الحضارة الهندية

عودة للموسوعة

الحضارة الهندية

هاهنا شبه جزيرة فسيحة الأراتى يبلغ إتساعها ما يقرب من مليوني ميل مربع ، فهي ثلثا الولايات المتحدة في مساحتها ، وهي أكبر من بريطانيا العظمى - صاحبة السيادة عليها - عشرين مرة ، ويسكنها ثلاثمائة وعشرون مليوناً من الأنفس ، وهوعدد أكبر من سكان أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية مجتمعتين ، أوهوخُمسُ سكان الأرض جميعاً ، وفيها إتصال عجيب في مراحل تطورها وفي مدنيتها من "موهنجو- دارو" ، سنة 2900 ق.م أوقبل ذلك ، إلى غاندي ورامان وطاغور ، ولها من العقائد الدينية ما يمثل جميع مراحل العقيدة من الوثنية البربرية إلى أدق عقيدة في وحدة الوجود وأكثرها روحانية ، ولها من الفلاسفة من عزفوا مئات الأنغام على وتر التوحيد بادئين من أسفار "اوپانيشاد" في القرن الثامن قبل الميلاد ، إلى شانكارا في القرن الثامن بعد الميلاد ، ومنها من الفهماء الذين تقدموا بالفلك منذ ثلاثة آلاف عام والذين ظفروا بجوائز "نوبل" في عصرنا هذا، ويسودها دستور ديمقراطي لا نستطيع حتى نتعقبه إلى أصوله الأولى في القرى ، كما سادها في العواصم حكام حكماء خيّرون مثل "أشوكا" و"أكبر" وأنشد لها من الشعراء من تغنى لهم بملاحم عظمى تكاد تعادل هومر في قدم العهد ، ومن يستوقف أسماع العالم اليوم ، ولها من رجال الفن من شيدوا لها المعابد الجبارة لآلهة الهندوس ، تراها منتشرة من التبت إلى سيلان ؛ ومن كامبوديا إلى جاوة ، أومَن زخرفوا القصور الرائعة بالعشرات لملوك المغول وملكاتهم- تلك هي الهند التي يفتح لنا أبوابها البحثُ الفهمي الدءوب ، كأنها قارة عقلية جديدة يفتتحها البحث الفهمي أمام العقل الغربي الذي كان بالأمس يظن حتى المدنية نتاج أوربي خالص لا يشاركها فيه بلد آخر.

الأزرق الداكن: شبه القارة الهندية، أزرق فاتح: بلدان أخرى مرتبطة ثقافياً بالهند، وبالذات بورما, تايلند, كمبوديا، لاوس, إندونسيا وماليزيا، القرمزي: مناطق ذات تأثير هندي تاريخي أوحالي هام، ومنهم أفغانستان, التبت, يون‌نان، الفلبين ومنطقة بلوچستان.

إن مسرح التاريخ مثلّث كبير تضيق جوانبه تدريجياً من ثلوج الهملايا الدائمة إلى حرارة سيلان التي لم تبرد منذ الأزل ، وفي ركن من جهة اليسار تقع فارس التي تشبه الهند الفيدية شبهاً قوياً في أهلها ولغتها وآلهتها، فإذا ما تتبعت الحدود الشمالية متجهاً نحوالشرق ، سقطت على أفغانستان ، حيث ترى "قندهار"، وهي "جاندهار" قديماً ، وفيها إلتقى النحت اليوناني الهندوسي حيناً ثم إفترقا بحيث لا يلتقيان إلى الأبد ، وإلى الشمال ترى "كابل" التي أغار منها المسلمون والمغول تلك الإغارات الدموية التي مكنتهم من الهند مدى ألف عام؛ فإذا توغلْت في حدود الهند مسيرة يوم قصير وأنت راكب من "كابل" وصلت "بشاور" التي لا تزال على العهد القديم الذي ألفناه في أهل الشمال ؛ وأعني به الميل إلى غزوالجنوب ، والْحَظْ كم تقرب الروسيا من الهند عند جبال البامير وممرات هندوكوش ، فها هنا سترى كثيراً من المشكلات السياسية يثور ؛ وإلى الطرف الشمالي من الهند مباشرة يقع إقليم "كشمير" الذي يشير إسمه نفسه على مجلد تليد ظفرت به صناعات النسيج في الهند وجنوبيها يقع البنجاب ، ومعناها (أرض الأنهار الخمسة) بمدينتيه العظيمتين "لاهور" و"شِمْلا" عاصمة الصيف عند سطح الهملايا ، ومعناها (بيت الثلج).

عطش‌گاه باكو، معبد نار طبيعية في أذربيجان يستخدمه جميع من الهندوس[] والزرادشتيون

ويجري نهر السند خلال الجزء الغربي من بنجاب ، وهونهر جبار طوله ألف ميل ، ومسماه مشتق من اللفظة الإقليمية التي معناها "نهر" (وهي سندو)، وقد حورها الفرس إلى حدثة "هندو" ثم أطلقوها على الهند الشمالية كلها في حدثتهم "هندوستان" (أي بلاد الأنهار)، ومن هذه الحدثة الفارسية "هندو" نحت الإغريق الغزاة حدثة "الهند" وهي التي بقيت لنا إلى اليوم.

وينبع من البنجاب نهرا جمنة والكنج ، اللذان يجريان في خطوٍ وتيد ، إلى الجنوب الشرقي ، أما "جمنة" فيروي العاصمة الجديدة "دلهي" ويعكس على صفحته "تاج محل" عند "أجرا" ، وأما نهر الكنج فيزداد إتساعاً حدثا سار نحو"المدينة المقدسة" بنارس ، ويطَّهر بمائه مائة ألف عابد من عُبَّاده جميع يوم ، ويخصب بمصباته الإثنى عشر إقليم البنغال والعاصمة البريطانية القديمة كلكتا ؛ فإذا ما إزددت إيغالاً في مسيرك ناحية الشرق ، ألفيت "بورما" بمعابدها المضىية في رانجون وطريقها المشرق بشمسه إلى مندلاي، وعد من مندلاي عابراً الهند إلى مطارها الشرقي في كراتشي. تجدك قد بترت في الهواء طريقاً يكاد يقرب من المسافة التي تبترها بالطائرة من نيويورك إلى لوس أنجلوس ، وإذ أنت في طائرتك عائداً ، سترى جنوبي السند إقليم راجبوتانا ، وهوالإقليم الذي شهد مدن راجبوت المعروفة ببطولتها ، والمشهورة على الدهر ، وهي "جواليور" و"شيتور" و"جابور" و"آجمر" و"أورايبور"، وإلى الجنوب والغرب ترى "مكان الرئاسة" أوإقليم بمباي ، الذي تموج مدائنه بأهليها: سورات ، أحمد أباد ، بمباي ، بونا ، وإلى الجنوب والشرق تقع دويلتان متقدمتان يحكمهما حكام وطنيون ، وهما حيدر أباد وميسور ، بعاصمتيهما الرائعتين المسماتين بهذين الإسمين ؛ وعلى الساحل الغربي تقع "جوا" ، وعلى الساحل الشرقي تقع "بندشيري" ، حيث هجر الغزاة البريطانيون للبرتغاليين وللفرنسيين - على هذا التوالي- بضعة أميال مربعة على سبيل التعويض ، وعلى إمتداد خليج البنغال تمتد "رئاسة مِدْرَاسْ" بمدينتها مِدْرَاسْ المعروفة بدقة الحكم فيها ، مركزاً لها ، وبمعابدها الفخمة في إكتئاب عند "نانجور" و"ترتشيفوبولي" و"مادورا" و"رامشفارام" تزين حدودها الجنوبية ، ثم يأتي "جسر آدم"- وهوخط من الجزائر الغائصة في الماء - يأتي بعدئذ فيشير لنا داعياً حتى نعبر عليه المضيق إلى سيلان حيث إزدهرت المدينة منذ ستة عشر قرناً ، وكل هذه الأراتى لا تزيد عن جزء صغير من الهند.

تمثال هاري‌هارا، مجمع الإلهين شيڤا وڤشنو، من مملكة مجاپاهيت في جاوة
A statue of Hindu deity Murugan at the Batu Caves in Malaysia

فلا ينبغي إذن حتى ننظر إليها نظرتنا إلى أمة واحدة مثل مصر أوبابل أوإنجلترا ، بل لابد من إعتبارها قارة بأسرها فيها من كثرة السكان وإختلاف اللغات ما في القارة الأوربية ، وتكاد تشبه القارة الأوربية كذلك في إختلاف أجوائها وآدابها وفلسفاتها وفنونها ؛ فالجزء الشمالي منها يتعرض للرياح الباردة التي تهب عليه من الهملايا ، كما يتعرض للضباب الذي يتكون حين تلتقي هذه الرياح الباردة بشمس الجنوب ؛ وفي البنجاب تكونت بعمل الأنهار سهول خصيبة عظيمة لا يدانيها في خصوبتها بلد آخر ، لكنك إذا ما توجهت جنوبي وديان تلك الأنهار ، وجدت الشمس تحكم حكم المستبد الذي لا يقف إستبداده شيء ، ولهذا جفت السهول وتعرّت ، وتحتاج في زراعتها لكي تثمر ، لا إلى مجرد الفلاحة ، بل بحاجة من الجهود الشاقة إلى ما يكاد يدنومن العبودية المميتة ولذلك لا يقيم الإنجليز في الهند أكثر من خمس سنوات في المرة الواحدة ، فإذا رأيت مائة ألف إنجليزي يحكمون من الهنود عدداً يكبر عددهم ثلاثة آلاف مرة فافهم حتى سبب ذلك هوأنهم لم يقيموا هناك مدة تكفي لصبغهم بصبغة الإقليم.

وتنتشر في أراتى البلاد هنا وهناك غابات بدائية لم تزل باقية تكوّن خُمْس البلاد ، ترتع فيها النمور والفهود والذئاب والثعابين ، وفي الثلث الجنوبي من الهند يقع إقليم "دِكن" حيث تزداد حرارة الشمس جفافاً إلا إذا لطفتها نسائم تهب عليها من البحر ، لكن الحرارة هي العنصر الرئيسي السائد من دلهي إلى سيلان ، تلك الحرارة التي أضعفت الأبدان ، وقصرت الشباب ، وأنتجت للناس هناك ديانتهم وفلسفتهم المسالمتين ، فليس يخفف عنك هذه الحرارة إلا حتى تجلس ساكناً ، لا تعمل شيئاً ، ولا ترغب في شيء ، أوقد تأتي أشهر الصيف فتأتي رياحها الموسمية برطوبة منعشة ومطر مخصب من البحر ، فإذا إمتنعت الرياح الموسمية عن هبوبها ، تضورت الهند بالجوع ، وطافت بها أحلام النرفانا.


تاريخ الحضارة الهندية

امبراطورية سري‌ڤيجايا، أحد أعظم الممالك المستهندة في جنوب شرق آسيا.

