكل من حوله، والقيادي المؤثر غير مُدَافَع.

الأستاذ بهيج نجم متقد الوهيج، محاط بهالةٍ عَلَم من زكانة الفطن. أينما ولج بهر، وكيفما تحرك غمر. حضوره حضور الحرية، وحماسته حماسة التطبيق. جملته مختصرة مكثفة، يقيسها بالحرف، وينفذها بالحرف. حريص على احقاق الحق ولوعلى حسابه. كثيرون حاولوا تقمص شخصيته ومحاكاة تصرفاته، منهم عاملون معه ومنهم زملاء ناشرون وأصدقاء، لكن معظمهم ظهر مزيفا وبخاصة من افترض صلابته قساوة ومن توهم استقامته جمودا.

كره المقلدين من غير ابتداع، والمُتحذلقين المدّعين تذوق الأدب، والمواربين الممثلين دور المخلصين. ونفر من المملّين، ولا سيما الثـقيلي الدم الذين يعتبرون أنفسهم خفيفي الظل. وكان يغضبه الكذب والدجل، والمماطلة والنفاق. وقد عانى من الخونة الطاعنين في الظهر، ومن ممذوقي الود أصحاب الوجهين واللسانين، ومن المتسلّقين عنوةً على خبرته وإشفافه وتذرّيه، ومن الوصوليين النفعيين الذين أساؤوا إليه بعد حتى كانوا يتسكعون على بابه ويتمسحون بأعتابه. إلا حتى ألد أعدائه هم رقباء المطبوعات ومزوّروالابداعات.

هذا العصامي الذي عايش الفقر في مطلع فتوته من غير خيار، حقّق الغنى بالحلال من عرق الكد وجنى الثمار، فانخرط فورًا في مشاريع البر والاعمار، وغادر الدنيا يوم شرست حرب وطنه وعم الدمار. توفي كما تمنى خفيفًا حسن الختام، بعد حتى سلخ العمر في سباق دائم مع الزمن، يقتطع الساعات ويواثب الأيام. كان غيابه الصاعق شديد الوطأة، حتى حتى والدي تمنى لوكان سبقه. لكنه رحل مطمئنًّا إلى ما بعده في المؤسسة والعائلة. وأذكر أني لم أره في يوم أسعد منه يوم الاحتفال بزفاف ابنه الحبيب طارف حيث بكى وبكيت معه غبطة وتأثرًا، لكننا أخفينا دموعنا عن الحاضرين.

تعلّمت منه الكثير، لعل أهمه:

  • إعلاء السقوف وخفض الأبواب.
  • دفق العطاء بدون انتظار الجواب.
  • صدق الوفاء يضمنه وضوح حاسم في الرأي بدلاً من تقلقل يفضي إلى تقلب أوانقلاب.
  • ثقة مشروطة خير من تردد يتلوه ارتياب.
  • انسحاب لائق يغني عن حسرة وعتاب.
  • اقتضاب مفيد يسحر الألباب خير من إطالة وإطناب.
  • فرادة تكيفية مع تجدد توليدي كفالتان ضد تقلبات الدهر والاستلاب.
  • قولة الحق في وجه المؤاخذ خير من مداورة يعقبها اغتياب.
  • البطر وجحود النعمة أدنى إلى الكفر منهما إلى أي ارتكاب.
  • احمل رأسك تحملا لا كبرياء، واخفضه تحببا وتقربا مهما كانت الظروف والأسباب.
  • أعظم تحد وانجاز للإنسان حتى يعيش سماويا في نطاق التراب.
  • أقرب الأعمال إلى الله بر دائم، وحسن خلق، ونشر كتاب.


الهامش

تاريخ النشر: 2020-06-04 11:38:09
التصنيفات: مواليد 1921, وفيات 1985, أشخاص من بيروت, خريجو جامعة القاهرة, مذيعون لبنانيون, كتاب لبنانيون, أدباء لبنانيون, مؤسسو دور نشر, رجال أعمال لبنانيون

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

تقرير استخباراتي: الصين تجند 154 عالما من مختبر نووي أميركي

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-09-24 15:17:29
مستوى الصحة: 87% الأهمية: 87%

رئيس وزراء ساكسونيا: ألمانيا لا تستطيع التخلي عن الغاز الروسي

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-09-24 15:16:38
مستوى الصحة: 92% الأهمية: 87%

البرهان يؤكد لغوتيريش انسحاب الجيش من العملية السياسية

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-09-24 15:17:06
مستوى الصحة: 90% الأهمية: 85%

بينها الخبز الأبيض.. 5 أطعمة يمكن أن تسبب جلطات دموية خطيرة

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-09-24 15:18:01
مستوى الصحة: 77% الأهمية: 87%

خطف واغتصاب ملكة جمال مصرية.. وإحالة المتهم للجنايات

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-09-24 15:17:21
مستوى الصحة: 94% الأهمية: 99%

مراقب من ألمانيا يقدر عاليا تنظيم الاستفتاء في ميليتوبول

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-09-24 15:16:42
مستوى الصحة: 81% الأهمية: 89%

الأمن الإيراني يقمع مسيرة طلابية احتجاجية في جامعة طهران

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-09-24 15:17:37
مستوى الصحة: 89% الأهمية: 89%

إيرادات فنادق أبوظبي ترتفع 26% إلى 3 مليارات درهم في 8 أشهر

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-09-24 15:17:54
مستوى الصحة: 83% الأهمية: 90%

شاهد.. قائد سيارة مصري متهور طاردته الشرطة

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-09-24 15:17:23
مستوى الصحة: 75% الأهمية: 87%

مدافع يسجل هدفا عالميا بتسديدة مذهلة (فيديو)

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-09-24 15:16:48
مستوى الصحة: 88% الأهمية: 98%

الخارجية الايرانية تتوعد أوكرانيا برد مناسب

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-09-24 15:16:41
مستوى الصحة: 93% الأهمية: 90%

الفلبين تنوي استيراد الوقود والأسمدة من روسيا

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-09-24 15:16:38
مستوى الصحة: 91% الأهمية: 92%

تركيا.. توقيف 10 قراصنة لتورطهم باحتيال رقمي عبر رسائل مزيفة

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-09-24 15:17:52
مستوى الصحة: 94% الأهمية: 90%

مراقبو استفتاءات دونباس الدوليون: الاقتراع سيتم حتما

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-09-24 15:16:39
مستوى الصحة: 93% الأهمية: 88%

مقتل اثنين من المدنيين في قصف أوكراني على دونيتسك

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-09-24 15:16:45
مستوى الصحة: 80% الأهمية: 97%

ميزينتسيف يخلف  بولغاكوف في منصب نائب وزير الدفاع الروسي

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-09-24 15:16:44
مستوى الصحة: 75% الأهمية: 95%

الجيش اللبناني يعلن توقيف مهرب القارب الذي غرق قبالة طرطوس

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-09-24 15:16:44
مستوى الصحة: 75% الأهمية: 98%

تحميل تطبيق المنصة العربية