المقتطف

مجلة "المقتطف" من أبرز الظواهر الثقافية الأخيرة في بيروت، فقد أنشأها الدكتور يعقوب صروف مع رفيقه الدكتور فارس نمر في غرة حزيران (يونيو) 1876، وهما بعد في المدرسة الكلية. وهي مجلة شهرية فهمية صناعية زراعية، كانت تضم أولا على 24 صفحة حتى بلغ عدد صفحاتها 124 بحرف دقيق. فكانت "شيخ المجلات العربية" لأنها بلغت عمرا طويلا لم يبلغه سواها على الاطلاق. وقد أصاب الطرزي كبد الحقيقة حين نطق: ان المقتطف هوالعمل الاعظم والتأليف الأكبر الذي وقف له العمر جميع من صروف ونمر". وقد انتقلت إلى القاهرة. وتوقفت عن الصدور في عام 1952.

ونحن نعارض رأي المستشرق السوفيتي كوتولوف الذي جزم بأن صروف ونمر "كانا من ذوي الأفكار والميول الأوربية" ، وأنهما كانا "ينتميان اجتماعيا الى طبقة الكومبرادور" قبل اصدار مجلة "المقتطف".

فقد ولد فارس نمر في حاصبيا في أسرة من الروم الأرثوذكس التي تممضىت بالبروتستانتية. كان والده قد اغتال ابان المذابع المروعة في لبنان والمعروفة اختصارا ب"سنة الستين" فحملته أمه مع أخيه وأخته إلى بيروت. وفي أواخر سنة 1863 مضىت به والدته الى القدس، وأدخل هناك المدرسة الانكليزية حيث تفهم الانكليزية والألمانية ومبادئ التاريخ والأدب والحساب. ظهرت عليه علامات النجابة فأوفدوه الى مدرسة المرسلين الأمريكان في عبية وفياه تلقى علوم اللغة والأدب. ولما عاد الى بيروت ولج "المدرسة الكلية السورية الإنجيلية" واضطر الى العمل طلبا للرزق في مدرسة البنات الروسية العليا. وصرف ما توفر له من وقت العمل في "النشرة الأسبوعية" وفي عام 1874 نال البكالوريا وبقي مفهما في المدرسة الكلية لفهمي الجبر والهندسة . ألف وترجم – برفقة الدكتور صروف غالبا – الكثير من الخط الفهمية.

أما الدكتور يعقوب صروف فهومن مواليد الحدث، نال سنة 1870 شهادة بكالوريوس العلوم من "المدرسة الكلية السورية". عمل مدرسا في المدارس التبشيرية بصيدا وطرابلس وبعدها في الكلية السورية، حيث برز في الطب والكيمياء وغيرها من العلوم التي لم تكن تدرس قبلا.

والشاعر ابراهيم اليازجي أيضا من "الكومبرادور"، شكل هووأخوه خليل اليازجي، النواة الصالحة التي قامت عليها مجلة "المقتطف". وقد صدق بهما قول جرجي زيدان "لقد وضع الأخوان العربية من الأم، وتنفساها من الأب نصايف اليازجي". وقف الأخوان حياتهما على خدمة اللغة العربية وسائر العلوم التقنية والعقلية ونهضتها الأدبية الثقافية الحديثة، فضلا عن نشاطهما السياسي الوطني البارز. كان الشاعر ابراهيم اليازجي العلامة المتبحر في اللغات الأجنبية والسامية وفهم المقارنة يسقط الموضوعات اللغوية البليغة. فكان موئل اللغة الحصين وامام الانشاء في عصره. شارك في ترجمة الأسفار المقدسة (عن اليسوعيين) وهي أصح سائر الترجمات العربية تعبير وأضبط هجريبا. كان موسوعيا في معارفه وعلومه وكان يلذه منها الفلك والفلسفة الطبيعية، صاحب الكثير من المخترعات، نشر مؤلفات عدة في الكيمياء والطب والفلك وغيرها من العلوم. وانتخب عضوا في الكثير من الجمعيات الفلكية الأوربية، ونال الكثير من الأوسمة والميداليات .