في العهد الذي كان المؤرخون فيه يفترضون حتى التاريخ قد بدأ سَيْره باليونان ، آمنت أوربا إيماناً إغتبطت له ، بأن الهند قد كانت مباءة وحشية حتى هاجر إليها "الآريون" أبناء أعمام الأوربيين ، هاجروا من شُطئان بحر قزوين ليحملوا معهم الفنون والعلوم إلى شبه جزيرة وحشية يكتنفها ظلام الليل ، لكن الأبحاث الحديثة قد أفسدت هذه الصورة الممتعة - كما ستغير أبحاث المستقبل من الصورة التي نرسمها على هذه الصفحات ، ففي الهند- كما سائر أقطار الأرض - بدايات المدنية دفينة تحت الثرى ، ويستحيل على فؤوس البحث الأثري كلها حتى تستخرجها جميعاً ، فبقايا العصر الحجري القديم تملأ خزانات كثيرة في متاحف كلكتا ومِدْرَاسْ وبمباي ، كما وجدت أشياء من العصر الحجري الحديث في جميع دولة تقريباً ، ومع ذلك فقد كانت هذه ثقافات لم تصبح بعد مدنية. وفي سنة 1924م إرتجت دنيا الفهم الجديد مرة أخري بأنباء اتىتها من الهند ، إذ أعرب "سير جون مارشال" حتى أعوانه الهنود - وبصفة خاصة "ر.د. لافتةجي"- قد اكتشفوا عند "موهنجودارو" على الضفة الغربية من السند الأدنى- آثاراً من مدنية يظهر أنها أقدم عهداً من أية مدنية أخري يعهدها المؤرخون ، فهنالك - كما في "هارابا" على بعد بضع مئات من الأميال ناحية الشمال- أزيلت طبقة من الأرض عن أربع مدن أوخمس بعضها فوق بعض طبقات ، فيها مئات من المنازل والدكاكين بنيت بالآجر بناء متيناً ، وإصطفت على إمتداد طرق واسعة حيناً وحارات ضيقة حيناً آخر ، وترتفع حالات كثيرة عدة طبقات، ولنهجر "سير جون" يحدثنا عن تقديره لعمر هذه الآثار. "تؤيد هذه الكشوف قيام حياة مدنية بالغة الرقي ، في السند (وهوإقليم في "رئاسة بمباي" يقع في أعلى الشمال) والبنجاب خلال الألف الرابعة والثالثة من السنين قبل الميلاد ، ووجود آبار وحمامات ونظام دقيق للصرف في كثير من هذه المنازل ، يشير على حالة إجتماعية في حياة أهل تلك المدن تساوي على الأقل ما وجدناه في "سومر" ، وتفوق ما كان سائداً في العصر نفسه في بابل ومصر. وحتى "أور" لا تضارع بمنازلها من حيث البناء ، منازل موهنجودارو". وبين الموجودات في هذه الأماكن آنية منزلية وأدوات للزينة، وخزف مطلي وبغير طلاء ، صاغه الإنسان بيده في بعض الحالات وبالعجلة في بعضها الآخر ، وتماثيل من الخزف ، وزهْر اللعب وشطرنج ، ونقود أقدم من أي نقود وجدناها من قبل ، وأكثر من ألف ختم معظمها محفور ومكتوب بكتابة تصويرية نجهلها ، وخزف مزخرف من الطراز الأول ، وحفر على الحجر أجود مما وجدناه في سومر وأسلحة وأدوات من النحاس ، ونموذج نحاسي لعربة ذات عجلتين (وهي من أقدم ما لدينا من أمثلة للعربة ذات العجلات) وأساور وأقراط وعقود وغيرها من الحلي المصنوع من المضى والفضة صناعة - كما يقول مارشال- "بلغت من دقة الإتقان ومهارة الصقل حداً يجعلها صالحة للعرض عند صائغ في شارع بُند (شارع في لندن مشهور بجودة معروضاته) في يومنا هذا ، فذلك أقرب إلى المعقول من حتى تستخرج من منزل مما قبل التاريخ يرجع إلى سنة 5000 ق.م".

أطلال أيوتايا في تايلند الذي سُمي على اسم أيوديا.

ومن العجيب حتى الطبقات الدنيا من هذه الآثار أحمل في فنونها من الطبقات العليا - كأنما أقدم هذه الآثار عهداً يرجع إلى مدنية أقدم من مدنية زميلتها في الطبقات العليا بمئات السنين ، وقد يحدث بآلافها وبعض الآلات هناك مصنوع من الحجر ، وبعضها من النحاس ، وبعضها من البرونز ، مما قد يشير على حتى هذه الثقافة السندية قد نشأت في فترة إنتنطق بين عصر الحجر ، وعصر البرونز من حيث المادة التي تصنع منها الآلات. وتنهض الدلائل على حتى "موهنجودارو" كانت في ذروتها حين شيد خوفوالهرم الأكبر ، وعلى أنها كانت تتصل مع سومر وبابل بصلات تجارية ودينية وفنية، وأنها ظلت قائمة أكثر من ثلاثة آلاف عام، حتى كان القرن الثالث قبل الميلاد ، ولسنا نستطيع الجزم برأي فيما إذا كانت "موهنجو- دارو" تمثل أقدم ما كشف عنه الإنسان من مدنيات ، كما يعتقد "مارشال" ، لكن إخراج ما تكنه الهند في جوفها قد بدأ أمس القريب ، فالبحث الأثري لم ينتقل من مصر عبر الجزيرة إلى الهند ، إلا في حياتنا ، فلما ننكت تربة الهند كما عملنا بتربة مصر ، فربما نجد هناك مدنية أقدم من المدنية التي ازدهرت من غرين النيل.


الحياة الإجتماعية في الحضارة الهندية

على الرغم مما تدل عليه آثار السند وميسور من إتصال في تسلسل التاريخ ، فإنا نشعر بأن بين إزدهار "موهنجو دارو" وبين دخول الآريين ، فجوة في فهمنا ، أومن الممكن كان الأقرب إلى الصواب هوحتى فهمنا بالماضي فجوة شاءتها المصادفة في جهلنا ، وتشتمل آثار السند على خاتم عجيب يتألف من رأسين من رؤوس الثعابين ، وهوالرمز المميز لأقدم سكان الهند ممن عهد التاريخ - هؤلاء هم "الناجا" الذين كانوا يعبدون الثعبان ، والذين وجدهم الآريون الغزاة قابضين على المناطق الشمالية ، والذين لا تزال سلالتهم متلكئة على قيد الحياة في التلال البعيدة ، فإذا توغلت ناحية الجنوب ، وجدت الأرض التي كان يسكنها عندئذ قوم سود البشرة فطس الأنوف ، ويسمون "الدرافيديين"- ولا نفهم أصل الحدثة - وقد كانوا على شيء من المدنية حين هبط عليهم الآريون ، وبحارتهم المغامرون شقوا البحار حتى بلغوا سومر وبابل ، وعهدت مدائنهم كثيراً من رقة العيش وأسباب الترف ، فيجوز حتى الآريين قد إستمدوا من هؤلاء الناس نظام الجماعة القروية وملكية الأرض والضرائب. ولا يزال "الدكن" إلى يومنا هذا مسكناً رئيسيأ للدرافيديين ومركزاً لعاداتهم ولغتهم وأدبهم وفنونهم. ولم تكن غزوة الآريين لهذه القبائل المزدهرة ، وإنتصارهم عليها ، إلا حلقة من سلسلة متصلة من الغزوات كانت تقع على فترات منتظمة بين الشمال والجنوب ، فينقض الشمال إنقضاضاً عنيفاً على الجنوب المستقر الآمن ، وقد كان ذلك مجرى من المجاري الرئيسية التي سارت فيها حوادث التاريخ ، إذ أخذت المدنيات تعلوعلى سطحه وتهبط كأنها أدوار الفيضان يعلوعصراً بعد عصر، فالآريون قد هبطوا على الدرافيديين ، والآخيّون والدوريّون قد هبطوا على الكريتيِّين والإيجيِّين ، والجرمان قد هبطوا على الرومان ، واللمبارديون قد هبطوا على الإيطاليين ، والإنجليز قد هبطوا على العالم بأسره ، وسيظل الشمال إلى الأبد يمد العالم بالحاكمين والمقاتلين ، والجنوب يمده بالفنانين والقديسين ، فالجنة إنما يرثها الجبناء. فمن هؤلاء الآريون الذين كانوا يضربون في الأرض،يا ترى؟ أما هم أنفسهم فقد إستعملوا حدثة "آري" ليعنوا بها "الأشراف" (في السنسكريتية آرياً معناها شريف)، لكن من الممكن كان هذا الإشتقاق المبنى على النزعة الوطنية أحد الأفكار البَعْدِيَّة التي تُلقي شعاعاً من التهكم المر على فهم اللغات ، ومن المرجح جداً حتىقد يكونوا قد اتىوا من تلك المنطقة القزوينية التي كان بنوأعمامهم من الفرس يسمونها "إيريانا فيجو" ومعناها "الوطن الآري" ، وفي نفس الوقت تقريباً الذي كان الكاسيّون الآريون يكتسحون فيه بابل ، كان الآريون الصوت والصورةن قد أخذوا يدخلون الهند. وكان هؤلاء الآريون أقرب إلى المهاجرين منهم إلى الفاتحين ، شأنهم في ذلك شأن الجرمان في غزوهم لإيطاليا ، لكنهم اتىوا ومعهم أجسام قوية، وشهيّة عارمة للطعام والشراب، ووحشية لا تتردد في الهجوم، ومهارة وشجاعة في الحروب ، سرعان ما أدت بهم هذه الخصال كلها إلى السيادة على الهند الشمالية ، وكانوا يحاربون بالقسىّ والسهام ، يقودهم مقاتلون مدرعون في عربات حربية ، أدواتهم في القتال هي الفؤوس إذا كانوا على مقربة من العدو، والحراب يقذفون بها إذا كانوا على مبعدة منه ، وكانوا من الأخلاق البدائية على درجة لا تسمح بالنفاق ، ولذلك أخضعوا الهند دون حتى يدّعوا أنهم يحملون مستواها ، وكل ما في الأمر أرادوا أرضاً ومرعى لماشيتهم ، ولم يحيطوا حروبهم بدعوى الشرف القومي ، لكنهم قصدوا بالحرب صراحة إلى "رغبة في مزيد من الأبقار" ، وجعلوا خطوة فخطوة يزحفون شرقاً على إمتداد نهري السند والكنج ، حتى خضعت الهندوستان كلها لسلطانهم. ولما تحولوا من الحرب المسلحة إلى زراعة الأرض وإستقرارها طفقت قبائلهم بالتدريج تأتلف لتِكوّن دويلات ، جميع منها يحكمها ملك يقيده مجلس من المقاتلين ، وكل قبيلة يقودها "راجا" أورئيس يحدد قوته مجلس قبلي ، وكل قبيلة تتألف من جماعات قروية مستقل بعضها عن بعض إستقلالاً نسبياً ، ويحكم الجماعة القروية مجلس من رؤوس العائلات ، ويروى عن بوذا أنه نطق في سؤاله لمن كان له بمثابة القديس يوحنا: "هل سمعت يا "أناندا" حتى الفاجيين يجتمعون عادة ليتشاوروا الأمر قبل الحسم فيه ، وأنهم يرتادون الإجتماعات العامة التي تعقدها قبائلهم؟... فما دام الفاجيون يا "أناندا" يجتمعون هكذا عادة ، ويرتادون الإجتماعات العامة التي تعقدها قبائلهم ، فتسقط منهم ألا يصيبهم انحلال، بل يصيبهم النجاح".

والآريون - كسائر الشعوب - كانت لهم قواعد الزواج في حدود العشيرة وخارج حدودها معاً ، بمعنى حتى يحرم الزواج خارج حدود جنسه م، كما يحرم داخل حدود الأقرباء الأقربين ، ومن هذه القواعد إستمد الهندوس أميز ما يميزهم من أنظمة إجتماعية ، وذلك حتى الآريين عندما رأوا أنفسهم قلة عددية بالنسبة إلى من أخضعوهم ومن يعدُّونهم أحط منهم منزلة ، أيقنوا أنهم بغير تقييد التزاوج بينهم وبين هؤلاء ، فسرعان ما تضيع ذاتيتهم العنصرية، بحيث لا يمضي قرن واحد أوقرنان من الزمان حتى تهضمهم الأغلبية في ثناياها وتمتصهم في جسمها إمتصاصاً ، وإذن فقد كان أول تقسيم للطبقات قائماً على أساس اللون لا على أساس الحالة الإجتماعية ، فتفرّق الناس فريقين: فريق الأنوف الطويلة وفريق الأنوف العريضة ، وبذلك ميزوا بين الآريين من جهة ، و"الناجا" و"الدرافيديين" من جهة أخري ، ولم تكن التفرقة عندئذ أكثر من تنظيم الزواج بحيث يحرم خارج حدود الجماعة ؛ وكاد نظام الطبقات ألاقد يكون له وجود في العهد الفيدي بهذه الصورة التي إتخذها فيما بعد ، حيث أسرف في تقسيم الناس على أساس الوراثة وعلى أساس العنصر وعلى أساس العمل الذي يزاولونه ، أما بين الآريين أنفسهم فقد كان الزواج حراً من القيود (ما عدا ذوي القربى الأقربين) ، ولم تكن المنزلة الإجتماعية تورث مع الولادة.

فلما إنتقلت الهند الفيدية (2000 - 1000 ق.م) إلى عصر "البطولة" (1000- 500 ق.م) ، أوبعبارة أخري لما إنتقلت الهند من ظروف حياتها كما صوّرتها أسفار الفيدا ، إلى حياة جديدة ترى وصفها في "الماها بهارتا" و"رامايانا" ، أصبحت أعمال الناس مقسمة بينهم بالنسبة إلى طبقاتهم الإجتماعية ، بحيث يرث الولد عمل طبقته، وتحددت الفوارق بين الطبقات في وضوح وجلاء، ففي القمة كان "الكشاتريّة" أوالمقاتلون الذين عدوها خطيئة من الخطايا حتى يموت الرجل منهم في مخدعه ، حتى المحافل الدينية في الأيام الأولى كان يؤديها الرؤساء أوالملوك على نحوما كان يقوم قيصر بدور كبير الكهنة ، وكان البراهمة ، أي الكهنة ، لا يزيدون عندئذ عن مجرد شهود في الإحتفال بتقديم القرابين ، ففي "رامايانا" ترى رجلاً من طبقة "الكشاترية" يحتج إحتجاجاً حنقاً على زواج "عروس شماء الأنف فريدة" من عنصر المقاتلين "من كاهن براهمي ثرثار" ، وفي الأسفار "الجانتية" ترى زعامة "الكشاترية" أمراً مسلماً به ، بل يمضى الأدب البوذي إلى حد أبعد ، فيسمى "البراهمة": "من أصل وضيع". إلى غير ذلك ترى الأمور يصيبها التغير حتى في الهند.

لكن ما حَلَّتْ السلم محل الحرب ، وبالتالي إزدادت الديانة أهمية اجتماعية وتعقداً في الطقوس ، لأنها أصبحت عندئذ عوناُ إلى حد كبير للزراعة ، تقيها شر الكوارث الجوية التي لا يمكن أعداد العدة لها ، فقد تطلبت الديانة وسطاء فنيين بين الناس وآلهتهم ؛ ولهذا ازداد البراهمة عدداً وثروة وقوة ، فبإعتبارهم القائمين على تربية النشء ، والرواة لتاريخ أمتهم وآدابها وقوانينها ، إستطاعوا حتى يعيدوا خلق الماضي خلقاً جديداً ، وتشكيل المستقبل على صورتهم ، بحيث يصبون جميع جيل صبّاً يزيد من تقديسه للكهنة ، فيبنون بهذا لطبقتهم مكانة ستمكنهم في القرون المقبلة من إحتلال المنزلة العليا في المجتمع الهندوسي ، وقد بدءوا بالعمل أيام بوذا يَتَحَدَّوْنَ سيادة طبقة "الكشاترية" ، وعَدُّوهم طبقة أحط من طبقتهم ، على نحوما كان يعدهم "الكشاترية" من قبل أدنى منهم منزلة ، وأحس بوذا حتى لكل من وجهتي النظر ما يؤيده ، لكن "الكشاترية" مع ذلك لم تخف زعامتها الفكرية بالقياس إلى البراهمة ، حتى في عهد بوذا نفسه ، بل إذا الحركة البوذية نفسها ، التي أسسها شريف من أشراف الكشاترية ، نافست البراهمة زعامتهم الدينية على الهند مدى ألف عام.

وتحت هذه الأقليات الحاكمة طبقات في منازل أدنى ، فهناك طبقة "الفيزيا" أوالتجار والأحرار ، الذين كادوا قبل بوذا ألاقد يكون لهم ما يميزهم طبقة قائمة بذاتها ؛ وهناك طبقة "الشودرا" أوالصناع الذين يضمون معظم السكان الأصليين ، وأخيراً هناك "البارْيا" أوالمنبوذون ، وقوامهم قبائل وطنية لم ترتد عن ديانتها مثل قبيلة "شاندالا" ، وأسرى الحرب ، ورجال تحولوا إلى عبيد على سبيل العقاب ، ومن هذه الفئة التي كانت بادئ أمرها جماعة صغيرة لا تنتمي إلى طبقة من الطبقات ، تكونت طبقة " المنبوذين" في الهند اليوم وعددها أربعون مليوناً.


الحياة الإقتصادية في الحضارة الهندية

يأتي هنا السؤال: كيف من الممكن أن كان هؤلاء الهنود الآريون يعيشون،يا ترى؟ بالحرب والسلب أول الأمر ، ثم بالرعي والزراعة والصناعة على نمط ريفي كالذي ساد أوربا في العصور الوسطى لأنه حتى قامت الثورة الصناعية التي تظللنا اليوم ، لبثت حياة الإنسان الرئيسية من حيث الإقتصاد والسياسة ، على صورة واحدة لا تكاد تتغير في جوهرها منذ العصر الحجري الحديث ؛ فكان الآريون الهنود يربون الماشية ويستخدمون البقرة دون حتى ينزلوها من أنفسهم منزلة التقديس ، ويأكلون اللحم أينما إستطاعوا إليه سبيلاً ، بعد حتى يهبوا جزءاً منه للكهنة أوللآلهة ؛ ونفهم حتى بوذا بعد حتى أوشك على الموت جوعاً بما إلتزمه في شبابه من تقشف ، كاد يودي بحياته بعد أكلة كبيرة من لحم خنزير ؛ وكذلك كانوا يغرسون الشعير ، لكن يظهر أنهم لمقد يكونوا يفهمون عن الأرز شيئاً في العهد الفيدي ؛ وكانت الحقول تقسمها الجماعة القروية بين عائلاتها، على حتى يقوم الكل معاً بريّها، ولم يكن يجوز بيع الأرض لأجنبي عن القرية ، ويمكن توريثها لأبناء الأسرة نفسها من نسل الذكور المباشر ؛ وكانت الكثرة الغالبة من الناس فلاحين يملكون أرضهم التي يفلحونها ، لأن الآريين كانوا يعدونه عاراً حتى يعملوا لقاء أجر يتقاضونه ؛ ويؤكد لنا العالمون بحياتهم أنه لم يكن بينهم مُلاّك كبار ولا متسولون ، ولم يكن بينهم أصحاب الملايين ولا المعدمون.

وأما في المدن فقد إزدهرت الصناعات اليدوية على أيدي صناع وناشئين في الصناعة ، جميع منهم مستقل بذاته ؛ ثم إنتظمتم قبل ميلاد المسيح بنصف ألف من السنين ، نقابات قوية لصناع المعادن ، وصناع الخشب ، وصناع الحجر ، وصناع الجلود ، وصناع العاج ، وصناع السلال ، وطلاة المنازل والرسامين ، والخزافين والصباغين والسماكين والبحارة والصيادين وبائعي جلود الحيوان ، والجزارين وبائعي الحلوى والحلاقين والدلالين والزهارين والطهاة- إذا مجرد النظر إلى هذه القائمة يبين لك كم كانت الحياة الآرية الهندية مليئة متعددة الجوانب ؛ وكانت النقابات تقضي فيما ينشب بين مختلف الطوائف العمالية من أمور ، بل كانت تقيم نفسها حكماً يفض النزاع بين الصناع وزوجاتهم ؛ وكانت أسعار السلع تحدد-كما نعمل نحن اليوم- لا وفق قانون العرض والطلب ، بل على أساس من غفلة الشاري ؛ ومع ذلك فقد كان قصر الملك "مثمن" رسمي- يشبه ما لدينا الآن من مخط لتحديد الأسعار- واجباته حتى يخبر السلع المعروضة من أجل البيع ، ويملي الشروط على الصناع. وتقدمت بينهم وسائل التجارة والسفر حتى بلغت فترة إستخدام الجواد والعربة ذات العجلتين ، لكنها كانت تعاني من الصعاب ما كانت تعانيه في القرون الوسطى ؛ وكانت القوافل تستوقف للضرائب عند جميع حد يفصل دويلة عن زميلتها مهما صغرت هذه الدويلات ، كما كانت تتعرض لهجمات اللصوص في الطريق عند جميع منعطف ؛ وكان النقل بالنهر والبحر أكثر من ذلك رقياً ؛ فكنت ترى في سنة 860 ق.م أونحوها ، سفناً تدفعها أشرعة متواضعة ومئات من المجاديف ، في طريقها إلى بلاد الجزيرة وشبه جزيرة العرب ومصر ، تحمل إليها منتجات تتسم بطابع الهند مثل العطور والتوابل والقطن والحرير والشيلان والنسيج الموصلي واللؤلؤ والياقوت والأبنوس والأحجار الكريمة ونسيج الحرير الموشى بالفضة والمضى.

وكان مما وقف في سبيل التجارة أساليب التبادل العقيمة التي إصطنعها الناس في معاملاتهم- فقد كانت وسيلتهم بادئ الأمر تبادل سلعة بسلعة ؛ ثم إستخدموا الماشية عملة نقدية ؛ حتى لقد كانت العروس تشترى بالأبقار ، كهؤلاء اللائي يقول عنهن هومر "عذارى يحملن أبقارا" وبعد ذلك ظهرت عملة نحاسية ثقيلة ، لم يكن يضمن قيمتها إلا الأفراد بصفاتهم الشخصية ؛ ولم يكن للقوم مصارف ، ولذلك كان المال المخزون يُخبأ في المنازل أويدفن في الأرض أويوُدع عند صديق ؛ ومن هنا تطور نظام للإيداع في عهد بوذا ؛ وذلك حتى التجار في المدن المتنوعة كانوا ييسرون التجارة بأن يعطي جميع منهم لزميله خطاباً يعترف فيه بما عليه له ؛ وكان في المستطاع حتى تستعير من هؤلاء- وهم أشباه أسرة روتشيلد- ديناً بربح مقداره ثمانية عشر في جميع مائة. وكنت تسمع بين الناس حديثاً كثيراً عما بينهم من عهود مالية ؛ وفي ذلك العصر لم تكن العملة النقدية من ثقل الوزن بحيث تثبط المقامرون عن استخدامها في قمارهم ، وكان "زهر" القمار قد وطد لنفسه مكانة في المدينة ؛ ففي حالات كثيرة كان الملك يعد قاعات للقمار لشعبه ، على غرار "موناكو" إذا لم تكن على صورتها ؛ وكان جزء من المال المكسوب يمضى إلى الخزانة الملكية ؛ ولقد يظهر ذلك في أعيننا نظاماً يصم أصحابه بوصمة العار ، لأننا لم نعتد حتى نرى أنظمة القمار عندنا تمد رجال الحكم بيننا بالمال بطريقة مباشرة.