كان خليل اليازجي من أولئك المثقفين البارزين المختصين بالرياضيات والعلوم الطبيعية في الكلية السورية الإنجيلية، وقف نفسه على خدمة الأدب، ولكنه استغنى عن الشعر التقليدي وأكثر من نظم الروايات الشعرية والتواريخ، بيد أنه كان أحيانا يضحي بالحدث التاريخي في سبيل فكرة أساسية سامية كالتماثل والتكافؤ بين العرب مسلمين ونصارى، وابراز الخطوط العامة لتواعد الأخلاق عند العرب، بصرف النظر عن الفوارق الدينية والاختلافات الممضىية. ويميل جرجي زيدان الى الاعتقاد بأن رواية "المروءة والوفاء" للشيخ خليل اليازجي هي الرواية الشعرية الوحيدة في اللغة العربية، كان قد فرغ منها سنة 1876، ومثلت انشاء سنة 1878 في بيروت، وفي هذا الصدد يقول: "وتأليفها خطوة مهمة في التمثيل العربي لأنها على مثال ما يعمله كبار الكتاب في أوربا من تأليف الروايات الشعرية التمثيلية".

لاقت مجلة "المقتطف" ترحيبا كبيرا، ونالت شهرة طبقت الآفاق عصرئذ. وفضلا عن الموضوعات التي يخطها صاحباها العلامتان، فان المجلة كانت مشحونة بفصول كثيرة لأفضال حملة الأقلام في الشرق من جهابذة اللغة والشعر والتاريخ والصحافة والأدباء والفهماء والأطباء والصيادلة. كما كانت المقتطف ميدانا تتبارى فيه أقلام الكتاب من جميع البلدان العربية. فكانت حقا من أعظم وأهم المشاريع الثقافية في مضمار التنوير العربي وكانت مجلة من المستوى الراقي الرفيع لا يقل شأنا عن أفضل الدوريات الأوربية – على حد قول كريمسكي. ومن هنا ينبغي علينا تقدير الدور العظيم، الذي اضطلعت به المقتطف في مجال الترويج للنظريات والأفكار الفهمية التقدمية، وفي طليعتها ممضى داروين في النشوء والارتقاء والبرهنة على أنه لا يتناقض مع الأديان والخط المقدسة. وكانت تحارب الفكر الرجعي والرجعية التي حاولت عرقلة تطور وتقدم الفكر الاجتماعي من مسقط الدفاع عن الفكر الفهماني – التنويري. ونخص بالذكر المناظرات الفهمية الشهيرة بينها وبين "البشير" البيروتية لسان حال اليسوعيين. ومع الأوساط المتحالفة مع نظام القهر الهجري التي لم يعد بالامكان – في ظروف الاستبداد – دعوتها للبراز في الميدان السياسي – الاجتماعي.

وأخيرا وليس آخرا يجب تقييم "المقتطف" كمركز جذب واستقطاب للقوى النهضوية المبعثرة في الظروف الجديدة، نتج عنه تحرك تنويري عظيم الشأن تجلى في انشاء المجمع الفهمي الشرقي سنة 1882 للبحث في الفهم والصناعة لما يعود بالخير على البلاد. وقد شارك في تأسيسه طائفة من فهماء الفهم وسدنته في ذلك العهد. وكان دور المقتطف في ذلك عظيما جدا لدرجة دفعت الظرزي الى الاعقتاد خطأ حتى يعقوب صروف تولى رئاسة المجمع الفهمي الشرقي. بينما تولاها في الواقع الدكتور فانديك الكبير، والدكتور يوحنا ورتبات. ولوأمعنا النظر في لائحة اعضاء المجمع تبين لنع بوضوح أنها تضم ممثلي التيارات النهضوية الثلاثة التي أطلقنا عليها اصطلاحا التيار التبشيري الفهمي "اليميني" بقيادة الدكتور يوحنا ورتبات، والتيار الوسط (البساتنة بزعامة العلامة بطرس البستاني ونسيبه سليمان البستاني). والتيار الراديكالي – اليساري (أنصار أديب اسحاق وأتباع المقتطف). نخلص من ذلك الى استنتاج مفاده حتى المناخ السياسي الذي ساد بعد توطد مواقع النظام الحميدي، وضع النهضة العربية أمام انعطاف مهم وخطير جدا، أدى الى صب المهام الفكرية – الثقافية والقومية – السياسي في قنوات خاصة.