وكانت أخلاقهم في التجارة رفيعة المستوى ؛ ولوحتى الملوك في الهند الفيدية- كما كان أقرانهم في اليونان الهومرية- لم يرتفعوا عن إغتصاب الماشية من جيرانهم ، لكن المؤرخ اليوناني الذي أرخ لحملات الإسكندر ، يصف الهنود بأنهم "يستوقفون النظر بإستقامتهم ، وأنهم بلغوا من سداد الرأي حداً يجعل التاتىهم إلى القضاء نادراً ، كما بلغوا من الأمانة حداً يغنيهم عن الأقفال لأبوابهم وعن العهود المكتوبة تسجيلاً لما اتفقوا عليه، فهم صادقون إلى أبعد الحدود". نعم إذا في سفر "رج- فيدا" ذكراً للزواج المحرم وللتضليل وللعهر وللإجهاض وللزنا ، كما حتى هناك علامات تدل على الإنحراف الجنسي الذي يجعل الرجال يتصلون بالرجال ، إلا حتى الصورة العامة التي نستمدها من أسفار الفيدا ومن الملاحم ، تدل على مستوى رفيع في العلاقات بين الجنسين وفي حياة الأسرة.

كان الزواج يتم بإغتصاب العروس من أهلها أوبشرائها أوبالإتفاق المتبادل بين العروسين ، لكن هذا النوع الأخير كان ينظر إليه بعين النقد إلى حد ما ، فقد افترض نساؤهم أنه أشرف لهن حتى يشترين وأن تدفع فيهن الأثمان، وأنه مما يزيد قدر المرأة حتى يسرقها الزوج من أهلها ، وكان تعدد الزوجات جائزاً ، ويشجعون عليه بين العلية ، لأنه مما يسجل للرجل بالفخر حتى يعول زوجات كثيرات وأن ينقل إلى الخلف قوته ، وكذلك كان هناك تعدد الأزواج ، فسيرة "دروبادي" التي تزوجت خمسة إخوة دفعة واحدة تدل على وقوع تعدد الأزواج للزوجة الواحدة - في أيام الملاحم- حيناً بعد حين ، وكان الأزواج عادة إخوة ، وهي عادة بقيت في جزيرة سيلان حتى سنة 1859م ، ولا تزال متلكئة في بعض قرى الجبال في التبت ، لكن التعدد كان في العادة ميزة يتمتع بها الذكر دون الأنثى ، لأنه عند الآريين هورب الأسرة يحكمها حكماً لا ينازعه في سيادته منازع ، فكان له حق إمتلاك زوجاته وأبنائه ، وله الحق في ظروف معينة حتى يبيعهم أويرمي بهم في عرض الطريق. ومع ذلك فقد تمتعت المرأة بحرية في العصر الفيدي أكثر جداً مما تمتعت به منها في العصور التالية ، فقد كان لها حينئذ رأي في إختيار زوجها ، أكثر مما قد تدل عليه ظواهر المراسيم في الزواج ؛ وكان لها حق الظهور بغير قيود في الحفلات والرقص ، وكانت تشارك الرجل في الطقوس الدينية التي تقدم بها القرابين ؛ ولها حق الدرس ، بل من الممكن مضىت في ذلك إلى حد بعيد مثل "جارجي" التي إشهجرت في المجادلات الفلسفية ، وإذا هجرها زوجها أرملة فلم يكن على زقابلا من قيود ، أما في عصر "البطولة" فيظهر حتى المرأة قد فقدت بعض هذه الحرية ، فكانوا لا يشجعونها على المضي في الأبحاث العقلية ، على أساس حتى "المرأة إذا درست أسفار الفيدا كان ذلك دليلاً على إضطراب المملكة" ، وقل زواج المرأة بعد موت زوجها الأول ، وبدأت "البردة"- التي تعني عزل المرأة- وزادت بين الناس عادة دفن الزوجة مع زوجها وهي عادة لم تكد تعهدها الأيام الفيدية ، وأصبحت المرأة المثالية هي التي اتىت على نموذج بطلة "رامايانا"- وهي "سيتا" الوفية التي تتبع زوجها وتطيعه في خضوع مهما تطلب منها ذلك من ضروب الوفاء والشجاعة، حتى آخر يوم من حياتها.


الديانة في الحضارة الهندية

الظاهر حتى أقدم ديانة نعهدها عن الهند ، تلك الديانة التي وجدها الغزاة الآريون بين "الناجا" والتي لا تزال قائمة في الأجناس البشرية البدائية التي تراها هنا وهناك في ثنايا شبه جزيرة العظيمة ، هي عبادة روحانية طموطمية لأرواح كثيرة تسكن الصخور والحيوان والأشجار ومجاري الماء والجبال والنجوم ، وكانت الثعابين والأفاعي مقدسات - إذ كانت آلهة تعبد ومثلاً عليا تنشد في قواها الجنسية العارمة ، كذلك شجرة "بوذِي" المقدسة في عهد بوذا كانت تمثل تقديسهم لجلال الأشجار الصامت ، وهوتقديس صوفي لكنه سليم: وهناك من آلهة الهنود الأولين ما هبط مع الزمن إلى هنود العصور التاريخية ، مثل "ناجا" الإله الأفعوان، و"هاتومان" الإله القرد ، و"ناندس" الثور المقدس ، و"الياكشا" أوالآلهة من الأشجار ؛ ولما كان بعض هذه الأرواح طيباً وبعضها خبيثاً ، فلا يستطيع حفظ الجسم من دخول الشياطين فيه وتعذيبه في حالات السقم أوالجنون ، تلك الشياطين التي تملأ الهواء ، إلا مهارة عظيمة في أمور السحر ، ومن ثم نشأت مجموعة الرقى في "فيدا أثارفا" أي "سفر الإلمام بالسحر" ، فلا بد للإنسان من صيغ سحرية يتلوها إذا أراد الأبناء أوأراد إجتناب الإجهاض ، أوإطالة العمر ، أودفع الشر ، أوجلب النعاس ، أوإيقاع الأذى أوالإرتباك بالأعداء.

وأقدم آلهة ذكرتها "أسفار الڤيدا" هي قوى الطبيعة نفسها وعناصرها: السماء والشمس والأرض والنار والضوء والريح والماء والجنس ، فكان ديوس (وهوزيوس عند اليونان، وجوپيتر عند الرومان)، أول الأمر هوالسماء نفسها ، كذلك اللفظة السنسكريتية التي معناها مقدس ، كانت في أصلها تعني "اللامع" فقط ، ثم أدت هذه النزعة الشعرية التي أباحت لهم حتى يخلقوا لأنفسهم جميع هذا العدد من الآلهة ، إلى تشخيص هذه العناصر الطبيعية ، فمثلاً جعلوا السماء أباً ، وأسموها "فارونا"؛ وجعلوا الأرض أماً ، وأطلقوا عليها إسم "بريثيفي" ، وكان النبات هوثمرة التقائهما بوساطة المطر ، وكان المطر هوالإله "بارجانيا"، والنار هي "آگني" ، والريح كانت "فايو" ، وأما إذا كانت الريح مهلكة فهي "رودْرا" ، وكانت العاصفة هي "إندرا"، والفجر "أوشاس"، ومجرى المحراث في الحقل كان إسمه "سيتا"، والشمس "سوريا" أو"مثرا" أو"ڤشنو" ؛ والنبات المقدس المسمى "سوما" ، والذي كان عصيره مقدساً ومسكراً للآلهة والناس معاً، كان هونفسه إلهاً يقابل في الهند ما كان "ديونيسوس" عند اليونان ، فهي الذي يوحي الإنسان- بمادته المنعشة- حتى يعمل الإحسان ويهديه إلى الرأي الثاقب ، وإلى المرح ، بل يخلع على الإنسان حياة الخلود. ولما كانت الأمة كالفرد تبدأ بالشعر وتنتهي بالنثر، فقد تحول جميع شئ لمّا أصبحت الأمور في أعين الناس أشخاصاً ، إذ أصبحت صفات الأمور أشياء قائمة بذاتها، وباتت نعوتها بمثابة الأسماء، والعبارات التي تجري مجرى الحكمة أصبحت آلهة ، والشمس التي تهب الحياة إنقلبت إلهاً جديداً إسمه "سافيتار واهب الحياة"، وأما ضوءها فإله آخر اسمه "فيفاسفات" أي الإله الساطع، والشمس التي تولد الحي أصبحت إلها عظيماً هو"براجاباتي" أي رب الأحياء جميعاً. ولبثت النار "وهي الإله أجني" حيناً من الدهر أبرز آلهة الفيدا جميعاً، إذ كان هذا الإله هوالشعلة المقدسة التي تحمل القربان إلى السماء ، وكان هوالبرق الذي يثب في أراتى الفضاء، وكان للعالم حياته النارية وروحه المشتعلة ، غير حتى "إندرا" الذي يتصرف في الرعد والعاصفة كان أشيع الآلهة كلهم ذكراً بين الناس ، لأنه هوالذي يجلب للآري الهندي الأمطار النفسية التي بدت له عنصراً جوهرياً يكاد يزيد في أهميته للحياة على الشمس ذاتها ، لذا فقد جعلوه أعظم الآلهة مقاماً ، يلتسمون معونة رعودة وهم في حومات القتال ، وصوروه- بدافع الحسد له- في صورة البطل الجبار الذي يأكل العجول مئات مئات ، ويشرب الخمر بحيرات بحيرات ، وكان عدوة المحبب إلى نفسه هو"كرشنا" الذي لم يذكر في أسفار الفيدا إلا على أنه إله محلي لقبيلة "كرشنا" إذ لم يكن حينئذ قد تجاوز هذه الفترة؛ كذلك كان "فشنو" أي الشمس التي تجتاز الأرض بخطواتها الجبارة ، إلهاً ثانوياً ، كأنما هولا يدري حتى المستقبل له ول "كرشنا" الذي يجسده؛ وإذن فمن فوائد أسفار الفيدا لنا حتى تعرض علينا الدين وهوفي طريق التكوين ، فنرى مولده ونموه وموت الآلهة والعقائد، ونرى ذلك بادئين من النزعة الروحانية البدائية حتى نبلغ وحدة الوجود الفلسفية، بادئين بالخرافة في "فيدا أثارفا" (أي سفر السحر) ومنتهين إلى الوحدانية الجليلة كما ذكرت في أسفار "اوپانيشاد".

كان هؤلاء الآلهة بشراً في صورة الجسم وفي الدافع المحرك للعمل ، بل كادت تكون بشراً في جهلها كذلك ، فأنظر أحدها وقد أحاطت به دعوات الداعي ، فجعل يفكر ماذا عسى حتى يهب هذا المتوسل: "هذا ما سأصنعه- كلا ، لن أصنع هذا ، سأعطيه بقرة- أم هل أعطيه جواداً،يا ترى؟ ترى هل تقرب إليّ حقاً بشراب السوما؟" ، لكن بعض هؤلاء الآلهة قد صعد في العصور الفيدية المتأخرة إلى مستوى خلق رفيع، خذ مثلاً "فارونا" الذي كان بادئ ذي بدء هوالسماء المحيطة بالأرض ، أنفاسه هي ريح العواصف ، ورداؤه هوالسماء ، هذا الإله قد تطور على أيدي عُبَّادُه حتى أضحى أكثر آلهة الفيدا علواً في الأخلاق وقرباً من المثل الأعلى للآلهة ، أصبح يرقب العالم بعينه الكبرى ، التي هي الشمس ، يعاقب الشر ويكافئ الخير ، ويعفوعن ذنوب التائبين ، وبهذا كان "فارونا" حارساً على القانون الأبدي ومنفذاً له ، ذلك القانون الذي يسمونه "ريتا" وهوالذي كان أول أمره قانوناً يقيم النجوم في أفلاكها ويحفظها هناك فلا يضطرب مسيرها ، ثم تطور بالتدريج حتى أصبح قانون الحق إطلاقا، أصبح نغمة خلقية كونية لا مندوحة لكل إنسان عن مراعاتها إذا أراد حتى يجتنب الضلال والدمار. ولما كثر عدد الآلهة نشأت مشكلة، هي: أي هؤلاء الآلهة خلق العالم،يا ترى؟ فكانوا يعزون هذا الدور الأساسي تارة ل "آجنى" وتارة ل "إندرا" وطوراً ل "سوما" وطوراً رابعاً ل "براجاباتي"، وفي أحد أسفار "يوبانشاد" يعزي خلق العالم إلى خالق أول قهار:

"حقاً إنه لم يشعر بالسرور ، فواحد وحده لا يشعر بالسرور ، فتطلب ثانياً ؛ كان في الحق كبير الحجم حتى ليعدل جسمه رجلاً وإمرأة تعانقا ، ثم شاء لهذه الذات الواحدة حتى تنشق نصفين ، فنشأ من ثمَّ زوج تملؤه الزوجة ، وعلى ذلك تكون النفس الواحدة كبترة مبتورة ... وهذا الفراغ تملؤه الزوجة ، وضاجع زوجته وبهذا أنسل البشر ؛ وسألت نفسها الزوجة قائلة: "كيف إستطاع مضاجعتي بعد حتى أخرجني من نفسه ، فلأختف" وإختفت في صورة البقرة ، وإنقلب هوثوراً ، فزاوجها ، وكان بإزدقابلما حتى تولدت الماشية ، فإتخذت لنفسها هيئة الفرس ، وإتخذ لنفسه الجواد ، ثم أصبحت هي حمارة فأصبح هوحماراً ، وزاوجها حقاً ، وولدت لهما ذوات الحافر ، وإنقلبت عنزة فإنقلب لها تيساً ، وإنقلبت نعجة فإنقلب لها كبشاً ، وزاوجها حقاً ، وولدت لهما الماعز والخراف ، إلى غير ذلك حقاً كان خالق جميع شئ ، مهما تنوعت الذكور والإناث ، حتى تبلغ في التدرج أسفله إلى حيث النمال ، وقد استوعب هوحقيقة الأمر قائلاً: "حقاً إني أنا هذا الخلق نفسه، لأني أخرجته من نفسي، من هنا نشأ الخلق".

في هذه الفقرة الفريدة بذرة ممضى وحدة الوجود وتناسخ الأرواح ، فالخالق وخلقه شئ واحد ، وكل الأمور وكل الأحياء كائن واحد ، فكل صورة من الكائنات كانت ذات يوم صورة أخرى ، ولا يميز هذه الصورة من تلك ويجعلهما حقيقتين إلا الحس المخدوع وإلا تفريق الزمن بينهما ؛ هذه النظرة لم تكن قد ظهرت بعد أيام الفيدا جزءاً من العقيدة الشعبية ، وان تكن قد لقيت صياغتها على هذا النحوفي "يوباتشاد" ، فالآرى الهندي- مثل زميله الآري الفارسي- بدل حتى يعتقد في تناسخ الأرواح على صور متتابعة ، آمن بعقيدة أبسط ، إذ آمن بالخلود الشخصي ، فالروح بعد الموت تلاقي إما عذاباً أونعيماً ، فإما حتى يلقيها "فارونا" في هوة مظلمة سحيقة ، أوفي جهنم ذات السعير ، وأما حتى يتلقاها "ياما" فيحملها إلى الجنة حيث جميع صنوف اللذائذ الأرضية قد كمأت ودامت إلى أبد الآبدين ، وفي ذلك يقول سفر "كاثا" من أسفار يوبانشاد: "يفني الفاني كما تفني الغلال ، ويعود إلي الحياة في ولادة جديدة كما تعود الغلال". وليست تدلنا الشواهد على حتى الديانة الفيدية في أولى مراحلها كان لها معابد وأصنام ، بل كانت مذابح القرابين تنصب من حديث لكل قربان يراد تقديمه ، كما هي الحال في فارس الزرادشتية ، وكان يناط بالنار المقدسة حتى تحمل القربان الممنوح إلى السماء ، وفي هذه الفترة تظهر آثار ضئيلة من التضحية بالإنسان ، كما ظهرت في فاتحة المدنيات كلها تقريباً ، لكنها آثار قليلة يحوطها الشك ، وكذلك أشبهت الهند فارس في أنها كانت تحرق الحصان أحياناً ليكون قرباناً تقدمه للآلهة وأن "أشفاميزا"- أو"تضحية الجواد"- لمن أغرب الطقوس جميعاً ، إذ تخيل للناس فيها حتى ملكة القبيلة زاوجت الحصان المقدس بعد ذبحه على حتى القربان المعتاد هوحتى يكسب قليل من عصير "سوما" وأن يصب شيء من الزبد السائل في النار ، وكانوا يحيطون القربان برقى السحر ، فلوقدمه على النحوالأكمل اتىته بالجزاء المطلوب بغض النظر عما هوحقيق به من ثواب بالنسبة إلى خلقه الشخصي ، وكان الكهنة يتقاضون أجوراً عالية على مساعدة المتعبد في أداء طقوس القربان التي أخذت تزداد مع مر الزمن تعقداً ، فإذا لم يكن قد وسع المتعبد حتى يدفع للكاهن أجره، رفض حتى يتلوله الصيغ اللازمة ، فأجره لا بد حتى يسبق ما يدفع لله من أجر ، ولقد وضع رجال الدين قواعد تضبط مقدار ما يدفعه صاحب هذه العبادة- كم من الأبقار والجياد وكم من المضى ، وقد كان المضى بصفة خاصة عميق التأثير في الكهنة والآلهة. وفي "أوراق البراهمانا" التي خطها البراهمة ، إرشادات للكاهن تدله على الكيفية التي يستطيع بها حتى يقلب الصلاة أوالقربان شراً على رؤوس أصحابه إذا لم يؤجروه أجراً كافياً ، وكذلك سنوا قوانين أخرى تفصل دقائق المحافل والطقوس التي ينبغي حتى تقام في جميع ظرف من ظروف الحياة تقريباً ، وهي عادة تتطلب معونة الكهنة في أدائها ، إلى غير ذلك أصبح البراهمة شيئاً فشيئاً طبقة ممتازة ، تسيطر على الحياة الفكرية والروحية في الهند سيطرة تهددت جميع تفكير وكل تغيير بالمقاومة المميتة.


الحياة الثقافية في الحضارة الهندية

أڠكور وات في كمبوديا هوأحد أكبر المعابد الهندوسية/اليوذية في العالم

إنه لمما ينبغي حتى يثير إهتمامنا الخاص ، هذه اللغة السنسكريتية التي كان يخطها الآريون الهنود ، ذلك لأنها تعد من أقدم مجموعات اللغات "الأوربية الهندية" التي تنتمي إليها لغتنا التي نتحدث بها ، فإننا نشعر للحظة من الزمن شعوراً عجيباً بإتصال حلقات الثقافة عبر هذه الآماد الفسيحة من الزمان والمكان ، حين نلاحظ أوجه الشبه- في السنسكريتية واليونانية واللاتينية والإنجليزية- بين الألفاظ التي تدل على الأعداد ، وعلى أنواع الصلة في الأسرة ؛ وفي حدثات صغيرة وكبيرة الدلالة في هذا الصدد ، وهي الحدثات التي أطلق عليها إسم "العمل المزاوج" ولعل هذا الإسم قد أطلق عليها في غفوة من رجال الأخلاق. وبعيد جداً حتىقد يكون هذا اللسان القديم الذي نطق عنه "سير وليم جونز" أنه "أكمل من لغة اليونان ، وأوسع من لغة الرومان ، وأدق من كلتيهما معاً" ، بعيد جداً حتىقد يكون هذا اللسان القديم هوما كان يتحدث به الغزاة الآريون ، فلسنا ندري بأية لغة كان هؤلاء يتحدثون ، وكل ما نستطيعه في هذا الصدد هوحتى نفرض فرضاً أنها كانت لغة قريبة الصلة باللهجة الفارسية القديمة التي خطت بها "الأفستا" ، وأما السنسكريتية التي خطت بها أسفار الفيدا والملاحم فتحتوي بالعمل على علامات اللغة الأدبية الكلاسيكية التي لا يستخدمها إلا الفهماء والكهنة ، بل إذا حدثة "سنسكريتي" نفسها معناها "المعدة ، أوالخالصة ، أوالكاملة ، أوالمقدسة" ، ولم يكن الناس في العصر الفيدي يستخدمون في كلامهم لغة واحدة ، بل لغات ، لكل قبيلة لهجتها الآرية الخاصة ، فلم يكن للهند في أي عصر من عصورها لغة واحدة.

ليس في الفيدات إشارة واحدة تدل على حتى مؤلفيها عهدوا الكتابة ، ولم يحدث إلا في القرن الثامن أوالتاسع قبل الميلاد حتى اتى التجار الهنود- والأرجح حتىقد يكونوا من طائفة الدرافيدين- من آسيا الغربية بكتابة سامية قريبة الشبه بالكتابة الفينيقية ، وأطلق فيما بعد على هذه الكتابة إسم "الكتابة البراهمية" ومنها اشتقت جميع أحرف الهاتى في الهند.

ولقد لبثت الكتابة قروناً طويلة- فيما يظهر- لا تستخدم إلا لأغراض تجارية وإدارية ، دون حتى يرد على أذهان الناس إلا خاطر جد ضئيل بأن يتخذوها وسيلة أدبية ، "وكان التجار- لا الكهنة- هم الذين ارتقوا بهذا الفن الأساسي". حتى القانون البوذي لم يدون- على الأرجح- قبل القرن الثالث السابق لميلاد المسيح وأقدم ما بقي لنا من كتابات الهند المحفورة على الجدران ، هي محفورات "آشوكا" وإنه ليتعذر علينا نحن الذين جعلت منا القرون المتعاقبة قوماً تعتمد على عقولهم على رؤية عيونهم للمكتوب والمطبوع (حتى اتى هذا العهد الذي امتلأ به الهواء من حولنا ألفاظا وأنغاما) يتعذر علينا حتى نفهم كيف من الممكن أن اطمأنت الهند- بعد حتى عهدت الكتابة بزمن طويل- حتى استمساكها بالأساليب القديمة في نقل التاريخ والأدب عن طريق الرواية والذاكرة ، فأسفار الفيدا والملاحم كانت أناشيد أخذت تنموعلى تتابع الأجيال التي تناقلها بالرواية جيلاً بعد جيل ، ولم يقصد بها إلى الكتابة لتراها العيون ، بل قصد بها إلى حتى تكون أنغاماً تسمعها الآذان ومن هذا الإهمال للكتابة نشأت ضآلة فهمنا بالهند القديمة.

إذن فما هي أسفار الفيدا التي نستمد منها جل عملنا بالهند في مرحلتها البدائية،يا ترى؟ إذا حدثة "فيدا" معناها فهم وإذن فسفر الفيدا معناه الحرفي كتاب الفهم ، و"والفيدات" يطلقها الهندوس على جميع تراثهم المقدس الذي ورثوه عن أولى مراحل تاريخهم ، وهي شبيهة بالإنجيل عندنا في أنها تدل على أدب أكثر مما تتخذ لنفسها صورة الكتاب ، ولوحاولت تنظيم هذه المجموعة وتبوبيها لأحدثت خلطاً فظيعاً ، ولم يبق لنا من الفيدات الكثيرة التي شهدها الماضي إلا أربعة أسفار:

1- سفر رج ، أوفهم ترانيم الثناء.

2- سفر ساما، أوفهم الأنغام.

3- سفر باجور، أوفهم الصيغ الخاصة بالقرابين.

4- سفر أتارفا ، أوفهم الرقى السحرية.

وكل واحد من هذه الفيدات الأربع ة، ينقسم إلي أربعة أقسام:

1- إلى "مانترا" أوالترانيم.

2- إلى "براهمانا" أوقواعد الطقوس والنادىء والرقي لهداية الكهنة في مهمتهم. 3- إلي "أرانياكا" أونصوص الغابة ، وهي خاصة بالقديسين الرهبان.

4- إلى "يوبانشاد" أوالمحاورات السرية، وهي تقصد إلى الفلاسفة.

وليس بين أسفار الفيدا إلا سِفر واحد ينتمي إلى الآداب أكثر مما تنتمي إلى الدين أوالفلسفة أوالسحر ، فسفر "رج" ضرب من الدواوين الدينية، يتألف من 1028 ترنيمة ، أوأنشودة من أناشيد الثناء يتوجه بها الناس إلى مختلف معبودات الآريين الهنود- الشمس والقمر والسماء والنجوم والريح والمطر والنار والفجر والأرض وغيرها ومعظم الترانيم دعوات واقعية في سبيل البتران والمحصول وطول العمر ، وقليل جداً منها هوما يرتفع إلى مستوى الأدب ، وبينها عدد ضئيل يبلغ درجة "الأنشاد" في رشاقتها وجمالهابعضها شعر طبيعي ساذج ، كأنه الدهشة الفطرية يبديها الطفل إزاء ما يرى ، فترنيمة أخرى تدهش لما لا تسقط الشمس على الأرض سقوطاً عمودياً حينما تبدأ في الإنحدار ، وترنيمة ثالثة تتساءل: كيف من الممكن أن أمكن "لمياه الأنهار كلها حتى تثب فواره إلى المحيط فلا تملؤه" ومنها ترنيمة على أسلوب "ثاناتويسيس" قيلت على جثمان زميل سقط صريعاً في ميدان القتال:

هاأنذا آخذ القوس من يد ميتة كانت تشدها

لتكسب لنا ملكاً وقوة ومجداً ،

فأنت هناك ، ونحن هاهنا ، أعزاء بأبنائنا الأبطال ،

سنهزم جميع هجمة يوجهها لنا الأعداء ،

إقترب من صدر الأرض، آمنا ،

هذه الأرض الفسيحة الأراتى العطوف بأبنائها ،

هذه الشابة الناعمة كأنها الصوف المندوف تحت جنوب الأسخياء ،

هاأنذا أضرع إليها حتى تصونك من أيدي الفناء ،

إنفرجي له أيتها الأرض ، ولا تضمي جسده ضماً ثقيلاً ،

كوني له مثوى هينً ، ومجديه بعونك الشفوق ،

فكما تدثر الأم بالثوب إبنها ،

كذلك دثري هذا الرجل أيتها الأرض.


وقصيدة أخرى (رج ، الجزء العاشر ص10) تعبير عن محادثة صريح بين الأبوين الأولين للبشر ، هذين التوأمين من أخ وأخته، "ياما" و"يامي" ، فأما "يامي" فتأخذ في إغراء أخيها حتى يضاجعها على الرغم من تحريم مثل هذا الإتصال الجنسي بين أفراد الأسرة الواحدة ، زاعمة له حتى جميع ما تريده من الأمر هوإستمرار الجنس البشري ، فيقاومها "راما" على أسس خلقية رفيعة ، وتحاول معه جميع ضروب الإغراء وتفشل ، وأخيرً تصفه بالضعف ، والسيرة كما هي بين أيدينا ليست كاملة ، ولوأنه في مقدرونا حتى نحكم كيف من الممكن أنقد يكون تماماً من منطق السياق ، وأسمي أجزاء القصيدة سيرة هائلة هي "ترنيمة الخلق" وفيها ترى عقيدة وحدة الوجود مبسوطة بظلالها الرقيقة ، بل ترى ريبة التقي الورع ، في هذا الكتاب الذي أقدم كتاب ظهر بين أشد الشعوب تمسكاً بالدين:

لم يكن في الوجود موجود ولا عدم ، فتلك السماء الوضاءة

لم تكن هناك ، كلا ولا كانت بردة السماء منشورة في الأعالي ،

فماذا كان لكل شئ غطاء،يا ترى؟ ماذا كان موئلاً،يا ترى؟ ماذا كان مخبأ،يا ترى؟

أكانت هي المياه بهوتها التي ليس لها قرار،يا ترى؟

ولم يكن ثمة موت، ومع ذلك لم يكن هناك ما يوصف بالخلود

ولم يكن فاصل بين النهار والليل

و"الواحد الأحد لم يكن هناك سواه

ولم يوجد سواه منذ ذلك الحين حتى اليوم ،

كانت هناك ظلمة ، وكان جميع شئ في البداية تحت ستار

من ظلام عميق- محيط بغير ضياء -

والجرثومية التي لم تزل كامنة في اللحاء

برزت طبيعة واحدة من الحر الحرور

ثم أضيف إلى الطبيعة الحب ، وهوالينبوع الجديد

للعقل- نعم إذا الشعراء في أعماقهم يدركون

إذ هم يتأملون- هذه الرابطة بين ما خلق

وما يخلق ، فهل اتىت هذه الشرارة من الأرض

تتخلل جميع شيء وتضم جميع شيء ، أم اتىت من السماء،يا ترى؟

ثم بذرت الحبوب ، ونهضت جبابرة القوى -

فالطبيعة في أسفل ، والقوة والإرادة أعلى-

من ذا يفهم السر الدفين،يا ترى؟ من ذا أعربه هاهنا ،

من أين ، من أين اتىت هذه الكائنات على اختلافها

إن الآلهة أنفسها اتىت متأخرة في مراحل الوجود-

من ذا يفهم أنى اتى هذا الوجود،يا ترى؟

إن من صدر عنه هذا الخلق العظيم ،

سواء خلقه بإرادته، أوصدر عنه وهوساكن ،

إنه هوربنا الأعلى في السماوات العُلى ،

إنه هويفهم السر- بل لعله لا يفهم من الشر شيئاً


ولبث الأمر هكذا حتى أدركه مؤلفوأسفار "يوبانشاد" فتناولوا هذه المشكلات بالحل ، وهذه الإشارات بالتوضيح ، فكان ما أخرجوه في ذلك أدل نتاج على العقل الهندوسي ، بل لعله أعظم نتاج أخرجه ذلك العقل.


نطق شوبنهور: "إنك لن تجد في الدنيا كلها دراسة تفيدك وتعلوبك أكثر مما تفيدك وتعلودراسة أسفار يوبانشاد ، لقد كانت سلواي في حياتي- وستكون سلاوي في موتي" فلوإستثنيت النتف التي خلفها لنا "فتاح حوتب" (المصري) في الأخلاق ، كانت أسفار اليوبانشاد أقدم أثر فلسفي ونفسي موجود لدى البشر، ففيها مجهود بذله الإنسان دقيق دؤوب ، يدهشك بدقته وما إقتضاه من دأب ، محاولاً حتى يفهم العقل وأن يفهم العالم وما بينهما من علاقة ، إذا أسفار اليوبانشاد قديمة قدم هومر ، ولكنها كذلك حديثة حداثة "كانت". والحدثة مؤلفة من مبترين "يوبا" ومعناها "بالقرب" و"شاد" ومعناها "يجلس" ، ومن "الجلوس بالقرب" من المفهم ، انتقل معنى الحدثة حتى أصبح يطلق على الممضى الغامض الملغز الذي كان يسره المفهم إلى خيرة تلاميذه قابلتم إليه ، وفي الأسفار مائة وثمان محاورات مما جرى بين المفهم وتلاميذه ، ألفها كثير من القديسين والحكماء بين عامي 800 و500 ق.م ، وهي لا تحتوي على ممضى فلسفي متسق الأجزاء ، بل تحتوي على آراء وأفكار ودروس لرجال عدة ، كانت الفلسفة والدين عندهم ما يزاولان موضوعاً واحداً ، وقد حاول هؤلاء الرجال بهذه الآراء حتى يفهموا الحقيقة البسيطة الجوهرية التي تكمن وراء كثرة الأمور الظاهرة ، حتى إذا ما فهموا أنفسهم بها توحيداً يحوطه إجلال الورع ، وهذه الأسفار كذلك مليئة بالسخافات والمتناقصات ، وهي في بعض مواضعها هنا وهناك تتسلف الإتجاه الذي سار فيه "هجل" فيما بعد بكل ما نطقه من لغوالحديث ، وأحياناً فيها عبارات غريبة غرابة الصيغ التي يستعملها "توم سواير" في معالجته للزوائد الجلدية عند سقماه ، ولكنها أحياناً أخرى تعرض عليك ما قد تظنه أعمق ما ورد في تاريخ الفلسفة من ضروب التفكير. إننا نفهم أسماء مؤلفي هذه الأسفار لكننا لا نفهم من حياتهم شيئاً إلا ما يكشفون لنا عنه حيناً بعد حين في ثنايا تعاليمهم ، وأبرز شخصيتين بين هؤلاء هما: "ياجنافالكيا" الرجل و"جارجي" المرأة التي لها شرف الإنخراط في سلك أقدم الفلاسفة ، وقد كان "ياجنافالكيا" أحد لساناً من زميلته ، ونظر إليه زملاؤه نظرهم إلي مجدد خطر ، ثم اتى الخلف فإتخذ ممضىه أساساً للعقيدة السليمة التي لا يأتيها الباطل ، وهويحدثنا كيف من الممكن أن حاول حتى يهجر زوجتيه ليكون حكيماً راهباً ، وأننا لنلمس في راتى زوجته "ميتريى" له حتى يأذن لها بصحبته ، كم كان شغف الهند مدى قرون طوال بمتابعة التفكير في الفلسفة والدين.

"وبعدئذ كان ياجنافالكيا" على وشك حتى يبدأ لوناً جديداً من ألوان الحياة. نطق ياجنافالكيا: "ميتريى! أنظري ، فأنا على وشك الرحيل من هنا لأجوب أقطار الأرض ، فأصغيا إليّ أنت و"كاتيايانى" أقل لكما قولاً أخير". وهنا تحدثت ميتريي: إذا ملئت لي هذه الأرض كلها الآن يا مولاي بالغني ، أأكون بهذا كله بين الخالدين؟" ، فأجابها ياجنافالكيا: "كلا! كلا! يستحيل حتىقد يكون الثراء طريق الخلود". وهنا تحدثت ميتريي : "فماذا عساي حتى أصنع بمال لا يخلدني،يا ترى؟ اشرح لي يا مولاي جميع ما تفهمه".

وموضوع أسفار اليوبانشاد هوجميع السر في هذا العالم الذي عز على الإنسان فهمه: "فمن أين جئنا ، وأين نقيم، والى أين نحن ذاهبون،يا ترى؟ أيا من يعهد "براهمان" نبئنا من ذا أمر بنا فإذا نحن هاهنا أحياء.. أهوالزمان أم الطبيعة أم الضرورة أم المصادفة أم عناصر الجو، ذلك الذي كان سبباً في وجودنا ، أم السبب هومن يسمي "بوروشا"- الروح الأعلى،يا ترى؟ ، لقد ظفرت الهند بأكثر من نصيبها العادل من الرجال الذين لا يريدون من هذه الحياة "ما لا يعد بألوف الألوف ، وإنما يريدون حتى يجدوا الجواب عما يسألون" ، فتقرأ في سفر "ميتريى" من أسفار يوبانشاد عن ملك خلف ملكه وضرب في الغابة متقشفاً زاهداً ، لعل عقله بذلك حتى يصفوا ليفهم ، فيجد حلاً للغز هذا الوجود، وبعد حتى قضى الملك في كفارته ألف يوم ، اتىه حكيم "عالم بالروح" ، فنطق له الملك: "أنت ممن يفهمون طبيعة الروح الحقيقية ، فهلا أنبأتنا عنها؟" فنطق الحكيم منذراً: "إختر لنفسك مآرب أخرى" لكن الملك يلح ، ويعبر في فقرة- لابد حتى تكون قد لاءمت روح شوبنهاور وهويقرؤها- عن ضيقه بالحياة ، وخوفه من العودة إليها بعد موته ، ذلك الخوف الذي تمتد جذوره في جميع ما تطرب به رءوس الهندوس من خواطر وأفكار ، وهاك هذه الفقرة: "سيدي ، ما غناء إشباع الرغبات في هذا الجسد النتن المتحلل ، الذي يتألف من عظم وجلد وعضل ونخاع ومنيّ ودم ومخاط ودموع ورشح أنفي وبراز وبول وفساء وصفراء وبلغم،يا ترى؟ ما غناء إشباع الرغبات في هذا الجسد الذي تملؤه الشهوة والغضب والجشع والوهم والخوف واليأس والحسد والنفور مما تنبغي الرغبة فيه والإقبال على ما يجب النفور منه ، والجوع والظمأ والعقم والموت والسقم والحزن وما إليها،يا ترى؟ وكذلك نرى هذا العالم كله يتحلل بالفساد كما تتحلل هذه الحشرات الضئيلة وهذا البعوض وهذه الحشائش وهذه الأشجار التي تنموثم تذوي... وإني لأذكر من كوارث جفاف المحيطات الكبرى وسقوط قمم الجبال وإنحراف النجم القطبي رغم ثباته ... وطغيان البحر على الأرض .. .في هذا الضرب من تعاقب أوجه الوجود. ما غناء إشباع الرغبات ، مادام بعد إشباع الإنسان لها ، سيعود إلى هذه الأرض من حديث مرة بعد مرة"،يا ترى؟ وأول تفهم سيفهمه حكماء اليوبانشاد لتلاميذهم المخلصين هوقصور العقل ، إذ كيف من الممكن أن يستطيع هذا المخ الضعيف الذي تتعبه عملية حسابية صغيرة حتى يطمع في حتى يدرك يوماً هذا العالم الفسيح المعق د، الذي ليس مخ الإنسان إلا ذرة عابرة من ذراته،يا ترى؟ وليس معنى ذلك حتى العقل لا خير فيه، بل إذا له لمكانه متواضعة، وهويؤدي لنا أكبر النفع إذا ما عالج الأمور المحسوسة وما بينها من علاقات ، أما إذا ما حاول فهم الحقيقة الخالدة ، اللانهائية ، أوالحقيقة في ذاتها ، فما أعجزه من أداة! فإزاء هذه الحقيقة الصامتة التي تكمن وراء الظواهر كلها نادىمة لها ، والتي تتجلى أمام الإنسان في وعيه ، لابد لنا من عضوآخر ندرك به ونفهم ، غير هذه الحواس وهذا العقل "فلسنا ندرك "أتمان" (أي روح العالم) بالتحصيل ، لسنا نبلغه بالنبوغ وبالإطلاع الواسع على الخط .. .فليطرح البرهمي الفهم ليجعل من نفسه طفلاً ... لا يبحثن البرهمي عن حدثات كثيرة ، لأنها ليست سوى عناء يشق به اللسان" ، فأعلى درجات الفهم- كما كان سبينوزا يقول- هوالإدراك المباشر ، أونفاذ الرأي إلى صميم الأمر بغير درجات وسطى ، إنه-كما كان الرأي عند برجسون- هوالبصيرة ، التي هي بصر باطني للعقل الذي أغلق- متعمداً- جميع أبواب الحس الخارجي ما إستطاع إلى ذلك من سبيل حتى "براهمان" الواضح بذاته ، قد تخلل فتحات الحواس من داخل حتى لقد إستدارت هذه الفتحات إلى الخارج ، ومن ثم كان الإنسان ينظر في الخارج ، ولا ينظر إلى نفسه في داخل نفسه ، أما الحكيم الذي يغلق عينيه ويلتمس لنفسه الخلود ، فيرى النفس في دخيلته". فإذا ما نظر الإنسان إلى طوية نفسه ولم يجد شيئاً على الإطلاق ، فذلك لا يقوم إلا على دقة إستبطانه ، لأنه لا يجوز لإنسان حتى يتسقط مشاهدة الأبدي في نفسه إذا كان غارقاً في الظواهر وفي الجزئيات ، فقبل حتى يحس الإنسان هذه الحقيقة الباطنية ، ينبغي له أولاً حتى يطهر نفسه تطهيراً تاماً من أدران العمل والتفكير ، ومن جميع ما يضطرب به الجسد والروح ، يجب حتى يصوم الإنسان أربعة عشر يوماً ، لا يشرب إلا الماء ، وعندئذ يتضور العقل جوعاً - إذا صح هذا التعبير- فيخلد إلى سكينة وهدوء ، وتتطهر الحواس وتسكن ، وكذلك تهدأ الروح هدوءاً يمكنها من الشعور بنفسها وبهذا المحيط الخصم من الأرواح ، التي ليست هي إلا جزءاً منه ، وبعدئذ لا يعود الفرد موجوداً بإعتباره فرداً ، ويظهر "الإتحاد وتظهر الحقيقة الذاتية" لأن الرائي لا يرى في هذه الرؤية الداخلية النفس الفردية الجزئية ، فتلك النفس الجزئية إذا هي إلا سلسلة من حالات مخية أوعقلية ، إذا هي إلا الجسم منظوراً من الداخل ، إنما يبحث الباحث عن "أتمان" نفس النفوس كلها ، وروح الأرواح كلها ، والمطلق الذي لا مادة له ولا صورة ، والذي ننغمس فيه بأنفسنا جميعاً إذا نسينا أنفسنا جميع النسيان. تلك إذن هي المستوى الأولى في "الممضى السري": وهي حتى جوهر النفس فينا ليس هوالجسم، ولا هوالعقل ، ولا هوالذات الفردية ، ولكنه الوجود العميق الصامت الذي لا صورة له ، الكامن في دخيله أنفسنا، هو"أتمان" ؛ وأما المستوى الثانية فهي "براهمان" وهوجوهر العالم الواحد الكامل الذي لا هوبالذكر ولا هوبالأنثى غير المشخص في صفاته ، المحتوي لكل شيء والكامن في جميع شيء ، الذي لا تدركه الحواس، هو"حقيقة الحقيقة" هوالروح الذي لم يولد ولا يتحلل ولا يموت ، حتى "أتمان" الذي هوروح الأمور كلها، هوروح الأرواح كلها ، هوالقوة الواحدة التي هي وراء جميع القوى وجميع الآلهة ، وتحت جميع القوى وجميع الآلهة، وفوق جميع القوى وجميع الآلهة. ثم سأله فيداجاداساكايلا قائلاً: كم عدد الآلهة ياجنافالكيا،يا ترى؟ فأجابه: "عددهم هوالمذكور في "الترنيمة للآلهة جميعاً":

فهم ثلاثمائة وثلاثة ، وهم ثلاثة آلاف وثلاثة".

نعم ، ولكن كم عدد الآلهة على وجه اليقين ياجنافالكيا،يا ترى؟ عددهم ستة.

نعم ، ولكن كم عدد الآلهة على وجه اليقين ياجنافالكيا،يا ترى؟

هما إثنان.

نعم ولكن كم عدد الآلهة على وجه اليقين ياجنافالكيا،يا ترى؟

إله ونصف إله.

نعم ولكن كم عدد الآلهة على وجه اليقين ياجنافالكيا،يا ترى؟

إنه إله واحد.

والمستوى الثالثة من أبرز المراحل جميعاً: "أتمان" و"براهمان" إذا هما إلا إله واحد بعينه ، إذا الروح (اللافردية) أوالقوة الكائنة فينا هي هي بعينها روح العالم غير المشخص ، إذا أسفار يوبانشاد لا تدخر وسعاً في هجريز هذا الممضى في عقل طالب العقيدة ، فما تزال تكرره وتعيده لا تمل له تكراراً وإعادة وإن قل ذلك السامعون ، عملى الرغم من جميع هذه الصور الكثيرة وهذه الأقنعة الكثيرة ، فإن هوذاتي وموضوعي شئ واحد ، الإنسان في حقيقته التي تتجرد من الفردية ، هوهوبعينه الله بإعتباره جوهراً للكائنات جميعاً ، يوضح ذلك مفهم في تشبيه مشهور:

هات لي تينة من ذلك التين

هذه هي يا مولاي

إقسمها نصفين

هاأنذا قد قسمتها يا مولاي

ماذا ترى هناك،يا ترى؟

أرى هذه الحبيبات الدِقّاق يا مولاي

تفضل فاقسم حُبيبة منها نصفين

هاأنذا قد قسمتها يا مولاي

ماذا ترى هناك،يا ترى؟

لست أرى شيئا على الإطلاق يا مولاي

حقاً يا ولدي العزيز ، إذا هذا الجوهر الذي هوأدق الجواهر والذي لا تستطيع رؤيته

حقاً إنه من هذا الجوهر الذي هوأدق الجواهر قد نبتت هذه الشجرة العظيمة،

فصدقني يا ولدي العزيز ، إذا روح العالم هوهذا الجوهر الذي ليس في دقته جوهر سواه

هذا هوالحق في ذاته

هذا هو"أتمان" ، هذا هوأنت يا شاوناكيتو

هل لك حتى تزيدني بالأمر فهماً يا مولاي،يا ترى؟

ليكن لك يا ولدي العزيز.


هذا التقابل بين "أتمان" و"براهمان" وما ينشأ عن تلاقيهما في حقيقة واحدة- الذي يكادقد يكون تطبيقاً للتقابل الديالكتيكي عند هجل- هوصميم أسفار اليوبانشاد ، وكثير غير هذا من الدروس نصادفه في هذه الأسفار ، لكنها دروس فرعية بالقياس إلى ذلك ، ففي هذه المحادثات نرى عقيدة تناسخ الأرواح قد تم تكوينها ، كما نرى الشقوق إلى الخلاص من هذه الدورات التناسخية الفادحة ، فهذا هو"جاناكا" ملك "الفيديها" يتوسل إلى "ياجنافالكيا" حتى ينبئه كيف من الممكن أن يمكن التخلص من العودة إلى الولادة من حديث ، ويجيب "ياجنافالكيا" بشرح "اليوجا" (أي رياضة النفس) فيقول: إذا إقتلع الإنسان بالتزهد جميع شهوات نفسه ، لم يعد هذا الإنسان فرداً جزئياً قائماً بذاته ، وأمكنه حتى يتحد في نعيم أسمي مع روح العالم ، وبهذا الإتحاد يخلص من العودة إلى الولادة من حديث ، وهنا نطق له الملك الذي غلبته حكمه الحكيم على أمره ، نطق "أي سيدي الكريم ، إني سأعطيك شعب الفيديها وسأعطيك نفسي ، لنكون لك عبيداً" ، وإنها لجنّة صارمة تلك التي يعدها "ياجنافالكيا" ذلك الملك المتبتل ، لأن الفرد هناك لن يشعر بفرديته ، بل جميع ما سيتم هنالك هوإمتصاص الفرد في الوجود ، هوعودة الجزء إلى الإتحاد بالكل الذي إنفصل عنه حيناً من الدهر ، " فكما تتلاشى الأنهار المتدفقة في البحر ، وتفقد أسماءها وأشكالها ، فكذلك الرجل الحكيم إذا ما تحرر من إسمه وشكله ، يفنى في الشخص القدسي الذي هوفوق الجميع". مثل هذا الرأي في الحياة والموت لن يصادف قبولاً عند الغربي الذي تتغلغل الفردية في عقيدته الدينية كما تتغلغل في أنظمته السياسية والإقتصادية ، لكنه رأي إقتنع به الهندوسي الفيلسوف اقتناعاً يدهشك بإستمراره وإتصاله ، فسنجد هذه الفلسفة التي وردت في اليوبانشاد- هذا اللاهوت التوحيدي ، هذا الخلود الهندي من بوذا إلى غاندي ، ومن ياجنافالكيا إلى طاغور ، فأسفار اليوبانشاد قد ظلت للهند إلى يومنا هذا بمنزلة العهد الجديد للأقطار المسيحية - ممضىاً دينياً سامياً- يمارسه الناس أحياناً ، لكنهم يجلّونه بصفة عامة ، بل إذا هذه الفلسفة اللاهوتية الطموحة لتجد حتى في أوربا وأمريكا ملايين بعد ملايين من الأتباع ، من نساء مللن العزلة ورجال أرهقهم التعب ، إلى شوبنهور وإمرسن ، فمن ذا كان يظن حتى الفيلسوف الأمريكي العظيم الذي نادى إلى الفردية سيجري قلمه بتعبير تام للعقيدة الهندية بأن الفردية وهم من الأوهام،يا ترى؟


براهما

إذا افترض القاتل المخضب بدماء قتيله أنه القاتل

أوإذا افترض القتيل أنه قتيل

فليسا يدريان ما اصطنع من خفي الأساليب

فأحفظها لدي ، ثم أنشرها ، ثم أعيدها

البعيد والمنسي هوإليّ قريب

والظل والضوء عندي سواء

والآلهة الخفية تظهر لي

وشهرة الإنسان بخيره أوبشره عندي سواء

إنهم يخطئون الحساب من يخرجونني من الحساب

إنهم إذا طيروني عن نفوسهم فأنا الجناحان

إنهم إذا شكوا في وجودي فأنا الشك والشاك معاً

وأنا الترنيمة التي بها البراهمي يتغنى.


انظر أيضاً

  • Sanskritization
  • Hinduism in Southeast Asia
  • Indies

الهامش

المصادر

  • ول ديورانت. سيرة الحضارة. ترجمة بقيادة زكي نجيب محمود. Unknown parameter |coauthors= ignored (|author= suggested) (help)
  • Ali, Jason R.; Aitchison, Jonathan C. (2005), "Greater India", Earth-Science Reviews 72 (3-4): 169–188, doi:10.1016/j.earscirev.2005.07.005 .
  • Azurara, Gomes Eannes de (1446), Chronica do Discobrimento e Conquista de Guiné (eds. Carreira and Pantarem, 1841), Paris .
  • Bayley, Susan (2004), "Imagining ‘Greater India’: French and Indian Visions of Colonialism in the Indic Mode", Modern Asian Studies 38 (3): 703–744, doi:10.1017/S0026749X04001246 .
  • Beazley, Raymond (1910), "Prince Henry of Portugal and the Progress of Exploration", The Geographical Journal 36 (6): 703–716, http://links.jstor.org/sici?sici=0016-7398%28191012%2936%3A6%3C703%3APHOPAT%3E2.0.CO%3B2-J .
  • Caverhill, John (1767), "Some Attempts to Ascertain the Utmost Extent of the Knowledge of the Ancients in the East Indies", Philosophical Transactions 57: 155–178 
  • Guha-Thakurta, Tapati (1992), The making of a new ‘Indian’ art. Artists, aesthetics and nationalism in Bengal, c. 1850–1920., Cambridge, UK: Cambridge University Press .
  • Handy, E. S. Craighill (1930), "The Renaissance of East Indian Culture: Its Significance for the Pacific and the World", Pacific Affairs 3 (4): 362–369, http://links.jstor.org/sici?sici=0030-851X%28193004%293%3A4%3C362%3ATROEIC%3E2.0.CO%3B2-L .
  • Keenleyside, T. A. (1982), "Nationalist Indian Attitudes Towards Asia: A Troublesome Legacy for Post-Independence Indian Foreign Policy", Pacific Affairs 55 (2): 210–230, http://links.jstor.org/sici?sici=0030-851X%28198222%2955%3A2%3C210%3ANIATAA%3E2.0.CO%3B2-3 .
  • Majumdar, R. C., H. C. Raychaudhuri, and Kalikinkar Datta (1960), An Advanced History of India, London: Macmillan and Co., 1122 pages .
  • Narasimhaiah, C. D. (1986), "The cross-cultural dimensions of English in religion, politics and literature", World Englishes 5 (2-3): 221–230, doi:10.1111/j.1467-971X.1986.tb00728.x .
  • Thapar, Romila (1968), "Interpretations of Ancient Indian History", History and Theory 7 (3): 318–335, http://links.jstor.org/sici?sici=0018-2656%281968%297%3A3%3C318%3AIOAIH%3E2.0.CO%3B2-%23 .
  • Wheatley, Paul (1982), "Presidential Address: India Beyond the Ganges--Desultory Reflections on the Origins of Civilization in Southeast Asia", The Journal of Asian Studies 42 (1): 13–28, http://links.jstor.org/sici?sici=0021-9118%28198211%2942%3A1%3C13%3APAIBTG%3E2.0.CO%3B2-Z .

للاستزادة

  • Language variation: Papers on variation and change in the Sinosphere and in the Indosphere in honor of James A. Matisoff, David Bradley, Randy J. LaPolla and Boyd Michailovsky eds., pp. 113–144. Canberra: Pacific Linguistics.
  • Ankerl, Guy. Global communication without universal civilization. INU societal research. Vol.1: Coexisting contemporary civilizations : Arabo-Muslim, Bharati, Chinese, and Western. Geneva: INU Press. ISBN .

وصلات خارجية

  • Greater India - Suvarnabhumi
  • Papers on variation and change in the Sinosphere and in the Indosphere in honour of James A. Matisoff
  • Language diversity: Sinosphere vs. Indosphere
  • Himalayan Languages Project
  • Rethinking Tibeto-Burman -- Lessons from Indosphere
  • Areal linguistics and Mainland Southeast Asia
  • THEORIES OF INDIANIZATION Exemplified by Selected Case Studies from Indonesia (Insular Southeast Asia), by Dr. Helmut Lukas
تاريخ النشر: 2020-06-04 12:30:31
التصنيفات: All articles with unsourced statements, Articles with unsourced statements from October 2009, Articles with invalid date parameter in template, Portal templates with all redlinked portals, Pages with citations using unsupported parameters, CS1: long volume value, دوائر النفوذ الثقافية, حضارة هندية, العلاقات الخارجية للهند, جغرافيا الهند, ثقافة جنوب آسيا, ثقافة جنوب شرق آسيا

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

مباشر.. ندوة صحفية للناطق الرسمي باسم الحكومة

المصدر: كِشـ24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-03 15:15:20
مستوى الصحة: 41% الأهمية: 37%

توقيف مجرم خطير كان في حالة فرار متورط في قضايا اجرامية بالزبوجة

المصدر: صوت الشلف - الجزائر التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2022-03-03 12:25:06
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 65%

37.1 مليار جنيه مصري إجمالي إيرادات المصرية للاتصالات

المصدر: الرئيس نيوز - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-03 12:24:58
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 68%

الحكومة تنفى وجود نقص فى السلع الأساسية بالأسواق

المصدر: الرئيس نيوز - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-03 12:24:54
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 62%

بايتاس: المغرب خصص 5 رحلات لإجلاء أزيد من 3000 مغربي بأوكرانيا

المصدر: كِشـ24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-03 15:15:18
مستوى الصحة: 36% الأهمية: 44%

"مرسيدس بنز" توقف صادراتها إلى روسيا بسبب الأزمة الأوكرانية

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-03 12:24:37
مستوى الصحة: 53% الأهمية: 59%

"مرسيدس بنز" توقف صادراتها إلى روسيا بسبب الأزمة الأوكرانية

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-03 12:24:36
مستوى الصحة: 48% الأهمية: 51%

القصير يبحث مع رئيس الحجر الزراعي العماني آليات التبادل التجاري

المصدر: الرئيس نيوز - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-03 12:25:03
مستوى الصحة: 49% الأهمية: 54%

ماكرون سيعلن ترشحه للرئاسة

المصدر: كِشـ24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-03 15:15:17
مستوى الصحة: 41% الأهمية: 35%

موعد عيد الفطر 2022 وكيفية أداء صلاة العيد الصغير

المصدر: الرئيس نيوز - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-03 12:24:57
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 52%

«برنت» يتجاوز 120 دولارا للبرميل /عاجل

المصدر: صحيفة اليوم - السعودية التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2022-03-03 12:25:17
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 37%

تدشين العيادات الطبية المتنقلة في الجوف

المصدر: صحيفة اليوم - السعودية التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2022-03-03 12:25:14
مستوى الصحة: 36% الأهمية: 36%

مقلد: استقبلنا ٥٠ طلبا مصريات من أوكرانيا بالنادي المصري بالنمسا

المصدر: الرئيس نيوز - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-03 12:24:56
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 70%

الحكومة تصادق على مقترحي تعيين في مناصب عليا

المصدر: كِشـ24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-03 15:15:18
مستوى الصحة: 34% الأهمية: 36%

مطار مراكش يستقبل 5250 مسافر من اوروبا وتركيا اليوم

المصدر: كِشـ24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-03 15:15:20
مستوى الصحة: 36% الأهمية: 38%

تحميل تطبيق المنصة العربية